هناك خط فاصل فلسفي وعملي على حد سواء، يقسم الإدراك التاريخي. وهو ليس نتاج التطور المتفاوت في الأبحاث. بل هو يمر بالتمييز / الإقصاء. وبوضوح فلا يوجد سوى فاعل واحد يبلور وينظم ويعرف الماضي والحاضر والمستقبل، ما يجب قوله وما يجب السكوت عنه، ما يجب الاحتفاظ به وما يجب تدميره: إنّه المهيمن.المهيمن عليه، المستعمر (وورثتهم) يرسلون إلى الظلمة، إلى سوية ثانية من الفكر وإلى جزء قليل من الذاكرة. وحينما يطالب واحدهم بأن يكون فاعلا في تاريخه الخاص، يصبح لا يطاق، وغير قابل للإنصات إليه، ويرهب. يقطع.
وللتفكير بهذا من دون محاكمة النوايا، نعطي مثال "الحرْكي". هؤلاء تجسيد جسدي (ومكاني طالما جمعوا في معسكرات جنوب فرنسا في 1962 عند إعلان استقلال الجزائر) لما كان قائما في تفكير "الفرنسيين من أصول أوروبية" أصلا، أي "فرنسيي الجزائر" و"فرنسيي فرنسا". الحركيون أشخاص جزائريون قدّموا مساهمة لفرنسا الاستعمارية، وضحّوا بأنفسهم من أجلها، وهي استفادت منهم كثيرا وامتدحتهم، ولكنهم بقوا معتبرين "فرنسيين من أصول شمال إفريقية". بينما في 1962، مع استقلال الجزائر، بقي "الأقدام السود" الجزائريون (الفرنسيون الذين ولدوا وعاشوا وعملوا في الجزائر أثناء 132 سنة من استعمارها) مواطنين فرنسيين، وظل الحرْكيون "فرنسيون من أصول شمال إفريقية".. إنه التعبير بذاته عن النقص، في الفكر كما في الممارسة السياسية. لقد فشل إدماج هؤلاء السكان الملحَقين كمواطنين فرنسيين "مدمجين" تماماً أو مستوعَبين .
ماذا نقول إذاً عن هؤلاء الذين كافحوا من أجل استقلال بلدهم، ولإعتاقها من الهيمنة الاستعمارية؟ في أحسن الأحوال، وفي السردية التاريخية لليسار الفرنسي، يتم تقديمهم غالبا على أنهم طواغيت صغار محليّون، رؤساء عصابات، وهي سمات منْذِرة بالاستبداد الذي تعاني منه اليوم البلدان التي كانت مستعمَرة سابقا، "ما بعد المستعمرات" حسب الاصطلاح المنسوب إلى الأنغلوساكسون. وإذا كانوا في مكان ما موضوع تاريخهم الخاص، فهم موضوع تاريخ الاستبداد والطغيان وليس تاريخ التحرر والحرية.
وبالنسبة لبعض المؤرخين، فالوطنيون الجزائريون الحقيقيون كانوا شيوعيّي الجزائر. أوروبيون في أغلبيتهم يعيشون في الجزائر أو جزائريين متأوْربين (الذين لم يكن لالتزامهم علاقة بجماعتهم الأولى (القبيلة)، ولا بالمقدس (الديني). أي أنهم وحدهم من كان يحمل فكرة "أمة تسمو فوق الجماعات"،
أمة مواطَنة مسلوخة عن مقدساتها الدينية، أمة لائيكية وتقدمية (أو بروليتارية). في الواقع وخلاصة، هناك فعلياً تاريخان: تاريخ فرنسا الاستعمارية بمؤسساتها ورجالها، وتاريخ الجزائر بمؤسساتها ورجالها.
لا يوجد تاريخ مشترك، ولا سيرورة أنطولوجية (ontologique). هناك تواريخ متلازمة، متجاورة ومتقاطعة.
وبوضوح، فمن الضروري ليس "تحرير التاريخ من الاستعمار"، بل العمل على أن يتمّ المؤرِخون الجزائريون تحرير فكرهم وصنع مقاييسهم.
من أجل إبيستيميا (معرفة) جديدة
تُوَلِّد المستعمَرة بالضرورة ارتباكاً بما أنّها تختص بالإبقاء، داخل البلد المستعمِر، على حدود أقيمت بالقوة، على تمييز من نوع وطني/ أجنبي، وبالأحرى مواطن/ رعية كولونيالي (بحسب إيتيان باليبار)، أو مواطن/لا مواطن، أو ــ أيضا ــ مواطن طرَفي (périphérique ).
ويُظن أن" المؤرخين الفرنسيين الجدد" في فرنسا يدركون خط الفصل هذا. لكنهم في الحقيقة لا يفعلون. هل يعود ذلك إلى وطأة فكر محافِظ مهيمن؟ هل يرجع إلى تضييق مجال الفكر النقدي؟
بالمختصر، تبقى "الجزائر" في العلوم التاريخية والسياسية الفرنسية (الغربية) في مجال تعبير مستخدَم في الوثائق المدنية والعسكرية الفرنسية لتعيين السكان ذوي الأصول الأوروبية.
ينجم القلق من وجود فارق كبير جدا في تراكم المعرفة: في بلداننا، نعاني من عائق شديد، قراءاتنا ليست محدَّثة، إننا في وضع تابع أو قاصر. نطلب دوما أن يُعترف بنا كأنداد، وأن نُقبل في ساحات الكبار. نحتاج إلى وقت أطول لنستطيع بلوغ المستوى، التحدث باللغة نفسها، أو على الأقل استخدام المعجم نفسه، وتبيان أن لدينا المراجع نفسها. المأثرة هي التحدث مثل الآخر. يسمي جان بيار فاي هذا بـ "مفعول الرواية: إيراد السردية هو منح النفس سلطة التقرير، والعلاقة ما بين الفكرة والواقع، والسيطرة على ذلك".
ولكن القيام بأمر مماثل هو أيضا إنفاق في حقل فكر قد يُفقدنا رؤية المجهود الذي يبقى علينا بذله للتحكم ولفهم الافتراضات المسبقة والإبستيميا الخاصة بمجتمع لم يكن له نفس تاريخ ذاك الذي هيمن عليه. وهكذا قد نكون بحكم الضرورة مضطرين، للبحث في إنتاج المعنى، عن مساواة لا تكون ــ حسب إيتيان باليبار- سوى "الاسم الآخر للتشابه"، قد نبقى أبداً "فريسة التنافس المتصف بالمحاكاة".
نحن هنا إذاً، ومرة أخرى، في مواجهة تعذّر متعلق بالتحكم في معرفتين، في روايتين: الرواية التي قد تسمح لنا بمنح تاريخنا الخاص معنى، والمعرفة التي قد تسمح لنا بالتواصل مع الآخر لإعطاء معنى لتاريخه الخاص به. يتعلق الأمر بإفساح المجال لإبيستيميا أخرى، لشكل من أشكال الفكر من شأنه أن يأخذ على عاتقه وجود الآخر، المستعمَر، كفاعل (sujet – subjectus)، الذي قد يعيده إلى قلب التفكير ويسمح له بإنتاج أصنافه الخاصة.
لا يمكن إهمال وزن مساءلات المجتمع الذي نعيش فيه. يستمر المجتمع الجزائري المرور بالخضات بشكل متكرر، ما دام لم يحول صدماته إلى كلمات، وما دام لم يأخذ اختلافاته وتناقضاته الداخلية كموضوع للمعرفة. هناك مواضيع لم نمِل إليها كفاية: وقائع، أنماط تفكير وتصرف خاصة بنا، وضعناها جانبا، مدفوعين بقوة بإلزامية المصادقة وتثمين المعرفة، معتقدين أنها ستكون غير قابلة للفهم وللسماع.. لقد وضعناها في موضع آخر يصعب الوصول إليه. في حين أننا يمكن أن نفهم بشكل أفضل الأزمات التي عشناها ونواصل عيشها، في طرق التفكير والعمل هذه التي تنتهجها الشعوب الأصلية (authoctones)، وأعوان الإدارة الاستعمارية، والمجتمعات والأفراد أيضا. فتاريخ الجزائر ليس فقط تاريخ أبطال وقديسين، وليس تاريخ المؤسسات الفرنسية فقط، ولا تاريخ أولئك الذين اُستلبوا ثقافيا في إطار القيم الفرنسية (الغربية).
بدأت الاشتغال على"النخب المحلية" (الاصطلاح فرنسي) الأعوان المحللين للسلطات الاستعمارية الفرنسية. ما أثار دهشتي في هذه الهيئة الاجتماعية هو العامل المتحرك. أناس مختارون بدقة، بناء على ولائهم، وفائهم، استمرارية علاقتهم الخاضعة للسلطة الفرنسية: كيف تمكنوا فجأة من أن ينشقّوا، أن يعارضوا السلطة الفرنسية وأن يصبحوا القادة السياسيين لـ "التمرد"؟ أردتُ أن أجري نوعا من السوسيولوجيا التاريخية للفاعلين في تاريخنا (داخل أو خارج الإدارة الاستعمارية، داخل أو خارج الحزب الوطني). هذه الأنثروبولوجيا وهذا التاريخ ليسا أنثروبولوجيا وتاريخ فرنسا في الجزائر، بل هما لجزائر بصدد الخروج عن فرنسا. إنه المنقلب الآخر.
ويمكِّن هذا من معرفة كيف صُنعت، كيف شُيدت تاريخيا أشكال التمثيل الشرعي، علاقات القوة والسلطة. ولذا، فيجب التحرر من التحديد التضافري أو المبالغ به (surdétermination ) الاستعماري (بالمعنى الفانوني ــ نسبة لفرانز فانون ــ للكلمة) الذي قد لا يحتفظ إلا بفئات التاريخ الاستعماري الفرنسي.
المركب النموذجي
لترددي على فرنسا بانتظام، بدعوة من زملائي المؤرخين والمختصين في العلوم السياسية، شعرت بنوع من الكلاسيكية الأكاديمية المهيمنة على مختلف الكليات والمدارس الكبرى. انقضى كل شيء كما لو أن ما طرحَته كمساهمات كبرى مدرسة الحوليات والفكر النقدي، في الفلسفة كما في العلوم الإنسانية، قد بلغ (مع انقضاء القرن العشرين) مبلغه وانتصب كضرب من المعرفة للمجتمعات العالِمة (مؤسسات تكوين النخب الجديدة)، أو كمكاتب استشارية لاستخدامات السلطة. أقول هذا دون حكم مسبق على أهمية الموارد الببليوغرافية، والذكاء ورجاحة نظر المختصين في مختلف أنواع المجتمعات التي يتخذون منها موضوعا للمعرفة.
يتناول انتقادي ــ خصوصا ــ وثوق النموذج الذي يبدو لي ناجما عن المقاربات الجامدة والمبنية كنظام مرجعي وحيد، مُبعِدا إلى حيز الشاذ ما لا يدخل في منظور المنطوق النموذجي.
في محاضرة لتقديم الجزء الثالث من "تاريخ فرنسا السياسي"، وهو عمل أداره ميشال وينوك وسيرج برنشتاين، عرض هذا الأخير مع روسولييه مسألة "اختراع الديمقراطية" في فرنسا. تعلمتُ الكثير في تلك المحاضرة عن ذلك الكم المدهش من عمل المؤرخين المشتغلين على ما هو معاصر. تدريجيا، تجلت من عرضهما عناصر هندسة منحوتة بدقة، حيث تتصدر الشخصيات الكبرى في الدولة، وأساليبها في التمثيل والعمل، تلك الخاصة بالأنظمة السياسية في علاقتها المتبادَلة مع الدول المتعاقبة على المجتمع الفرنسيٍ، بناء مجتمعات سياسية، مع الإنشاء التدريجي لثقافة سياسية، وأخيرا، عن رهانات الجدل السياسي المتعلق بالنسبة إليهم بالسياق.
هكذا تجلت بوضوح مجموعة برزت منها المفاهيم الجوهرية (أو الأساسية) للدولة (سلطات عامة)، وللأمة (مجموع الأفراد البالغين، الفاقدين وضعهم كرعايا ليصبحوا فاعلين سياسيين)، وللمجتمع الذي حاول، خلال تطوره، أن ينفذ إلى تسوية غير مستقرة بين السيادة الوطنية والسلطة المستبِدة، الحق الإلهي والليبرالية الأرستقراطية، أو بين الليبرالية والقيصرية. ومفهوم النموذج متفق عليه هنا كاصطلاح نظري مهيمن ساد في مرحلة ما في مجتمع علمي معين، يؤسس لأنواع التفسيرات المتوقعة وأنواع الوقائع المنتظر اكتشافها في علم معين.
(...)
القلق الذي شعرت به مردّه إلى بعض ذكريات أعمالي الميدانية حول بلدي الجزائر في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وعلى الخصوص على النظرة التي حملها لنا هؤلاء المسؤولون الجمهوريون أنفسهم (الجمهورية الفرنسية الثانية والثالثة) حول "أهالينا" (indigènes ). هكذا مثلا، سجل مسيّر بلدية الصومام المختلطة في ملاحظاته العامة "عدم قدرة العقول البربرية على الارتقاء من الخاص إلى العام، المصلحة الخاصة تبقى القانون، التوفيق بين المصالح المختلفة وإنجاز الحصيلة التي ننتظرها من مجلس مداولات، ليست في متناول فلاحينا، وهؤلاء الذين ينتمون إلى هذه المجالس هم من الأعيان ذوي ألباب أكثر تفتحا على المفاهيم الجديدة بفعل أسفارهم واتصالاتهم. ويمكننا الحكم على حال العقلية الجماهيرية من خلال ذهنية هذه النخبة".
في الواقع، عندما اشتغلت على الأحداث في الجزائر المأزومة، عكفتُ على التصنيف في الهامش أو اللانظامي ما لم يدخل في إطار هذا الانبثاق لحداثة الدولة الجمهورية (وهي عامل منظِّم مركزي ومنطقي) في مجتمع خرج لتوه من اقتصاد البقاء الذاتي على قيد الحياة (autosubsistance ). بالفعل،
بوعي أو بغير وعي، فقد استعدت نموذج التحليل ذاك، الذي كُيّف فيه جيلنا (اُستلب ثقافيا)، مستبعداً كل المظاهر السياسية من مجتمعي (وخاصة تلك المتعلقة بالعنف البحت) في نوع
من الرجفة التي تصور مسبقا الولادة الصعبة للنموذج الفرنسي للدولة الجمهورية.
والبلية أن ما يسمى بالانتقال هذا بقي وكأنه مكبوح في حركة قهرية للتظاهرات القبل - سياسية، وبالأحرى الهمجية. وبدلا من الدولة الإدارية المجسِّدة للمصلحة العامة، بموظفيها
الجمهوريين، وجيشها الجمهوري، وهيئاتها الحرَفية، ونقاباتها، بدلا من المنتخبين الذين يدقون ناقوس نهاية الأعيان التقليديين، تجلت الدولة الإرثية بكل أبعادها: النهب، وتحصيل الريع.
عن مبدأ الانقياد
في أعمالي البحثية وتدريسي، أدركت أن الخطاب السياسي للحركة الوطنية بشكل عام، والخطاب الاستقلالي بصفة خاصة، لم يكن في واقع الأمر غير الخطاب السائد ولكن بشكل معكوس. فلو منحناه صيغة كاريكاتورية، فإن الخطاب المهيمن قال ما يلي: "لا، لم تكونوا يوما أمة! أنتم بلد البربرية". وكصدى، كان الجواب: "لطالما كانت الجزائر قائمة! لطالما كنا دائما شعباً يحارب المحتلين".
ينقضي كل شيء كما لو أنه الخطاب نفسَه ، مع وجود إشارات معاكسة فقط. وهذا أيضا اغتراب الخطاب الوطني أو "التاريخ الرسمي".
فوق ذلك، لا يأخذ التأريخ الرسمي للجزائر بعين الاعتبار، ولا يعالِج، سوى مسائل سياسية ولدت في حجْر فرنسا، كما لو أن كل شيء يخرج من رحم واحد. وسواء كانت مرجعيات الجمهورية البرلمانية، الديمقراطية والمواطنة، أو مرجعيات الحركة الاجتماعية المتبلشفة، فإن الكل ينطلق من فئات الفكر نفسها. وفي الواقع، سواء أكانت من اليمين أو اليسار، ولدت التعابيرالسياسية للجزائريين خلال القرن العشرين، ومعها التأريخ، وعُبِّر عنها في حقل دلالي فرنسي.
لدينا زوايا غامضة لا ترى عندما ننظر إلى أنفسنا: في الحركات المعاصرة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية، هناك منابع أو تيارات فكرية، أسس للفكر والعمل تنتمي إلى الشرق بشكل عام، وإلى الشرق المسلم بشكل خاص. وهي بقيت مكبوتة لمدة طويلة، مهمشة، مستصغَرة، أو متجاهَلة. لقد كُبتَتْ بفعل هيمنة الخطاب الذي يدعي الحداثة، ذاك الذي يتحدث عن تشكيل الدولة (الحديثة) والأمة (المواطَنة). هناك رسوخ في فكر الحقل الدلالي الفرنسي، ديمومة على المدى الطويل للمرجعيات المنشأة في مكان آخر، خارج التراب الوطني، ولكنهما أيضا رسوخ وديمومة للنظام المؤسساتي الفرنسي، إلى درجة أن كل ما سيؤسس الدولة الجزائرية ليس سوى تجديد بحت وبسيط للأجهزة الإدارية والعسكرية، والأنظمة القانونية الفرنسية.
• النص جزء أول من الفصل الختامي للعدد الخاص بالتأريخ من حولية "نقد". وهو قُدِّم بالأصل في محاضرة جامعية في اليونان حول "التاريخ النقدي"، واستعادته مجلات أكاديمية في جامعات أمريكية (كولومبيا ومينسوتا) وجرت له قراءة في مجلة JNAS Journal of North African Studies، كما في مجلة أكاديمية المانية.. إلا أنه بقي بلا أدنى متابعة في فرنسا.