يحدث في التاريخ أن يُخنقَ الواقعي، يُكبَت، ويبقى سجينَ طوق، لكنه ينتهي دائماً بالعودة بعنف إلى المشهد. الحقائق الأولية والعناصر المكونة للمجتمع الجزائري، سواء في مجال التمثيل الرمزي والتعبير السياسي أو في مجال المؤسسات، كل ذلك ستدخل الجزائر المستقلة في أزمة.
في سياق الاستقلالات ـ ما قد يسمّيه الأنغلو ساكسون «ما بعد الاستعمار» ـ تبقى أسئلة كيفية الخروج من هذا الشرخ بين عالمين، بين تنظيمين، ذاك الذي للمستعمَر وذلك الذي للمستعمِر. كيفية التخلص من وضعية الخضوع التي حُبس فيها المفعول به لمدة طويلة. يقول فانون (في «معذبو الأرض») إنه من الوهم اعتبار أن التحرير وحده يكفي للتحرّر من العبودية التي خلقتها الهيمنة الاستعمارية. من الطوباوي في واقع الأمر الاعتقاد أن التحرير السياسي كافٍ بحد ذاته لتغيير المواقف، مروراً من وضع خاضعٍ «مُسْكَت» إلى وضع مواطن «حرّ» ملتزم بعيش مشترك. فكر فانون حول هذه المسألة أساسي وصالح أكثر من أي وقت مضى. يقول في الجوهر «يجب على الشعوب المستعمَرة التي نُهبت، أن تتجرّد من الموقف الذهني الذي وسمها حتى الآن».
ولكن الأمور لا تمتلك معناها كبديهة بحتة. تقول كريمة لازالي: إن تحرير شعب، مثلما هو الحال مع تحرير الفرد، يمكن أن يكون فرصة خارقة للعادة، ولكن يمكنه أيضاً أن يدفع إلى اليأس (...) يتعلق الأمر بامتحان من القلق، لأن الهوية الأولى التي فرضها الآخر تسقط وتوقظ بهذا العمل التأسيسي قدراً كبيراً من القلق أو حتى فجوة واسعة في «الشعور بالذات» أي الهوية. يمكن لهذا القلق المحرَّر أن ينفتح على مستقبل جديد وخلاّق، غير أنه يحمل أيضاً خطر استعادة الوضع السابق، من خلال تمديد وضعية الهيمنة، التي تريد أن تكون مطمْئنة، لكونها مألوفة. يأخذ المهيمِن في هذه الحال مكانه داخل الذات وينسج الرابط الاجتماعي، آمراً مرة أخرى بتواصل استعباد مشابه ( «الفاعل أمام التاريخ. بعض الأفكار حول وضع الجزائر انطلاقاً من الفكر الفانوني»، في «La célibataire» العدد 20، 2010).
حول هذه المسألة بالذات، مسألة عودة المكبوت، المهْمَل، وظهور جديد لعوامل مخزَّنة في دهاليز المعرفة، «مختبئة في اللامفتكر أو في الذاكرة» (وفق تعبير نستعيره هنا من أليس شركي)، تظهر من جديد ـ وفجأة ـ إشكاليات الخضوع والإخضاع لسلطة استبدادية، معلّقة لفترة. وصف محمد الناجي جيداً
(في «الفاعل والمملوك ـ السلطة والدين في العالم العربي» منشورات فايار، باريس، 2007)، الموروثات التاريخية التي أهملت ـ لبعض الوقت والمتعلقة بالسيطرة الاستعمارية ـ وأُبقيت على أطراف القوى الجديدة المركزية، قُزّمت وأوقفت عند حدّها بفضل فوهة بندقية. الافتراضات المسبقة لعلاقة السلطة التي وُجدت قبل الهيمنة الاستعمارية. وذكر في فصل معنون «خلف الفاعل العبد» أنه ـ حسب بعض الرواة ـ فإن المملكة تعني «سلطة المَلِك وسطوته على رعاياه»، فتبرز بذلك الرابط الذي يجمعهم، والتي تعبر عنها مفردة «العبودية». ويرتبط اللفظ ارتباطاً وثيقاً بالاستعباد، وبشكل عام، في تمثيلات ذلك العهد، ترتبط القيادة بالقوة والسيطرة على الناس. لفظة «حكيم»، وهو «ممثل السلطة»، مشتقة من «حكاماتو» hakamatu الذي يعني وثاقاً من المعدن معلقاً على طوق ومثبّت على أنف حيوان. هذا المصطلح مستخدم في التراث النبوي لتوضيح علاقة الناس بالله: «لا يوجد رجل غير ملزم بوثاق». ويفترض مثل هذا التحكم رابطاً شديد الجبرية.
ومن الواضح هنا أن تعريف السلطة وممثل السلطة، وعلاقة السيد برعاياه، لا تختلف عن النظريات الكلاسيكية للدولة في العالم الغربي قبل «الإصلاح» و«العصر الحديث». نجد ذلك في مفاهيم المُلك dominium والحكم imperium من العصر الكلاسيكي للفكر. ولكن يلاحظ أيضا هنا أنها تظل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالموروث النبوي، وبالتالي برسوخ نسبي للعامل الديني في المُفكَّر فيه وفي فعل المجتمعات حيث الإسلام مهيمن.
وهكذا يضيف الناجي إلى تعريف الأمير هذا التلازم أو التشابه اللغويَّين: الكلمة التي ينطق بها السيد والكلام النبوي: «الصمت هو القاعدة، الكلمة الشرعية هي كلمة الملك. وبإخْضاعه الرعية إلى الكلمة التي لا جدال فيها، عزز النموذج التسلطي الإسلامي كما بُني، هذا الامتياز الخاص بالملوك. هذا التكريس بديهي في النموذج النبوي: «يا أيُّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي».
من الممكن أن يعترض فيُقال بأن مثل هذه المرجعيات قد لا تطبَّق على مجتمعات مثل الجزائر تعرّضت للقلب، بسبب وجود نمط إنتاج رأسمالي استعماري. ربما حافظ المغرب في ظل الانتداب الفرنسي على هياكل السلطة الملكية المستندة إلى مبدأ الحق الإلهي، وربما كانت الجزائر كمقاطعة عثمانية ممثلة منذ القرن السادس عشر بسلطة لا تمتّ إلى الأهالي بصلة، وضعيفة الشرعية، قد بدأت التشكيك في السلطة السيّدة المبنية على الخلافة.. وربما ــ أخيراً ــ تضافرت المقاومة الطويلة للاحتلال الاستعماري وحرب التحرير لتفكيك الهياكل القديمة، لتوليد مبدأ التساوي في الشروط، حيث يرى كل شخص نفسَه صاحب حق في السلطة.
يمكن أن نردّ بأن هياكل اللغة المدمِجة بين ما هو ديني وأنماط الفكر الديني الموروث على المدى الطويل، تنتمي إلى زمانية أخرى تواصل التأثير على العقول وتعبئة الجماهير. نرى، هكذا إذاً، تضافر «رجعتين»، تلك التي حددناها أثناء حديثنا عن الموروث الكولونيالي، وتلك التي تعيد احتلال مركز سبق وإن أبْعِدت عنه عندما طُرد الآخر، المحتلّ، خارج الحدود.
إنها أزمة خطيرة يُعبِّر عنها بروز حركات عنيفة وأشكال تعبير مضادة للسلطة، تبدو لأول وهلة كمفارقة، لاعقلانية في أسوأ الحالات، وغير مفهومة إلى درجة أنه لم يُتنبّأ بقدومها.
«الاعتياش» كمقاومة
هنا يُطرح، بالأساس، سؤال عن العناصر المكوِّنة للحقل الدلالي، أو «الإبيستيميا». من الضروري العودة إلى الوقائع خلال تجلّيها المباشر، في مدة وجودها وفي أشكالها التطورية. وليس هذا فحسب لصنع «الحدثية» أو التاريخ بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ولكن - وعلى وجه الخصوص - في محاولة صناعة وسائل تحليل أكثر تطابقاً مع مواضيعها الخاصة.
تجب العودة إلى نقطة الانطلاق. كان الاستعمار أولاً وقبل كل شيء سيرورة عنيفة لمصادرة الملكيات. في دراستي حول تطور الملكية العقارية في السهول الداخلية لمنطقة وهران («الملكية ورأس المال»، كراسات معهد العلوم الاقتصادية، العدد 3 «اقتصاد كولونيالي»، الجزائر 1984)، أدركت واقعة أنه في سياق طويل جداً من مصادرة الملكية، وتهجير السكان من مناطقهم، ووضعهم في محاظر أو معسكرات، في سيرورة الإفقار الشامل هذه، كانت تشكل لدى الفلاحين الجزائريين تدابير للبقاء على قيد الحياة («اعتياش») والتي كانت فعلياً شكلاً من أشكال المقاومة. وفي مواجهة انحلال أشكال التملك الجماعية والتبادل والاستهلاك، لمصلحة السوق الرأسمالي الاستعماري، ازدادت الأشكال الجماعية في الإنتاج والتبادل والاستهلاك. لدينا تاريخ مزدوج: إنشاء نمط للإنتاج والتبادل التجاري الاستعماري الرأسمالي، وبالتوازي معه إنشاء نظام تشارك، «اعتياش»، لتجنّب التفكك الكامل، والبؤس والمجاعة.
أنتج النظام الاستعماري أعواناً اجتماعيين جدداً، عمالاً وموظفين، وأشكالاً خاصة للفردانية، ولكنه أنتج أيضاً أشكالاً مجتمعاتية وجماعية لم تكن أبداً من بقايا استمرار التقاليد.
وبدلاً من الاعتماد على التأريخ الرسمي الفرنسي الاستعماري وثنائيته: الحديث/ التقليدي، حاولتُ أن أبين أن هذه الأشكال المسمّاة «تقليدية» هي التعبير ذاته عن الحداثة. وسوف تكون هنا، في انتظار أشكال تمثيل سياسي واجتماعي وأيديولوجي ملائمة. وهي تبدو لي الأشكال الجماعية والمجتمعية للردّ على انتزاع الملكية والسحق.
هناك إذاً تاريخان: تاريخ النظام الاستعماري وتاريخٌ للنظام المضاد له.. في الجوهر، لم تعُدْ سبل البحث الجديدة تنطبق على حقل التاريخ الرسمي الاستعماري وعلى حقله الدلالي. وهنا يأخذ تقاطع المقاربات والمنهجيات معناه الكامل: سنبحث في الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع عما لا يقدّمه التأريخ الرسمي الكلاسيكي، أو يحرّفه في لغته ومعجمه، في تخصّصه الأكاديمي.
مسألة الفرد كموضوع واعٍ وفعّال
كان العقدان الأخيران مأساويين في تاريخ الزمن الحاضر. في الجزائر، هزت ارتجاجات المشهد الجوانب الاجتماعية والسياسية إلى درجة التعرض لخطر انهيار حقيقي لبناء دولة وأمة ذات سيادة اكتسبت بعد دفع ثمن غال جداً. وقد بدت لي مركزية مسألة وفرة الفوضى، فوضى نظام مادي من المستحيل المحافظة عليه. وسعيد شيخي، وهو فيلسوف وعالم اجتماع مختص بالحركة الاجتماعية، كان أول من أدرك جوانب أزمة ستعرف أوجهها عند اندلاع أحداث 1988 (انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988)، وسيقول حينها: «لقد أغمي على البلد كله في سياق الأزمة. وبات المجتمع بلا بوصلة، والعلاقات الاجتماعية في كامل تفككها، وخطابات ممتهني السياسة والمثقفين جوفاء، ومشهد الحركة الاجتماعية فارغ» («نقابة وطبقة عمالية»، في «حركة اجتماعية وحداثة»، دورية نقد، الجزائر، 2000). ترتسم في تداخل هذه السطور المكتوبة أثناء الزوبعة، جوانب مساءلة نقدية تتعلق بمجتمعنا الخاص.. فكيف يمكن لمجتمع أن تخور قواه، في الواقع، وأن يرى جوهره ينسكب عبر الهوامش، مثل سائل يرشح من مزهرية مكسورة؟ كيف يمكن للقوى الاجتماعية المنظمة أن تتخلى عن كونها فاعلاً إلى درجة عدم القدرة على «قيادة التحول التاريخي»؟ هل القمع الذي تمارسه السلطة السياسية القائمة ضد أي حركة معارضة منظمة، ورفض إضفاء الطابع المؤسسي على الصراع الاجتماعي، كافيين لتفسير هذه الظواهر؟
علينا أن ننظر ثانية إلى مسألة الفاعل، لأن التجريد الذي يوحي بالتعارض الشديد بين الجماعي والفردي، لا يمكن إلا أن يظهر حين الاهتمام بتعريف معنى الوعي الجماعي. إن توهُّم مجتمع/ فاعل (أو شعب/ فاعل) يملك تماسكاً أو على الأقل وعياً ذاتياً مستقلاً عن الفاعلين الفرديين الذين يشكلونه، موضوع يستحق أن يُتطرق إليه. ففي المجالات المتروكة أو الخفية التي هي الاجتماعي والذاتي يمكن إيجاد الانفكاك والتبعثر بالقياس إلى القطب الرمزي. هذه القطيعة في الرابط الاجتماعي، وإنكار الذاتية هذا، سمحا بقياس حجم الأضرار التي جرى التسبب بها، ولكن وأيضاً، الأضرار المستقبلية.
منذ سنوات، بدت مسألة «التراكم البدائي غير المُنجَز»، كـ «انتقال مكبوح»، متروكة لمصلحة قراءة الوقائع التي تأخذ في الاعتبار مفاهيم تداخل أو تشابك مستويات الممارسة والضمير الاجتماعي. علماء الاجتماع كانوا أول من أبرز افتقاد الأشكال القائمة للمعنى، وتبعهم المؤرخون ثم علماء السياسة ثم الأنثروبولوجيون. كان جيلالي اليابس أحد هؤلاء الذين أدركوا هذا الجانب من الأمور: مفهوم التعايش، والتشابك العائد إلى «مجتمع مركب» جعله يفترض أن كل شق» من هذا المجتمع، وكل جانب من جوانب سلوك الأعوان الاجتماعيين ينتظم، حسب زمنية خاصة به. إنه منطق قد يدخل ربما في دائرة الخارجية مع ضروب منطق أخرى («بحثاً عن التماسك» ندوة عن اليابس، 2006 الجزائر).
انطلاقاً من الملاحظة نفسها، وبعد بضع سنوات، استعاد علماء السياسة وجهة هذا التحليل. لقد حاولوا إظهار ـ مع محمد حشماوي مثلاً ـ (في «انفتاح»، مجلة «نقد» العدد 19-20، 2004 ) كيف تتداخل اللعبة السياسية مع اللعبة الاجتماعية، وكيف تتداخل الدولة والمجتمع هيكليًا عن طريق زبائن، وأجهزة، ومجموعات مشتركة تتموضع في كليهما.. وتساءلوا عمّا إذا كنا ـ في نهاية المطاف ـ في الدرب الذي من شأنه أن يقودنا إلى هذا «الفاعل الذي يقود التغيير».. هل يكون ذلك في وهم مجتمع/ فاعل (أو شعب/ فاعل)، وإنما وبالأحرى في كل تلك الهيئات التي يحتويها المجتمع والمؤطرة في الدولة؟
هذا ببضع كلمات ما نعنيه بخلق فضاء لإعادة تأويل الوقائع الاجتماعية بإعطاء الحق للمقاربة النقدية للمعارف القائمة والمستقرّة.
النص جزء ثانٍ من الفصل الختامي للعدد الخاص بالتأريخ من حولية «نقد».