تدخل شعيرة "سبيَّبه" ضمن الشعائر الاحتفالية التي تعبّر عن القضايا المتعلّقة بحياة سكّان واحة "جانت" في قلب الصحراء الكبرى. فعلى مدار عشرة أيام، يتغيّر وجه الواحة بأقنعة الرجال الراقصين وزينة النساء وروائح ألبستهن وعطور مساحيق الزعفران التي تنبعث منهنّ فتملأ فضاء وادي "تغزّيت" مرحا ولذّة. تتحوّل الأماكن المحتفِلة لمسارح مهيكلة بكلّ أدواتها، من شخوص تاريخية وأحداث درامية وعلاقات اجتماعية ذات خصوصيّات محبوكة حبكاً درامياً متشعب الأبعاد والأهداف.
يستعد قصرا "زلواز" و "الميهان" (والقصور تمثل أحياء / جماعات من الواحة) استعدادات مكثّفة، فيها أبعاد شعرية وحركية وموسيقيّة تغذيها سيرورة انتقال تراث "سبيّبه" الشعري والموسيقي والكوريغرافي من جيل لجيل، ليس ليبقى ثابتا داخل توابيت مغلقة، مبجِّلة للماضي وحسب، ولكن لزيادة حماس الشّباب والمسنّين لفكرة التّنافس البنّاء الذي يعيد تشكيل الزّمان والمكان والهويّة.
مراحل سبيَّبه
مرحلة تمولاوين (وتعني المدح والثناء) التي تكون بمحاذاة كل قصر من القصرين، في أماكن تغيّرت عبر التاريخ، جراء إعادة تأسيس "القصور" وبعْث الحياة في المنطقة بعد فيضانات أفنت الواحة ثلاث مرات. وتكون طقوس ليلية تحضّر لليوم الفصل، يوم العاشر من سبيَّبه (العاشر من محرّم، وسبيَّبه هو اسم الشهر الذي يوافق محرم في رزنامة سكان جانت)... وهي بدورها تبدأ في الانتظام والحدة، في الإيقاع والرقص والأداء الصوتي، (تسخين، توكاس) خلال ثمانية أيام، من خلال تامولي الصغرى وتامولي الكبرى، في السابع والثامن من محرم.
تتأسس المجموعات وتنتظم ويُراقب أداؤها من خلال توجيهات الشيوخ والشيخات. فالضاربات على الطبول توكل لهن مهمة افتتاح الشعيرة بواسطة سيدة طبل "إمنيني" الذي يضرب بطريقة مغايرة لباقي الطبول الأخرى، وعلى هذه الأخيرة أن تحيط به "كما يحيط الهلال بالنجمة".. كذلك يراقب الشيوخ أداء المجموعة الصوتية التي توكل لها مهمة الغناء المناسِب في الوقت المناسِب، أي لكلّ مرحلة موسيقاها وشعرها، ويتم التوجيه من قلب المجموعة بواسطة سيدات الأداء، "تمغارين ن أقاي"، اللواتي يحفظن الأشعار ويوجهن الجميع إلى ما يجب أن يردّد في الوقت المحدّد. وكلّ هؤلاء توكل لهن مهمة تتبع حركات الراقصين من الشباب المقنّع بمختلف اللثامات.. وتتبع عروضهم للعباءات في طقس "آغلاي ن تكمسين"، وطريقة ضربهم للسيوف وتقاطعها في طقس "آغلاي ن وتاي". الكل يسعى جاهدا لتحقيق مستويات أداء عالية تربك الخصم، وتجعل أحد الفريقين يفوز يوم المواجهة الصّعبة، يوم العاشر، يوم "أقيبل".
طقس المباغتة: "تنْفار"
وهي مرحلة افتتاح الشعيرة واختتامها: "تَنْفَارْ" من الجذر نَفَرَ بمعنى انصباب الواحد في الآخر، ويُطلق على النّهر الذي يصبّ في نهر آخر. تعتبر تنفار مرحلة الهجوم والغلبة، والتّسابق. تدخل "شيت ڤنڤاتن" يتبعهن الراقصون، بعدما تسبقهم "شيت آڤاي" لفضاء "أبتول"، ومن سبق بالدخول سيكون النصر حليفه في هذه المنافسة. فـ "تنفار" يعتبر طقساً للمباغتة وقهر الخصم بالسّرعة الفائقة في ولوج الفضاء المقدس، الرمزي، فضاء التشكّل الدرامي للأحداث البعيدة والقريبة.
طقس عرض العباءات
أصبح هذا الطقس من طقوس العرض الهامة، التي تبيّن ذوق ورفاهية كلّ قصر، ويشترط في "تِكَمْسِينْ"، أو العباءات المشاركة في العرض أن تكون "تَايْلاَلْتْ" أو "تَانْ كُورَا" أو "تَانْ آلَشُّو" وكلّها مستوردة أو مجلوبة من "بلاد السّودان"، أي النيجر أو نيجيريا. تتلاحق العباءات في انسجام كبير "أتينيم كورا دتوتويلال"
وإذ برز فقط التّنافس الرجالي بالعباءات، فلا يمكن إهمال استعدادات النّساء في تلك اللّحظات نفسها لارتداء أغطية "آلشو"، إذ يمكن رؤيتهن وهن يساعدن بعضهن البعض وقت الراحة استعدادا لمرحلة عرض اللباس مناصفة مع الرجال.
طقس دوران السنة
تعني كلمة "أَغَلاَيْ" الدوران، و"أَوَتَايْ" معناها السنة بلغة "كِيلْ جَانَتْ"، وما تقاطع السّيوف سوى رمز للاتجاهات الأربعة: شمال/جنوب وشرق/غرب، ما يحيط بالمركز أي محيط واحة جانت وهي من الأسرار الكوسموكونيّة للمجتمع القصوري.
طقس "أغلاي ن وتاي" هو تقاطع لفصول السنة واكتمالها وانقضائها وتجدّدها في آن واحد، أي بالمفهوم الزمني يتقاطع الزمان والمكان، رغبة في تجدّد السنة، والتي لا تكون إلا بتجدّد المحتفلين وبقائهم على قيد الحياة.
شعيرة عبور
تتّفق جلّ الدّراسات التي تناولت هذه الظاهرة بأنّها شعائر عبور وانتقال، لاحتوائها على العديد من طقوس الانتقال الجزئيّة المكوّنة لعموم الشّعِيرة، والتي تؤدّي وظائف اجتماعيّة وثقافيّة ورمزيّة بطريقة أو بأخرى. وهي تقع زمنيا في عاشوراء التي تمثل عموماً السنة الجديدة في الإسلام، وبداية التقويم الهجري، إذ تذكّر بانتصار الرسول على قبيلته قريش الوثنيّة، واستقباله من طرف المجتمع المديني بالطّبول والأغاني: "طلع البدر علينا". ففرحة الانتصار تلك أصبحت تعيشها المجتمعات المغاربيّة عموما، فيما بعد، كحفل بهيج لدى السّنّة، دون أيّ وجه لمقارنتها بالنّدب في طقوس الحداد الشيعيّة على مقتل الحسين بن علي في كربلاء، وإن أبدى البعض في "جانت" تحفّظاً من المشاركة في "الفرح"، إذ يُفترض حسب اعتقادات الناس للسبيَّبة أنّها تعبير صارخ على مقتل الحسين (أثناء طقس تنفـار) حيث يتمّ تلطيخ وجوه النّساء بالدماء.
لكن السبيَّبه تشكل "تْمَنْجُوطْ"، أي أن طقس بلوغ الذكور والاناث هو لبّها، وتعطي دلالات عميقة تفضي لتاريخ الواحة المحلي وما حدث من أحداث جسام فيها. فالظّاهرة العاشوريّة في البلاد المغاربيّة اندثر جلّها ولم تعد تؤدي الوظائف المخولة لها، وإنْ ربطها العديدون بطقوس زراعيّة ما قبل إسلامية. ومن خلال ما قمنا به على مدار ثماني عشرة سنة، فلا بد من مواصلة الأبحاث الجادة والمتعدّدة الاختصاصات لإحداث تراكمات معرفيّة توضح لنا لاحقا المزيد من الرموز والإشكالات الخاصّة بهذه الشّعيرة المركّبة والمولّدة للمعاني وللغموض في آن..
"سبيَّبه" شعيرة تنصهر فيها الطقوس التي تمثّل خصوصيّة المجتمع الجانتي حسب ملاحظته لمختلف المحاذير، من الفوضى والإخلال بالنظام الأوّل للمجتمع ونمط تأسيسه منذ البداية: بروز طقس البلوغ، طقوس المظهر والجسد للجنسين، العلاقات بين مختلف فئات السنّ ودلالات الاحترام، أهميّة النساء المسنّات في المجتمع ورمزيّة مكانتهنّ، رفقة مختلف الطبول المدويّة بالواحة، بناء الهويّة الفردية وعلاقاتها بالهويّة الجماعيّة.. وهذا الشّأن العظيم يتحقّق بواسطة طقوس الانتقال تلك، والأهمّ من كلّ ذلك العلاقات التي تحكم "القصور" فيما بينها، ولاسيّما المحتفلين من القصرين، أي "زلواز" و "الميهان" أو الميزان.
فكما يَبْلغ الذكور بعلامة وضع اللثام والشّاشيّة /الطاقيّة، التي يُطلق عليها "تْكُومْبُوتْ"، تَبْلغ الإناث بعلامة تصفيف الشّعر والتي تتجسّد في تسريحة "أَسَكْرَفْ" التي تتزيّن بها البالغات ممن يُذْكرن في الأشعار.
لا يمكننا فهم الشعيرة فهما شاملا إذا لم نركز الدراسات على مكوناتها الأساسية: الشِعْر الذي له نصيب الأسد. وكذلك فلا بدّ من دراسة الحركية باعتبارها أحداثا كوريغرافية بدلالات عميقة، فرقص "سبيَّبه" ليس رقصا يوميا مبتذلا يرقصه الرجال، بل هو رقص طقوسي يطلق عليه "أَرَوَاضْ". وكذلك الحال للمكوّنات الموسيقيّة المتشعبّة الألحان، التي تعطينا صورة غير نمطيّة عن الموسيقى التقليدية عامة والطارقيّة بخاصة، باعتبارها تخرج عن رتابة القول بقلة الألحان مقابل كمّ هائل من الأشعار، وغزارة منظومتها اللّحْنية.
من سلسلة "أنثروبولوجيات" التي تصدر عن مركز "فاعلون"