إعادة صناعة الخبر

يقول الرجل العجوز قبيل وقوع الحرب "سأحكي لكم نكتة عن سخافة القتال الآتي". يجيبه رجل بثياب العسكر "ليس الآن وقت النكات، أيها العجوز! الحرب أمر جدّي للغاية".. في عزّ الأزمة الاقتصادية، يقول رجل "الآن نسخر بصوت عال من ثقة الحكومة والبنك المركزي بنفسيهما"، فينهره رجال الأعمال الحريصون على الوطن: "هذه البلاد منكوبة، لا تجوز السخرية منها أبداً!".. بعد الحرب،
2016-03-03

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
سنان حسين - العراق

يقول الرجل العجوز قبيل وقوع الحرب "سأحكي لكم نكتة عن سخافة القتال الآتي". يجيبه رجل بثياب العسكر "ليس الآن وقت النكات، أيها العجوز! الحرب أمر جدّي للغاية".. في عزّ الأزمة الاقتصادية، يقول رجل "الآن نسخر بصوت عال من ثقة الحكومة والبنك المركزي بنفسيهما"، فينهره رجال الأعمال الحريصون على الوطن: "هذه البلاد منكوبة، لا تجوز السخرية منها أبداً!".. بعد الحرب، يناقش الجميع جدوى ما حصل وينبري الشباب (أو من بقي منهم) للسخرية من المرحلة، فيقال لهم "لا يصحّ هذا، نحن منهكون، ونحتاج قدراً من الرصانة للوقوف مجدداً".. متى يحين وقت السخرية إذاَ؟
"السخرية الآن"، يقول الإعلام البديل. الآن، أكثر من أي وقت مضى، تبدو السخرية ذات صلة وذات أهمية، في مجتمعات تبالغ في احترام ما نعتبره الجدّية، وهو بالفعل قبول بالواقع على أنه "الحكمة"، في مجتمعات تقبع في عتمة أنظمة القمع والنهب وانعدام الكفاءة من جهة، ويحيط بها شبح الإرهاب من جهة أخرى، وتغرق في المادة الخبرية المنحازة والمؤطّرة غالباً.. التي تبرر الواقع فيما هو يزداد انكشاف إسفافه في كل المجالات.
السخرية القاتمة، الآن، يقول الإعلام البديل.
"في بادرة تدل على قرب انفراج أزمة الدولار، قررت الرئاسة المصرية التقدم بمشروع حفر قناة سويس ثالثة لتعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حفر قناة السويس الثانية. وقد صرّح الخبير الاقتصادي "سيد البيومي القناوي" أنّ كل الدراسات الاقتصادية القادمة من ولاية نيفادا تؤكد أن نسبة حظوظ النجاح في الرهان في المرة الثالثة أكثر بكثير من الرهان في المرة الثانية، حتى أن الأمثال الشعبية الفرعونية العريقة تؤكد أن (الثالثة ثابتة)".
هكذا علّق موقع جريدة "الأهرام المكسيكية" المصري الساخر على خسائر قناة السويس الثانية، بكلام مُصاغ بلغة الخبر الصحافي العادي، وهو نموذج من أخبار يمتلئ بها موقع الجريدة الساخرة التي اختارت رمزاً لها هرم شعب المايا بديلاً عن الهرم الفرعوني. أمّا شعارهم فيصرّح بوضوح "نحن نصنع الأخبار"!
"الأهرام المكسيكية" واحد من مواقع إخبارية "مزيّفة" ازداد انتشارها في العالم العربي، لا سيما مع الإحباطات المتتالية بعد ثورات الربيع العربي. قبله في مصر كان موقع "الكشري اليوم"، وفي الجزائر، هناك موقع "المنشر" بشعاره: "بالمناشير، نعيد تشكيل العالم". اللافت بالموقع هو تصميمه الشبيه جداً بالمواقع الإخبارية الحقيقية المحترفة. من تونس أيضاً هناك موقع “Ler Pesse” الذي يدرج أخباراً من تونس والعالم العربي والعالم. ولا يمكن الامتناع عن ملاحظة الاستحضار الصوتي للاسم المطابق للفظ مرض تقيح جلدي خطير (herpesse). وفي لبنان موقع "جمهورية الحمّص" يعمد إلى الأسلوب ذاته، ومدوّنة Karl Remarks التي تتميز بذكاء مقالاتها الإخبارية والتحليلية الساخرة من المجتمعات اللبنانية والعربية فنياً وثقافياً وسياسياً (حيث أغنية مثل "بوس الواوا" مثلاً تفسَّر كنداء لمعالجة الآلام التي تسببت بها الرأسمالية، تطلقه فنانة مفاهيمية بقالب يتصنّع دور البوب الرديء!). سقف السخرية في هذه الأخبار مرتفع، وقد يطال أي شخصية عامة أو دولة بالنقد والتهكم. ورسائل هذه المواقع سياسية بالدرجة الأولى، تتخطى المزاح إلى الفكرة الخطيرة التي تشرّح الموقف أو الخبر بكامل قتامته وتناقضاته. فالكتابة الساخرة دائماً ما تعتمد مبدأ فضح المفارقات الفجة لتؤدّي دورها، والمفارقات غزيرة في العالم العربي وموادها غنية ومتجددة، وكل منها باب لفتح نقاش حول الخبر السياسي. من هنا أهمية التهكم في خلق مساحة لإعادة فتح النقاش حول الخبر بعد إعادة صياغته أولاً. الأمر إذاً يتخطى اللعب والهزل إذا ما اشتُغل عليه بحرفية وذكاء، حتى أنه قد يتحوّل للمصدر الإخباري المفضّل عند الناس بديلاً عن المنصات الإعلامية التقليدية. مثال على ذلك برنامج "البرنامج" المصري الذي شكل نموذجاً ناجحاً، حيث استنسخ صيغة "التوك شو" الأميركي الساخر بنفَس مصري، وصار خلال أسابيع أكثر البرامج مشاهدة على الشاشات.
أمّا الدول والأنظمة، فتدرك جيداً أن السخرية والفكاهة أكثر خطورة من أن تضحك لها وتدير ظهرك، وبالتالي فإنها تأخذ "السخرية" بكثير من "الجدّية" وتبقيها تحت عين الرقيب والحسيب.
أهمية هذه المواقع تكمن كذلك في حقيقة كونها أقل التصاقاً بالتصنيفات الجاهزة والاصطفافات و"الخنادق" السياسية التي تفرض على المنتمين والمؤيدين مواقف وآراءاً معلّبة، وتكون أكثر قرباً من الفئات المهمّشة، المستقلّة، والمعارِضة. فنكون أمام مضمون جديد مشاكس ولكنه يستخدم لغة إعلام السلطة وأدواتها، إمعاناً في الهزء منها و"المسخرة" عليها.
السخرية سلاح الشعوب الأخير في وجه الجنون والقمع والحرب والفساد والرداءة، بالإضافة لكونها أسلوباً ناجعاً لإعادة تصويب سكك النقاش وفضح العيوب بلا مواربة. عندما هوجم شادي أبو زيد في مصر بسبب تصويره لفيديو الواقي والشرطة، كتب على صفحته على فايسبوك: "كلّ أسلحتكم دي إحنا هنعمل منها نكت.. وكده كده إنتو تقدروا تخطفونا من بيوتنا وتقتلونا في عز الظهر.. بس مش هتقدروا تنكروا وجودنا ولا هتقدروا تنكروا إنكم نكتة. بس نكتة سخيفة". 

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...