لا تخلو القوانين الجنائية العربية من قانون يجرِّم الاغتصاب. وهذا أمر عادي ومطلوب. لكن ما لا يوجد له مثيل ببقية القوانين الدولية هو وجود فصول نكاد نجدها في كل دول المنطقة، تنصّ على إعفاء مغتصب الأنثى غير البالغة أو التي في سن الزواج من الملاحقة القانونية في حال زواجه من مغتصبته. كما هو الشأن بالنسبة للمادة 424 من قانون العقوبات الليبي الذي ينص على أنه "إذا عقد الفاعل زواجه على المعتدى عليها تسقط الجريمة والعقوبة وتنتهي الآثار الجنائية سواء بالنسبة للفاعل أو للشركاء وذلك ما دام قانون الأحوال الشخصية للجاني لا يخوّل الطلاق أو التطليق". والمادة 522 من قانون العقوبات اللبناني والذي ينصّ على أنه "إذا عقد زواج صحيح بين مرتكب إحدى الجرائم الواردة في هذا الفصل وبين المعتدى عليها، أوقفت الملاحقة، وإذا كان صدر الحكم بالقضية علّق تنفيذ العقاب الذي فرض عليه، ويعاد إلى الملاحقة أو تنفيذ العقوبة قبل انقضاء ثلاث سنوات على الجنحة وانقضاء خمس سنوات على الجناية إذا انتهى الزواج إما بطلاق المرأة دون سبب مشروع أو بالطلاق المحكوم به لمصلحة المعتدَى عليها". والملاحظ أن المشرّع لم يسقط العقوبة بشكل كامل، ولكن ربطها بالزواج من المغتصَبة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو خمس سنوات، حسب الدولة. وهذا الموضوع يطرح نقاشات وتداعيات مجتمعية وقانونية ودينية عميقة بين مؤيّد لوجوده ومَن ينادي بحذفه من كل المدوّنات القانونية.
وعلينا أن نعترف أن القوانين تعبر بمقدار كبير عن توجه المجتمعات التي سنت فيها، والعالم العربي يحكمه هاجس المرأة والشرف، وعلى هذا الأساس وجد في تزويج المغتصَبة من مغتصِبها وسيلة يضمن من خلالها مستقبل الفتاة ووضعيتها داخل المجتمع، وهو الهدف الظاهر على ما يبدو من سنِّ هذه القوانين.
وضع المرأة المغتَصَبة داخل مجتمعها
التعامل مع الاغتصاب أو العنف الجنسي يتم بشكل يختلف عن بقية الجرائم نظراً لحساسيته الشديدة، فالمرأة ليست دائماً ضحية في هذه الجريمة، حيث إن المجتمع العربي، الذكوري، ينزع طابع العفة عن الفتاة المغتصبة، وتصبح على الأغلب منبوذة من العائلة والمجتمع لكونها جلبت العار والفضيحة، بل وقد تحمل وزر تعرّضها للاغتصاب بسبب طريقة لباسها أو اضطرارها للعمل حتى أوقات متأخرة، هذا إن لم يتمّ قتلها كما حدث مع الشابة السورية سلمى التي تعرّضت للاغتصاب وهي في المعتقل، وبعد خروجها قتلها أهلها لإيمانهم بأن قضايا الشرف لن تداويها الملاحقة القانونية. والقصص من هذا النوع كثيرة وموجودة بلا استثناء في الدول العربية كلها، ولعلها ما يدفع بهذه الجريمة إلى أن تدخل في نطاق الجرائم المسكوت عنها، والتي لا يتم الإبلاغ عنها دائماً لدى السلطات المحلية. خاصة أن ليست هناك بدائل عملية تلاؤم بين جبر ضرر المغتصَبة واستمرار عيشها بكرامة داخل مجتمعها، وعقاب الجاني في الوقت نفسه. وهذا ما يجعل من اللجوء إلى تزويج المغتصبة من مغتصبها حلاً مناسباً للخروج من المأزق مع أن هذا قد يعني أيضاً أن المشرّع يكون بذلك قد كافأ المغتصِب بمنحه الحق في استمرار حالة الاغتصاب بحماية القانون والمجتمع، ومهّد له الطريق للإفلات من العقاب، خاصة أنه قد يتزوج بها إلى أن تنتهي المدة المنصوص عليها قانوناً والتي تعفيه من الملاحقة ويتركها، أو يتزوّج عليها خلال فترة الزواج وينبذها إلى أن تنقضي المدة القانونية.
وبالعودة إلى شرعية الزواج نفسها، نجد أن هناك حالات مختلفة بين مَن تتزوّج بموافقتها لاقتناعها بأن هذا هو الحل المتاح أمامها للحفاظ على كرامتها داخل المجتمع، وبين من يتمّ إرغامها على هذا الزواج، وهي المرغمة بكل الأحوال، حيث تطرح إشكالية شرعيته الدينية، لأنه لا زواج بالإكراه، وعقد الزواج الذي تمّ بالإكراه يكون فاسداً ولا تترتب عليه آثار الزواج الصحيح. كما يطرح المشكل أيضاً في حال نتج عن الاغتصاب حمل، ونسب الطفل، ويكون المشكل أعقد في حال كان الاغتصاب جماعياً، ثم هل يسقط الزواج حد الزنا عن الجاني؟ وفي جميع هذه الحالات يمكن القول إن المرأة هي الضحية الأولى والأخيرة.
تداعيات نفسية عميقة
على غرار العديد من الدول العربية، فالقانون الجنائي المغربي نص في وقت سابق في فصله 475 على أن القاصر التي اختطفت أو غُرِّر بها إذا كانت بالغة، وتزوج بها من اختطفها أو غرر بها، لا يمكن متابعته إلا بناء على شكوى من شخص له الحق في طلب الزواج، ولا يمكن الحكم بمؤاخذته إلا بعد صدور حكم بهذا البطلان حقاً. وهو القانون الذي كان سبباً لتزويج العديد من الفتيات البالغات بمن قام باغتصابهن، واللواتي وافقن بإرادتهن أو بضغط العائلة لتفادي مواجهة المجتمع في ما بعد، وهذا تحديداً هو ما تم مع أمينة، الطفلة التي كانت تبلغ من العمر 15 سنة حينما تعرّضت للاغتصاب، فكان مصيرها الزواج من مغتصبها بعد تسوية بين العائلتين، وبعد عام على هذه الزيجة أقدمت أمينة على الانتحار مفجّرة بذلك قضية تزويج المغتصَبة من مغتصبها والتداعيات النفسية التي تخلفها مثل هذه الزيجات، التي تفرض على الفتاة العيش مع رجل من الطبيعي أن تحمل له مشاعر الكراهية والقرف، بالإضافة إلى أن أغلب المتزوّجات من مغتصبيهن يعشن ظروفاً قاسية، تصل إلى الضرب والتنكيل والتعذيب. حادثة أمينة تسببت بإلغاء الفصل 475 من القانون الجنائي المغربي، ولم يعُد المغتصِب يُعفى من العقوبة.
وإذا كان هذا الإلغاء قد لاقى ارتياح الجمعيات الحقوقية إلا أنه فتح من جديد النقاش حول هذا الزواج، كفرصة للتستر على الفتاة، وخاصة إذا تم برغبتها. ولهذا نجد أن بعض المجتمعات العربية لا زالت تجد فيه الحل المتاح وتتحايل من أجل تطبيقه، على الرغم من عدم وجود القانون، كما هو الشأن بالنسبة لمصر منذ سنوات. فالعديد من حالات الاغتصاب يتم اللجوء فيها إلى تقديم شهادة زواج عرفي بتاريخ سابق، بسبب إلغاء قانون عدم ملاحقة المغتصب في حال زواجه من الفتاة.
فهم أسباب تنامي ظاهرة الاغتصاب والعنف الجنسي في مجتمعاتنا ضروري بالتلازم مع تفعيل القوانين أو تغليظها. وهي أسباب مرتبطة بشكل أو بآخر بغياب التربية الجنسية، وارتفاع البطالة بين صفوف الشباب وتدهور الوضع الاقتصادي والجهل والأمية.. وسيادة العقلية الذكورية والنظرة الدونية للمرأة والتي لا تراها ولا تتعامل معها إلا ككائن جنسي.