صار من المعتاد في تونس، بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011، أن تندلع بين الحين والآخر في الضواحي الفقيرة للمدن الكبرى، أو ما يسمى ''الأحياء الشعبية"، مواجهات عنيفة بين قوات الشرطة وشبان غاضبين، معظمهم عاطلون عن العمل أو يشتغلون في مهن هامشية تندرج ضمن نطاق القطاع غير المنظّم. وكثيرا ما يكون تدخل الشرطة عنيفاً لقمع الاحتجاجات على "شيء ما"، مثل سوء الخدمات العمومية المتمثلة عادة في نقص فرص العمل، وغياب وسائل النقل، والانقطاع الطويل للمياه... إلخ. أو بسبب سوء معاملة الشرطة للشبان الذين يوقَفون بسبب الاتجار بالمخدرات (وهو الاتجار الصغير بها، وفي الحقيقة توزيعها) أو بيع الخمر خلسة، مثلما حدث مؤخرا في "حي لاكانيا" بضواحي العاصمة، حيث اتهم شبان الحي الشرطة بالتسبب في وفاة ابن حيهم قيس بن رحومة الذي أوقف على خلفية ترويج المخدرات، لينتهي به الأمر ميتا في ظروف مسترابة وغامضة، إذ يؤكد شبان الحي الساخطون أثناء الجنازة أنه "استشهد" بسبب التعذيب الذي تعرض له وبسبب الكره والحقد الذي يكنه "البوليس" لشبان الأحياء الشعبية.
السلطة: صناعة الكره والسخط المتبادل
يبدي شبان الأحياء الشعبية الموجودة على تخوم العاصمة والمدن الكبرى، خاصة ممن عرفوا مسارات السجن أو الإيقافات المتكررة، والذين لا يغادرون أحياءهم إلى وسط المدينة إلا لماماً، ''كرهاً" للبوليس أو ''الحاكم'' مثلما يسمونه، والذي يمثل بالنسبة لهم الوجه القبيح "لدولة الرعاية الاجتماعية" التي تناستهم وتركتهم يواجهون البطالة وانسداد الآفاق المهنية، ومعهما العوز المالي والوصم الاجتماعي الذي يعمّقه وجودهم في أحياء يعتبرونها بمثابة "المزبلة" بسبب تآكل بنيتها التحتية، وغياب فضاءات الترفيه ونقص وسائل النقل العمومي. فيشعر العديد منهم بالإقصاء واللامساواة، والإحباط والفشل المتكرر، وأن ثمة مسافة بينهم وبين عالم "الناس العايشة"، أي هؤلاء المندمجون بشكل كامل في عالمي العمل والاستهلاك. وهكذا ينخرط جزء كبير من شباب الأحياء الشعبية، الذين لفظتهم المدرسة العمومية دون أي مؤهل، ضمن خيارات فردية وجماعية مختلفة، تبدأ بالعنف المجاني الموجه نحو كل شيء وصولاً إلى النشل واستهلاك القنب الهندي وتجارة التهريب والالتحاق بالتيارات الجهادية... إلخ.
في المقابل، لا تجد الدولة والنخب الحاكمة المراهِنة على اقتصاد السوق المعولم سوى التعويل على المنظومة القانونية العقابية، والدفع بأعوان الأمن إلى تلك الفضاءات من أجل التعامل مع المشكلات الاجتماعية، المتأتية أساسا من خيارات اقتصادية أرادت إزاحة الدولة من تحمل أعباء المسألة الاجتماعية. لهذا نجد أن التقسيم العمراني مثلا لأحياء التضامن ودوار هيشر اللذين يشكلان أكبر التجمعات السكنية الهامشية المحيطة بالعاصمة، يخضع أساسا لرؤية أمنية تراهن على مراقبة الفراغات والهوامش، إلى الحد الذي يُختزل فيه الحضور الرسمي للدولة في تلك الفضاءات إلى مجرد حضور أمني عبر مراكز الشرطة ومراكز الإيقاف. فلحظة التعرّف الأولى بين الدولة وشباب الأحياء الشعبية، هي أمنية أساساً، في ظل غياب شبه تام لبقية المؤسسات الأخرى، على غرار دُور الثقافة والمرافقة الاجتماعية. وحتى إن وجدت، فهي مغلقة، أو لا تعمل بشكل ناجع، فلا يجد شباب تلك الأحياء سوى التعاطي الأمني القمعي والرادع مع مشكلاته، بعيدا عن أشكال التعاطي الأخرى.
في هذا السياق، تتشكل تمثلات وممارسات تسم العلاقة بين شباب الأحياء الشعبية والسلطات الأمنية بالعدائية والكره والحذر والخوف والشتائم المتبادلة، حيث يظهر ''البوليس" بوصفه مؤسسة قمعية تخترق الحياة والوجود اليومي لهؤلاء الشبان، الذين يعبرون عن سخطهم ضده عبر طرق مختلفة، بدءا من رمي الحجارة المتعمد على سيارات الشرطة المارة بالقرب من الحي الذي عادة ما يعتبرونه مجالهم الجغرافي الحيوي، وكذلك عبر الشتائم التي تكتب على حيطان المدينة، أو عبر الكلمات القاسية والرسائل الموجهة في أغاني الراب، أو في الاستفزازات المتكررة في ملاعب كرة القدم وخلال المواجهات وأحداث العنف المدينية.
"ماذا تفعل هنا؟"
يشعر جل الشبان أن ''البوليس" يعمق شعورهم بالوصم ويشعرهم أنهم ليسوا مثل الآخرين، وأنهم محل شك دائم ومستمر. ويبرز هذا لديهم من خلال الحملات التي تقوم بها الشرطة للتثبت من الهويات (والمسماة بـ "الرافل'' من الفرنسية)، والتي تستهدف دائما الأحياء الشعبية الفقيرة أو ''النقاط السوداء" مثلما تصمها الخطابات التبسيطية للصحافة اليومية المكتوبة.
توقف الشرطة بشكل دائم الشبان الذين تشك في أنهم "منحرفون" للتثبت من هوياتهم، بقصد البحث عن المطلوبين منهم، أو لمجرد أن سحنة الوجه تبدو ''كالحة" وطريقة اللباس والمشي يوحيان ''بسوء السلوك'' أو ''الانتماء إلى حي شعبي''. وتتكثف مراقبة الهويات وسط المدينة وشوارعها الضيقة، وبالقرب من المراكز التجارية والحدائق العمومية ومحطات النقل العمومي. وعادة ما يوجه الشرطي السؤال: "ما الذي تفعله هنا؟" وهو سؤال يعني أنه غير مرحب بهم وسط المدينة، وأنهم بالضرورة منحرفون وغير متمدنون. ولهذا السؤال جذور تاريخية تعود لسياسات الإجلاء القسري التي اعتمدتها دولة الاستقلال إزاء نازحي الأرياف، من أجل إعادتهم إلى قراهم وأريافهم المحرومة، لتعلن فشلها في السبعينيات، مكتفية بالاعتراف بهم من خلال حشرهم في أحياء فقيرة تفتقد إلى البنية التحتية والخدمات العمومية اللائقة. لهذا يبدو السلوك البوليسي ذاك بمثابة عملية إدارة للفضاء الحضري من قبل دولة عقابية لا تريد لشبان"الهامش" أن يكتسحوا المركز، وتريدهم أن يظلوا مشدودين إلى أحيائهم الفقيرة حفاظا على الواجهة ''السياحية" لمدن تتآكل. يتجنب الكثير من الشبان مغادرة أحيائهم مكتفين بالركون إلى "مقهى الحومة" أو الاتكاء في مجموعات صغيرة على أعمدة الكهرباء المتهالكة، أي إلى ما يمتلكونه كفضاء/ملجأ عبر استراتيجية الانطواء والتضامن ضد ''الخارج العدائي" من سياسيين ووسائل إعلام، وبشكل خاص سلطة البوليس التي يرون أنها تذلهم عبر التثبت المتكرر من بطاقات الهوية، والإيقافات العشوائية، وعبر الحملات الأمنية التي تتخذ في الغالب شكل العقاب الجماعي.
عقد الصمت الهش
ليس العداء أو الكره وحده ما يسم علاقة الشبان الساخطين على الدولة التي تمثلها سلطة البوليس، بل ثمة مجالات للتواطؤات اليومية والتوافقات الممكنة مع تلك السلطة التي أضحت بمرور الزمن جزءا من المعيش اليومي للشبان العاطلين والمنحرفين الصغار وتجار الخمور، حيث تصبح الشتائم والكره الانفعالي للبوليس في ظل الهوامش المدينية ''المسقطة" عمدا من مخططات "التنمية الحضرية"، جزءا من الثقافة الاحتجاجية للفئات الشعبية ومكوناً من مكونات حالة ''الغليان الحضري". تبرز التوطؤات اليومية من خلال ما يمكن أن نسميه "عقد الصمت الهش" الذي يضمن غض السلطات الأمنية الطرف عن تجار الخمور خلسة، وممتهني الجنس السري، ومروجي ومستهلكي القنب الهندي، وكذلك عن نشالي الحافلات والمترو، مقابل "رشى صغيرة" أحيانا وكبيرة أحيانا أخرى، وذلك بحسب الشبكة العلائقية التي تنسج مع أعوان الشرطة الذين يكونون في الغالب من ذوي الرتب الصغيرة والوسطى، ولديهم معرفة ميدانية بخارطة الانحراف في الأحياء الشعبية. ولكن العقد المبرم ضمناً سرعان ما ينفلت حين تقرر وزارة الداخلية القيام بحملات أمنية لمتابعة المنحرفين والمطلوبين. وعادة ما تعلن وزارة الداخلية بلغة إعلامية فضفاضة أنها "حملات لبث الطمأنينة في صفوف المواطنين" في حين يكون الأمر عملية استعراضية للقوة ورسائل لمن استضعفوا السلطة الأمنية بعد الثورة، مفادها أن الشرطة قادرة على الفعل.. دون القدرة على إثبات ذلك عمليا على أرض الواقع ، حيث يتبين في كل مرة أن عدد بائعي الخمور والنشالين ومروجي الزطلة (الحشيش) ومستهلكيها يتكاثرون في النسيج الحضري، ويتزايد الشعور بعدم الأمن لدى سكان العاصمة والمدن الكبرى.
السلفية الجهادية "تؤدلج" الكره المتبادل
لعل الشعور بالضيم والعدائية تجاه السلطة الأمنية لدى جزء من شبيبة الضواحي الفقيرة المتاخمة للمدن التونسية يمثل ''مجالاً عاطفياً" ملائما للاستثمار الإيديولوجي من قبل "السلفية الجهادية"، التي تلاقي تعاطفاً صريحاً وضمنياً من قبل شبان تلك الأحياء، حيث يعتمد قادتها من أجل دفع شبان الأحياء الفقيرة إلى الانخراط في ''الإيديولوجيا الجهادية'' على بروباغندا تقوم على التذكير الدائم بفساد وظلم ''الطاغوت''، وهي الصفة التي تطلقها الحركات الجهادية على قوات الشرطة، باعتبارها ممثلا لدولة تعتبرها ''كافرة'' لا تحكم وفق شرع الله، مستثمرة بذلك شعور الإحباط والكره الناتجين من سوء المعاملة التي يتعرض إليها شبان الأحياء الشعبية في مراكز التوقيف والتي تؤكد منظمات حقوق الإنسان أنها لا تزال مستمرة بعد الثورة، ليجد بذلك الشبان العاطلون عن العمل أنفسهم جنباً إلى جنب مع شبان السلفية الجهادية، على قاعدة الاشتراك في الانتماء إلى الحي نفسه أولاً (فالسلفي الجهادي هو ابن الحومة والجار ورفيق المدرسة سابقاً). وكذلك يتم التلاقي والتواشج على قاعدة الاشتراك في معاداة سلطة البوليس، إذ يعيش بعض من الشبان الذي تحولوا نحو ''السلفية الجهادية'' ذاكرة ''الإيقاف المر" في "مركز الإيقاف بوشوشة''، وهو أكبرها في تونس ويمتلك سمعة سيئة لدى المنظمات الحقوقية. يغدو الانتماء إلى السلفية الجهادية بعد تجربة استهلاك "الزطلة" وبيع الخمر خلسة والجنس السري، إطارا "للتوبة"، وكذلك إطاراً تنظيمياً للاحتجاج العنيف المستند إلى إيديولوجيا دينية، ضد مجتمع يشعر فيه أغلب هؤلاء الشبان أنه يستبعدهم ويحتقرهم ولا يمنحهم الأمل، بل يريد لجمهم عبر مؤسساته الإكراهية المتمثلة في السلطة الاعتباطية لرجال الشرطة.
إصلاح رهان حل المسألة الاجتماعية؟
لا يمكن فهم العلاقة المتوترة بين شبان الأحياء الشعبية والمؤسسة الأمنية في تونس دون وضع هذه العلاقة في سياق يتعلق تحديدا بالمسألة الاجتماعية التي تخلت الدولة عن إدارتها لمصلحة قوى السوق الليبرالية، ما أدى إلى تكدس العاطلين عن العمل في "عوالم البؤس" الحضرية، وبخاصة الفئات الشبابية المحبطة من ثورة ترى أنها كانت وقودها دون أن تستفيد منها فعليا، بل ظلت على هامشها وعلى هامش "الانتقال الديموقراطي". وتطرح هذه العلاقة المتوترة في الحقيقة تحدياً على راسمي السياسات الأمنية، وعلى قوى المجتمع المدني للقيام بإصلاحات تتماشى مع شعار "الأمن الجمهوري"، خاصة في ما يتعلق بإستراتيجية الحضور الأمني في الهوامش وطرق التعامل مع شبان الأحياء الفقيرة المحبطين، الذين تحولوا بفعل المراكمة الدائمة للإعاقات الاجتماعية إلى فريسة سهلة لكل أنواع الجذرية أو التطرف، وهو ما يعني أن الرهان الأكبر ''لديموقراطية تونس" يتمثل أساسا بإيجاد حل ناجع للمسألة الاجتماعية.