في الساعات الأولى من 21 آذار/مارس 2022، وبينما كان أغلب الناس نياماً، خرج الرئيس التونسي قيس سعيد ليلقي كلمة بمناسبة عيد الاستقلال (1956) الذي تحتفل به البلاد في 20 آذار/مارس من كل سنة. لم تعد "خرجات" وخطابات الرئيس بعد نصف الليل تثير استغراب التونسيين، فلقد تكررت عدة مرات في الأشهر الفائتة. وبعد ديباجة طويلة حول الحقبة الاستعمارية ومعركة الاستقلال وبورقيبة، الخ.. تحدث الرئيس طويلاً عن "الاجراءات الاستثنائية" التي اتخذها في 25 تموز/يوليو الفائت بعد ان سأل نفسه كيف سيلاقي وجه الله ووجه الشعب إن لم يتحرك لإنقاذ البلاد - مماثلا ضمنيا بين لحظة الاستقلال ولحظة 25 تموز/يوليو. وخصص العشر الأواخر من الخمسة وثلاثون دقيقة التي استغرقها خطابه للحديث عن الاستشارة الوطنية الالكترونية (من 1 كانون الثاني/يناير إلى 20 آذار/مارس 2022). هذا الجزء الأخير كان على الأرجح السبب الذي أخّر بث الخطاب المتلفز، إذ يبدو أن الرئيس انتظر أن تصله الأرقام النهائية حول عدد المشاركين في الاستشارة قبل أن يتوجه إلى الشعب، وهي العملية التي راهن عليها قيس سعيد كثيراً..
عما نتحدث بالضبط؟
الاستشارة الوطنية هي أولى محطات خارطة الطريق التي أعلن عنها قيس سعيد في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021 لتوضيح رؤيته حول كيفية الخروج من مرحلة "الاجراءات الاستثنائية" التي انطلقت مع جمع السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد رئيس الجمهورية. ويفترض ان يليها استفتاء حول النظام السياسي في تموز/يوليو 2022، ثم انتخابات تشريعية في كانون الأول/ديسمبر 2022. ويرى الرئيس التونسي "أن تنظيم هذه الاستشارة يندرج في إطار صياغة تصوّر جديد يُمكّن الشعب التونسي صاحب السيادة من التعبير عن إرادته بكلّ حرية".
تونس: سقوف الرئيس وأعمدته وخرائطه..
31-12-2021
يشرح موقع الويب الذي خصص للغرض الفكرة أكثر: "تُمكِّن منصة الاستشارة الوطنية من اقتراح أفكار لتطوير رؤى ومقاربات جديدة تهتم بإدارة الشؤون العامة للجمهورية التونسية في جوانبها المختلفة. كما تهدف إلى جعل المواطن التونسي فاعلاً حقيقياً في عملية تطوير مفاهيم جديدة للخيارات الأساسية المرتبطة بالنظام السياسي والانتخابي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في تونس. ستتيح هذه الاستشارة للشعب التونسي، المالك الوحيد للسلطة، تحديد الإصلاحات الرئيسية التي يتطلع إليها. وستضع إطاراً ديمقراطياً للتداول حول مختلف المقترحات التي من شأنها أن تساعد في مواجهة التحديات الحالية التي تواجه التونسيين في مختلف المجالات". ووفقا لهذا المنطق اختير شعار "الاستشارة الوطنية... رأيكم ... قرارنا" للحملة الدعائية.
عندما تلج البوابة الالكترونية المعنية فلن تجد أعلى صفحة الاستقبال أي اشارة إلى الجهة المنظِّمة للاستشارة. فقط علم تونس وشعار الجمهورية دون ذكر لمؤسسة رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة أو أي وزارة. يُتاح للمستخدم الإجابة على أسئلة الاستشارة بثلاث لغات: العربية والفرنسية والانجليزية، لكن قبل ذلك يجب عليه ان يحصل على رقم سري يصله في رسالة قصيرة على شريحة هاتفه المحمول بعد ارسال رقم بطاقة الهوية الوطنية - أو رقم جواز السفر بالنسبة للتونسيين المقيمين بالخارج والذين لا يملكون بطاقة هوية وطنية - إلى رقم مجاني مخصص للغرض.
الاستشارة الوطنية هي أولى محطات خارطة الطريق التي أعلن عنها قيس سعيِّد في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021 لتوضيح رؤيته حول كيفية الخروج من مرحلة "الاجراءات الاستثنائية" التي انطلقت مع جمع السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد رئيس الجمهورية.
يجيب المشارك في الاستشارة على 30 سؤالا مقسمة بالتساوي بين ستة محاور: الشأن السياسي والانتخابي، والشأن الاقتصادي، والشأن الاجتماعي، والشأن التعليمي والثقافي، وجودة الحياة، والتنمية والانتقال الرقمي. ومع كل سؤال هناك عدة أجوبة مقترحة، وعلى المشارك اختيار إحداها أو بعضها حسب التعليمات المرفقة، ولديه ايضاً مساحة تعبير حر في نهاية كل محور (200 كلمة كحد أقصى). عموما يتولد لدى المشارك إحساس أن الأسئلة وإجاباتها موجهة بشكل أو بآخر نحو أولويات رئيس الجمهورية وتصوراته. هناك تركيز واضح على قضايا تثار دائماً في خطاب الرئيس: ضرورة تغيير القانون الانتخابي واعتماد نظام الأفراد لا القوائم، تمكين الناخبين من حق سحب الوكالة من ممثليهم في مختلف المجالس، تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، تعديل قوانين الأحزاب والجمعيات، اعادة تشكيل المنظومة القضائية، اللامركزية الاقتصادية، الخ.
لا خاب من استشار؟
انطلقت الاستشارة الوطنية يوم الأول من كانون الثاني/يناير 2022، وبدأت بفترة تجريبية لمدة أسبوعين في دور الشباب قبل أن تفتح للعموم. وعلى الرغم من الحملة الدعائية ونزول الرئيس بثقله في الدعوة للمشاركة، والشعبية التي يحظى بها، فإن مستوى المشاركة كان بكل المقاييس مخيباً لآمال المنظمين. فبعد شهر من انطلاقها، بلغ عدد المشاركين 113 ألف شخص فقط، وفي نهاية شهر شباط/فبراير لم يتجاوز عددهم 235 ألف شخص.
تونس على حدود الشرعية الديمقراطية
11-09-2021
هذه النتائج الهزيلة مثلت احراجاً كبيراً للرئيس وللمقربين منه، فاستنفروا الأنصار وأجهزة الدولة ووسائل الإعلام لتحفيز المواطنين، وسهلوا شروط المشاركة فتم مثلاً تخفيض السن من 18 إلى 16 سنة، مع السماح للتلاميذ بالتسجيل دون أن يكون لديهم رقم بطاقة هوية وطنية. أذن الرئيس بتوفير الانترنت مجاناً لاستعمال موقع منصة الاستشارة، ومكّن المقيمين بالخارج من الحصول على الرقم السري بالبريد الالكتروني عوضاً عن الرسائل القصيرة، كما سمح لمن لا يمتلكون شريحة هاتف خاصة بهم أن يستخدموا شريحة هاتف شخص آخر لكي يحصلوا على الرقم السري.
هذا الاستنفار أعطى أكله نسبياً إذ تضاعفت أعداد المشاركين خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة لتبلغ في منتصف ليل 20 آذار/مارس 534915 مشارك من جملة أكثر من 8 ملايين شخص يحق لهم المشاركة: 366210 ذكر و168705 أنثى. وعلى الرغم من أن عدد التونسيين المقيمين بالخارج يتجاوز مليون ونصف مليون شخص، فإن أقل من 8 آلاف شاركوا في الاستشارة.
كان مستوى المشاركة العامة بالاستشارة مخيباً لآمال المنظّمين. فبعد شهر من انطلاقها، بلغ عدد المشاركين 113 ألف شخص فقط، وفي نهاية شهر شباط/فبراير لم يتجاوز عددهم 235 ألف شخص. هذه النتائج الهزيلة مثّلت احراجاً كبيراً للرئيس وللمقربين منه، فاستنفروا الأنصار وأجهزة الدولة ووسائل الإعلام لتحفيز المواطنين
على المستوى العمري، نجد أن شريحة من هم بين 30-39 سنة هي أكثر الشرائح مشاركة في الاستشارة بنسبة 25.6 في المئة تليها شريحة من سنهم 40-49 ب 22.7 في المئة وشريحة 50-59 بنسبة 17.1 في المئة، في حين أن النسبة ضعيفة جداً عند الشباب، على الرغم من دورهم الهام في وصول قيس سعيد إلى المرحلة الثانية من رئاسيات 2019، ثم الفوز بها.
"لماذا لم ينخرطون في هذا"؟
هذا – حرفياً - السؤال الذي طرحه محافظ "بن عروس"، عز الدين الشلبي، معبراً عن غضبه من ضعف مشاركة الشباب والتونسيين عموماً في ما اعتبره -حرفياً مرة أخرى- "أهم حدث في تاريخ الدولة". كلام المحافظ المعروف بولائه الشديد لرئيس الجمهورية أثار موجة من السخرية على شبكات التواصل الاجتماعي، ليس فقط بسبب الخطأ اللغوي بل كذلك لإفراطه في التطبيل.
لكن، فعلاً لماذا لم "ينخرطون"؟
أولاً هي استشارة طوعية فليس لها طابع الزامي ولا تقريري، مما يجعل عدداً كبيراً من التونسيين لا يرى منها فائدة ولا يتحمس للمشاركة فيها كما لو كانت انتخابات مباشرة وحاسمة. ثانياً الشكل الالكتروني للاستشارة ينفر الملايين من التونسيين لضعف الثقافة الرقمية وقلة استخدام الخدمات الالكترونية (العدد الكبير لمستعملي فيسبوك وانستغرام لا يعني بالضرورة تمكناً جماعياً من مهارات استعمال الانترنت) وهناك كذلك تعقيدات التسجيل. وهذا قد حدث أيضاً في بداية عمل منصة اللقاح ضد كورونا. زد على ذلك ان الكثيرين من التونسيين لا يمتلكون حواسيب خاصة بهم أو هواتف ذكية. هناك أيضاً نوع من "الكسل"، فالاستشارة تشمل ثلاثين سؤالاً وعشرات الأجوبة. كما لا يمكن تجاهل حقيقة أن هناك عدد كبير من المواطنين "البسطاء" الذين لا يفهمون السياسة في جانبها "التقنوي" والمؤسساتي والحقوقي، وماهية الدولة وسير دواليبها، دون أن ننسى الأميين تماماً. فضلاً عن كل هذه المعوقات، قاطعت نسبة من التونسيين هذه الاستشارة بشكل متعمد وواعٍ إما خوفاً من اختراق بياناتها الشخصية أو من استغلالها سياسياً، أو كموقف معارض لرئيس الجمهورية وسياساته ورؤاه.
على المستوى العمري، نجد أن شريحة من هم بين 30-39 سنة هي الأكثر مشاركة في الاستشارة بنسبة 25.6 في المئة، تليها شريحة من سنهم 40-49 (22.7 في المئة) في المئة وشريحة 50-59 (17.1 في المئة)، في حين أن النسبة ضعيفة جداً عند الشباب على الرغم من دورهم في وصول قيس سعيد إلى المرحلة الثانية من رئاسيات 2019، ثم الفوز بها
باختصار هناك جملة من الأسباب المعقولة التي قد تفسر ضعف نسبة المشاركة في الاستشارة، لكن لا يبدو انها تبادرت إلى ذهن الرئيس وأعوانه وأنصاره أو اقنعتهم بشكلٍ كاف. خلال الأسابيع الأخيرة تكرر، في خطابات الرئيس أساساً، ذكر الأطراف المناوئة والمتآمرين الذين يريدون افشال الاستشارة واحباط الشعب ومنعه من التعبير الحر عن إرادته، وكأن هناك من اخترق الالكترونية أو عطّلها أو منع المواطنين من ولوجها، في حين ان المشاركة كانت متاحة للجميع. الدخول في حالة الانكار هذه - عوضا عن محاولة فهم أسباب الفشل - ترافق أيضاً مع نفس "ملحمي" في حديث الرئيس عن الشباب المشاركين في الاستشارة والذين يجوبون المدن ومحطات النقل والقرى والحقول لدعوة الشعب إلى تقرير مصيره، وكأنهم يبشّرون بعصر جديد أو يخوضون حرب تحرير.
ديمقراطية مباشرة أم مناورة سلطوية؟
تتكرر في خطابات سعيَّد لازمة "استرجاع الشعب لسيادته وقراره الحر"، وكانت "الديمقراطية القاعدية" أو "المباشِرة" حجر أساس حملته الرئاسية ومشروعه السياسي. يعتبر الرئيس التونسي أن الديمقراطية التمثيلية لم تعد تلبي تطلعات الشعب، كما انه لا يؤمن بدور الأحزاب كهياكل وسيطة بين المواطنين والدولة/السلطة. ومن أهم الاستراتيجيات "التسويقية" لفكرة الاستشارة الوطنية القول بانها تمكِّن الشعب من التعبير مباشرة عن تقييمه للنظام السياسي واداء الدولة، وكذلك مقترحاته للتغيير والإصلاح. لكن الرئيس يتناسى هنا - ومعه جيش المفسّرين لأفكاره وقراراته - ان هذه الاستشارة غير ملزمة وأن مخرجاتها ستُفحص من قبل لجان يعينها الرئيس لتصوغ مشاريع تنقيحات دستورية سيقترحها الرئيس في استفتاء شعبي يشرف عليه الرئيس ثم يصادق على نتائجه، ويبني بناء عليها النظام السياسي الجديد الذي ستكون فيه أيضاً انتخابات تشريعية ثم رئاسية... أي أن "الشعب" سينتخب ممثلين له في مختلف المجالس وهذا يعني اننا ازاء تشكّل ديمقراطية تمثيلية محسّنة أو مهجنة لا "ديمقراطية مباشرة". ولا يمكن الجزم هنا أن كان الأمر يتعلق بسوء فهم أو سوء نية.
خلال الأسابيع الأخيرة تكرر، في خطابات الرئيس أساساً، ذكر الأطراف المناوئة والمتآمرين الذين يريدون افشال الاستشارة واحباط الشعب ومنعه من التعبير الحر عن إرادته، وكأن هناك من اخترق الالكترونية أو عطّلها أو منع المواطنين من ولوجها، في حين ان المشاركة كانت متاحة للجميع
في الخطاب الذي ألقاه سعيَّد يوم 21 آذار/مارس عقب انتهاء الاستشارة، وردت جملة لم يتوقف عندها الكثيرون على الرغم من أهميتها وخطورتها: "بدأنا بهذه الطريق، بهذه الاستشارة الوطنية، وهي أول حلقة في الحوار الوطني". رئيس الجمهورية يعتبر أن الاستشارة الإلكترونية "حواراً وطنياً"، في مناورة صريحة والتفاف مفضوح حول دعوات الحوار الوطني التي تطلقها منذ أشهر أحزاب ومنظمات تونسية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل. الرسالة واضحة: قيس سعيد لن يتحاور مع أحد، وان فعل فبشكل صوري وبشروطه. ما الفائدة من الحوار والشعب قد قرر ما يريد؟
تونس: الثورة تنقسم على نفسها
13-01-2022
لا يرى سعيد ضرورة للقوى المدنية والحزبية والنخب عموماً، وهو لا يفوِّت فرصة لتهميشها متعاملاً معها كحاجز يحجب نوره عن "الشعب". من هذا المنطلق نفهم حرص الرئيس على المشاركة الواسعة في الاستشارة، فكلما زاد عدد المشاركين تدعمت شرعيته وتعزز موقعه في صراعه مع النخب التي تسعى هي أيضاً للدفاع عن وجودها في المشهد السياسي ودوائر القرار.
أما بعد..
فكرة الاستشارة الالكترونية كانت لتكون مبادرة جميلة وبنّاءة لو انها لم تنفذ كقنطرة لمشاريع ورؤى رئيس الجمهورية، وكساتر دخاني للتعمية على ضرورة تنظيم حوار وطني فعلي وجدي. يمكن تطبيق هذه الاستشارات بشكل بناء يساهم حقيقة في تعزيز دور المواطن في مناقشة قضايا محلية تمس حياته اليومية (مشاريع وخدمات البلديات والمحافظات) أو مسائل قطاعية حيوية (الصحة، التعليم، النقل، الخ) والمشاركة في صنع القرار. وحتى إن كانت النوايا من وراء الاستشارة الوطنية وغيرها من مبادرات ومراسيم وقرارات الرئيس طيبة، فإن الدول لا تُبنى على شخص واحد وبإرادته.