رجل مصري بجلابية وحطة يقف على شرفة عالية مطلّة على منشية ناصر بالقاهرة، أرض "الزبّالين" كما يسمونها. تخرق البنايات الترابية المكدسة ألوان الأبيض والأصفر والأزرق، مُشكّلة قرصاً كبيراً، شمساً تغيب أو تشرق أو تستقر مكانها على أرض الناس المكافحين، كما يحلو للرائي. قرص الشمس هذا الذي يتمدد على جدران بنايات "الزرايب" عبارة عن غرافيتي ضخم للفنان التونسي السِّيد، بعنوان "إدراك".
"السيد صنع Urban Art في مصر، الأهم من ده إنه عمله بماله الخاص، بدون منظمات، بدون مؤسسات ترعى وشركات تموّل عشان تحشر لوغوهاتها عالشغل، يعني نزل مصر على حسابه مره واتنين وتلاتة عشان بس يتفق مع سكان مجتمع منشية ناصر. تخيلوا بقى لو فنانينا العظام اللي بيبيعوا لوحاتهم بالشيء والشويّات، قدّموا حلول ونفذوها هيحصل إيه.." هكذا كتب الفنان المصري عمار أبو بكر على صفحته على فايسبوك، شاملاً نفسه مع الفنانين المقصّرين في هذا النوع من العمل الاجتماعي الذي وصفه بـ "الفن المديني".
في صنعاء كذلك، رسمٌ متواصل على ما تبقى من المدينة. رسم مراد سبيع سابقاً على ركام المدينة مشروعه "حُطام". صارت المباني المدمرة جزئياً دفتراً مفتوحاً له، وحوّلها إلى رسائل مضادة للحرب، نال بعدها جائزة "الفن من أجل السلام". عاد سبيع في 16 آذار/ مارس الحالي ليحتل الشارع، ودعا معه ناس المدينة للمشاركة في الرسم على جدران شارع الرباط في صنعاء، فَقَدِم منهم رجال ونساء وأطفال وكبار. لا يعود مهماً هنا "جودة" العمل الفني بالمعنى التقني، لكن أن يستعيد سكان المدينة سيطرتهم على جزء من الحيز المعماري الذي يشغلونه، أن يكون لهم حق ترك أثر ما عليه، وأن ينقل هذا الأثر أملهم بيمن بلا حرب.
هذه الفنون التي تجاهلت الوسائط الكلاسيكية، يصنعها شباب يعتبرون المدينة مساحة ضرورية للعمل وعرض الأفكار، يرونها ستوديو كبيرا. أهمية الفن المديني تكمن أولاً في كونه (غالباً) غارقا في الهم الاجتماعي والسياسي. وفي كونه ثانياً يقدّم رؤية مختلفة لدور الفنون واستعمال الحيّز. عليك أن تركّب أفكارك مع المدينة أولاً، ثمّ أن تعيد تركيب العمل (ربما مع فنان جديد) فوق العمل الأول الزائل أو المتغيّر، وربما بتقنيات أخرى، ودائماً بنظرة مختلفة. تتراكم طبقات المدينة ويغمر بعضها البعض.
لا يكترث من يرسم على حائط بإمكانية أن يأتي أحدهم ليخرب عمله أو يعدله لاحقاً. الفن هنا سريع الزوال نسبياً، يعبر المدينة عبوراً سريعاً كما نفعل نحن حين نمر من مكان العمل إلى مكان السكن.. فن المدن يخترع أساليب لتطويع الأسطح المدينية العامة في خدمة الفكرة البصرية، صار مع الوقت جزءاً من الهوية البصرية لمدن عالمية كبرى وحركة فنية معترف بها، ويزداد تقبّلها في العالم العربي، خصوصاً بعد أعوام الثورات المتنقلة التي احتاجت الجدران لتقول قولها.
في فلسطين، المثال الأمثل لأهمية هكذا أعمال. جدار الفصل العنصري صار لوحاً ضخماً. كل ما عليه يمثل احتجاجاً سياسياً سمته الأساسية أنه "صارخ" بصمته. الرسومات الكبيرة تحتجّ طالما أنها موجودة على الجدار، باستمرار وإلحاح. إذا كان ثمة من يحاصر الناس، فإن الناس وجدوا طريقة لتفكيك دور أداة الحصار. لا أحد يدّعي أن الرسم على حائط انتصار على الحائط، لكنه يؤدي وظيفة مقاوِمة مغايرة للدور الذي رُسِم له، بحيث بات يقصده فنانو غرافيتي من كل العالم، وأبرزهم كان بانكسي.. بتنا أمام مفردات بصرية جديدة تعيد استخدام العناصر المبنية، وتعيد تقييم دور الفن، تخرجه من المتاحف والأطر الجامدة إلى الشارع والحركة، ومن النخبوي إلى الشعبي، ومن التزيين إلى الموقف السياسي والاجتماعي.
لوحة السيد تقول: "إن أراد أحدكم أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه"، وهكذا إن أردنا أن نرى مدننا بأعين مختلفة.