توالت التحليلات والتساؤلات بعد أحداث بن قردان الأخيرة، التي حاول "داعش" احتلالها، لفهم المشاركة الكبيرة لشبان صغار في السن في عملية الهجوم على المقارّ الأمنية والعسكرية، بغية تأسيس إمارة داعشية في مدينة حدودية عرفت أنها "مدينة الهامش" بامتياز، فلا يعول سكانها على الدولة التي أسقطتهم عمداً من مخططات التنمية، بل صنعوا لأنفسهم "اقتصادهم التحتي" القائم على التهريب والتجارة الموازية أو "تجارة الخط". وقد حاولت بعض الخطابات التقليل من أهمية عامل الفقر، بِنيّة القفز على حقيقة مفزعة مفادها أن 25 في المئة من التونسيين يعيشون تحت خط الفقر، بالإضافة إلى وجود 700 ألف عاطل من العمل، أغلبهم من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة، إضافة إلى الانقطاع المبكر عن الدراسة لحوالي 120 ألف تلميذ سنوياً، وانتشار الاقتصاد الموازي أو اللانظامي الذي يمثل 40 بالمئة من الاقتصاد التونسي، وكذلك انتشار ظواهر الانتحار لدى الأطفال والمراهقين إلخ.. وتهدف خطابات التقليص من أهمية الجوانب الاقتصادية في فهم ظاهرة انخراط الشبان التونسيين في الحركات "الجهادية" إلى إخفاء مسؤولية السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي اتبعتها الدولة منذ ثمانينيات القرن الفائت في تآكل الروابط الاجتماعية، وإضعاف الطبقات المتوسطة والفقيرة، لفائدة مجموعات صغيرة من رجال الأعمال والمافيات الجديدة التي اغتنت بفعل العلاقات الزبائنية مع السلطة واستغلال النفوذ، والاستفادة من شبكات الفساد المالي والإداري. الفقر هنا ليس مفهوماً مجرداً، بل تجربة ذاتية وإحساس مؤلم يعيشه أفراد يشعرون باللامساواة والاستبعاد وغياب الاعتراف، وأن حظوظهم في النجاح ضئيلة، ليصبح حينها الخلاص فردياً يذهب إلى خيارات قصوى، عنيفة ومدمرة.
5 آلاف مقاتل في "داعش"
تشير التقارير، رسمية وغير رسمية، إلى أن نسبة الشبان التونسيين الذين يلتحقون بتنظيم "الدولة الإسلامية" (''داعش") هي الأعلى مقارنة بجنسيات أخرى، حيث يقدر عددهم بحوالي خمسة آلاف مقاتل، وهو رقم هائل قياساً بعدد سكان البلاد الذي لا يتجاوز 11 مليوناً. وتقول وزارة الداخلية التونسية إنها منعت حوالي 15 ألف شاب تونسي من السفر إلى سوريا عبر تركيا من أجل الانضمام إلى "داعش". وتأتي أخبار بين الحين والآخر مفادها أن بعضاً من شبان مناطق الجنوب التونسي قد اختفوا ليتبين في ما بعد أنهم نظموا ''هجرة سرية'' إلى تنظيم داعش في ليبيا عبر المسالك الصحراوية الوعرة، بتسهيل من بعض المهربين الذين باتت تجمعهم بهم تحالفات. وتشير تقارير أخرى إلى أن مدينة بنزرت الموجودة في أقصى الشمال التونسي ومدينة بنقردان الجنوبية الملاصقة للجوار الليبي هما أكثر المدن التونسية "تصديراً" للشباب نحو سوريا وليبيا، كما تبين أن معظم الذين قتلوا في الغارة الأميركية على مقر تنظيم "داعش" في مدينة صبراتة الليبية هم شبان تونسيون، وتتراوح أعمار هؤلاء بين 18 و35 سنة، أي أن جلهم ولد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي والتسعينيات منه، وهذا ما بيّنته أيضا أحداث الهجوم الداعشي على مدينة بن قردان حيث الشبان المشاركون في الهجوم تونسيون عائدون من سوريا والعراق.
لماذا تحتل تونس، البلد الصغير من حيث المساحة وعدد السكان، المرتبة المتقدمة في عدد المقاتلين في صفوف هذا التنظيم؟ كيف يتحول بعد ستين سنة من الاستقلال عدد كبير من شباب تونس، التي بدأت حينذاك تجربة مشروع تحديثي في المنطقة العربية، إلى قتلة في صفوف "داعش"؟
فضاءات الإقصاء الحضرية
أماكن السلفيين المفضلة للدعوة ("الجهاد") ليست الأحياء المترفة، بل لا يمكن ملاحظة انتشارهم ومجالات تحركهم اليومي إلا في الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن (حي "دوار هيشر" وحي "التضامن" بتونس العاصمة، تعتبر "حصوناً" للسلفيين بشقيهم الجهادي والعلمي). الأحياء تلك، بوصفها "فضاءات مهمشة" و ''أمكنة للإقصاء"، ظهرت ضمن مسار تحضر انتقالي سبق عملية التصنيع التي كانت في الغالب مجرد محاولات لنقل التكنولوجيا واكتفاء ببعض الصناعات التحويلية، وهو ارتبط بالنزوح الريفي المتولد عن إفقار الأرياف بفعل ذلك التحديث الذي شهدته تونس منذ الاستعمار حتى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة، ما أدى إلى ''ترييف المدن'' التي ستتشكل على أطرافها تجمعات سكنية عفوية جل ساكنيها نازحون من الريف أقصتهم سياسات الدولة السكنية ومنطق المضاربات العقارية عن الاندماج الكامل في الحياة الحضرية، ما سيفاقم من المشكلات الاجتماعية العديدة. وستجد تلك الفئات نفسها في ظل ''الفراغات الاجتماعية" الناتجة من تخلي الدولة مجبرة على تدبّر أمرها بنفسها من خلال أطر غير نظامية، تبدأ من الاعتماد على الاقتصاد غير المهيكل وصولا إلى انتماءات تفلت، في كثير من الأحيان، من رقابة المؤسسات، بل إنها تتشكل خارجها وضدها أحيانا (مثل المجموعات الحيطية، شبان الراب، المجموعات السلفية)، فنغدو في تلك الفضاءات المقصية إزاء مجموعات شعورية تربط بين أفرادها علاقات شخصية مباشرة باسم الانتماء إلى فكرة مشتركة وفضاء جغرافي مشترك وحب لجمعية رياضية مشتركة، حيث يكون لجماعة الرفاق التأثير الأكبر في عملية صياغة الهوية الفردية، لتتشكل في هذا السياق قبائل شبه حضرية تبرز بين الحين والآخر من تحت قشرة التحديث السطحية الممزوجة مع صيرورة اللامأسسة التي يعرفها المجتمع التونسي منذ ثمانينيات القرن الفائت، والمتمثلة خاصة في تآكل شبكة الأمان الاجتماعي وشبكات التضامن المؤسساتي المانحة للمعنى والتي طالما كانت تشكل دعامة للفرد، إذ صار كل ما كان يعهد به بالأمس لمؤسسات الكفالة الجماعية يترك أكثر فأكثر للفرد نفسه، الذي يتحمل وحده مصيره الخاص، مثلما يلاحظ ذلك الباحث السوسيولوجي دانيلو مارتوشيلي. وهذا يعني خلق شبكات تضامن بديلة تمكن الشباب من التموقع الاجتماعي وإعادة تشكيل الذات. وفي فضاءات التهميش الاجتماعي، يتشكل وعي جزء من الشباب التونسي الحضري الذي يمتزج لديه الإحساس بالضيم الاجتماعي والاقتصادي مع تأويلات مطابقة لإسلام متطرف.
أسلمة الراديكالية و "فكرة الهجرة"
في لحظات السخط والخوف والقلق من احتمالات المستقبل والإحباطات المتتالية، يصبح البحث عن ملاذات أمراً مستعجلاً. حينها يتسرب ''الخطاب الداعشي"، بلغته التبسيطية، عبر وسائل عدة أهمها المسجد و "أولاد الحومة" وفايسبوك والسجن، في غفلة من مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع وبخاصة المدرسة، والعائلة والأحزاب السياسية، ليؤدلَج السخط والغضب والشعور بالفشل المتكرر لدى ''شباب الهوامش"، مضيفا عليه معنى دينيا يستند إلى يوتوبيا ''الجهاد العالمي"، الأمر الذي يدفع شباناً تونسيين كثيرين جلهم غادروا المدرسة مبكرا ووجدوا أنفسهم مرميين في الشارع، إلى الانجرار وراء ''الخطابات التعبوية" للسلفية الجهادية التي احتلت لفترة عدة مساجد وأخضعتها لسيطرتها، وتحول قادتها "الشبان - الشيوخ" إلى رموز ومراجع لعدة شبان حضريين، المسارات الفردية للكثير منهم متقطعة بفعل العمل الهش، يتقلبون بين البطالة والمهن الـ "لا- نظامية" مثل التهريب والتجارة الموازية ممثلة خاصة في "البسطات العشوائية" على أرصفة المدن الكبرى وبيع الحشيش والخمر خلسة، وهي أنشطة استفادت منها كثيراً السلفية الجهادية بوصفها حركة حضرية لتمويل خيمها الدعوية التي تبين في ما بعد أنها استقطبت عبرها عدة شبان كانوا يبحثون عن "ملاذ هوياتي" و "أطر انتماء" تعوض تلك المتهاوية التي فقدت فاعليتها وشرعيتها في عيونهم، على غرار العائلة، والمدرسة والدين بصيغته الرسمية.
واللافت للانتباه أنّه في اللحظة التي نجحت فيها الحركات الجهادية في استقطاب شبان تونسيين بعضهم من متخرّجي الجامعات، تفشل الأحزاب السياسية، وخاصة الأحزاب اليسارية، في الولوج إلى الهامش، وإقناع شبانه بخيارات بديلة حيث لا يزال خطاب اليسار بعيداً عن همومهم ولا تزال أطره التنظيمية تخضع لمنطق "الانضباط الحزبي" ولا تتصور الشباب إلا بوصفهم ذراعاً سياسية وخزاناً انتخابياً.
الهجرة الشبابية، السرية والعلنية، إلى "داعش" هي في وجه من وجوهها فشل كبير وفضيحة مدوّية للأطر الحزبية والمدنية في تونس التي لم تقدر على تعبئة الفئات الشبابية في مشروع مدني وسلمي، كما أن انتشار تلك الظاهرة يسائل الحركة الطلابية التونسية ذات التاريخ اليساري العريق التي يتراجع دورها داخل الجامعة، وهو أمر متوقع ومفهوم، فالحركة الطلابية تلقت ضربات قاسية في زمن الديكتاتورية، ولحقها خراب كبير بفعل ''انتهازية الرفاق".