لا يعلم العديد من ساكني المنطقة العربية أن هناك جماعات عرقية تدعى الأمازيغ تعيش في المنطقة الجغرافية الممتدة من المحيط الأطلسي غربا إلى سيوة بمصر شرقا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى جنوبا. فهم يعتبرون أن هذه المنطقة هي عربية تماماً، وذلك راجع لكون مناطق كبيرة استعْربت مع حلول الإسلام، كما انتهجت الدول بعد الاستقلال سياسة التعريب، مقصية بذلك الهوية الأمازيغية بشكل شبه كلي. ويعود ذلك بالأساس لكون دول شمال إفريقيا آنذاك كانت ما تزال في مرحلة استيعاب ميكانيزمات الديمقراطية والاعتراف بحقوق الأقليات وحقوق الإنسان بشكل عام. ولعل هذا الإقصاء هو الذي جعل قضية الهوية الأمازيغية تطرح بشكل كبير وخاصة في السنوات الأخيرة، حيث اعتبر الأمازيغ أن من حقهم إعادة إحياء ثقافتهم بشكل ملموس داخل الدولة وليس التعامل معها كأنها تراث عفا عنه الزمن. وخاصة وأن الأمازيغي يعتبر نفسه ابن الأرض الأصيل، ويرفض كل الآراء التي تضاربت بشأن أصوله، التي اعتبرها البعض أوروبية ولها صلة بالجنس الوندالي المنحدر من ألمانيا تحديدا، الذي سبق له أن استعمر شمال إفريقيا، أو من المشرق وشبه الجزيرة العربية، حيث يقال أنهم نزحوا من اليمن تحديدا. يستبعد ابن خلدون الفرضية، كما يرفضها الأمازيغ أنفسهم على اعتبار أنهم سبقوا العرب أصلا إلى المنطقة.. وبناء على وجهة نظر وأبحاث أركيولوجية وأنثروبولوجية، يميلون إلى اعتبار أن الأمازيغي وُجد بالقارة منذ القدم ولم يهاجر إليها من أي مكان بالعالم بل هو من سكانها القدامى.
أسماؤهم
عرف الأمازيغ بأسماء عديدة منها مور moor، وأشار إليهم المؤرخ هيرودوت باسم ماكسيس، وكان العرب يطلقون عليهم اسم البربر. والبربر هي كلمة مشتقة من اليونانية، استعملها اللاتينيون كدلالة عن الشعوب التي لا تتكلم اللاتينية أو الإغريقية، وهي تعني أيضا الشعوب الهمجية، وهي كلمة يرفضها الأمازيغ بالمطلق ويفضلون استعمال تعبير أمازيغ بدلها.
إشكالية الهوية
الهوية جزء لا يتجزأ من الصفات الجوهرية لأي إنسان، وهي التي تميزه عن غيره، وتعطيه الإحساس بالانتماء والاستمرارية، وتحدد علاقته بالآخر، وهي ثقافته وحضارته وتاريخه، ووعاء الضمير الجمعي، وتطرح إشكالات عميقة. والإنسان بطبعه ما فتئ يناضل من أجل إيجاد حلول لقضاياه الشخصية وللحفاظ على استقلاله وعلى هويته. وعلى هذا الأساس انتعشت الحركة الأمازيغية والمطالب بالاعتراف بها، وخاصة مع سيادة ثقافة حقوق الإنسان وتأثير العولمة.
وفي المغرب، تطور الاعتراف بالأمازيغية بشكل تصاعدي، وبرز وعي قوي بأهمية ذلك، خاصة وان الأمازيغ بالمغرب يشكلون أكثر من نصف الساكنة، فتحولت القضية الأمازيغية إلى شأن عام وليس فقط نخبوياً، فهي مكون من مكونات الهوية في الدولة والتي تتميز بتعدد اللغات والأعراق، وهو ما جعلها تتخذ العديد من الخطوات الجادة والملموسة وعلى رأسها تأسيس "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" الذي فتح آفاقاً واسعة أمام الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية. وكذلك دخولها للإعلام الرسمي وإطلاق قناة أمازيغية تلفزيونية تلاها قرار جواز الاستِـعانة بمترجمين للأمازيغية بالمحاكم، وتوحيد الحرف الامازيغي في حرف تيفيناغ، وذلك لأن ليس هناك لغة واحدة، ولكن لغات أمازيغية. وأخيرا دسترت إلى جانب اللغة العربية من خلال الفصل الخامس من الدستور الأخير للمغرب لسنة 2011 الذي نص على أنه "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.."، وهو ما يعني أن هذا البعد من الهوية شكل مصدرا مهما استقى منه المشرع المغربي اليوم العديد من نصوصه القانونية. (إقرأ أيضاً: الجزائر: اللغات وهستيريا الهويات)
الأعراف الأمازيغية كمصدر للعديد من القوانين المغربية
كان الدستور محقا في اعتباره الامازيغية رصيدا مشتركا لكل المغاربة، ذلك أن العديد من القوانين اليوم هي من أصل أمازيغي وضاربة في جذور التاريخ، وهو ما لا نجده في بقية الدول العربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر الفصل 49 من قانون الأحوال الشخصية، الذي ينص على أن لكل من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الأخر، غير أنه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية الاتفاق على استثمارها وتوزيعها.. وإذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع للقواعد العامة للإثبات مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين، وما قدمه من مجهودات، وما تحمله من أعباء منزلية لتنمية أموال الأسرة. وبذلك يكون الفصل 49 من مدونة الأسرة المغربي قد تبنى العرف الأمازيغي والمتمثل في ما يطلق عليه الأمازيغيون "تمازالت" أي ما يعرف فقهيا وعند المالكية ب"الكد والسعي"، والذي كان مطبقا في المجتمع الأمازيغي قبل الاستعمار ودخول الحماية، حيث كان يستند على حق المرأة في جزء من أموال زوجها لأنها شريكته في تنمية ثروته، وعلى هذا الأساس يتم منحها نسبة من أمواله في حالة الطلاق أو الوفاة مقابل ما بذلته من مجهودات مادية ومعنوية إلى جانب زوجها، وهو ما صار قانونا معمولا به اليوم بالمغرب.
كما تبنى التشريع المغربي العديد من الأعراف التي لا زالت سارية إلى اليوم كتعيين ممثل للهيئات المهنية أو ما يعرف عند الأمازيغيين بأنفلوس، والذي يكلف بالدفاع عن مصالح المهنيين وعرض مشاكلهم، ما يفسر حركية المجتمع المدني اليوم بالمغرب النشط في تصريف العديد من المشاكل داخل المجتمع.
ومن جهة أخرى نجد أن الامازيغ كانوا يعتمدون في تسيير شونهم الخاصة على تحرير لوح يقع تحت إشراف الجماعة، وفي اجتماع عام، ويتضمن ما تم الاتفاق عليه في تسيير شؤون القبيلة أو الجماعة، أي أنه كانت لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص كما هو معمول به اليوم..
وإذا كانت مطالب الأمازيغ أو أي جماعة عرقية أو إثنية أو دينية مشروعة للاعتراف بها داخل مجتمعها، إلا أننا يجب أن نقر من جهة بأن أي مشروع تنموي داخل الدولة لا بد وأن يأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع الثقافي، وأن لا يقصي أي طرف على حساب الطرف الآخر، ومن جهة ثانية أن نؤكد على أن التشبث بالهوية لا يجب أن يحوِّل الحركات الأمازيغية إلى حركات منغلقة متطرفة ترفض كل ما هو غير أمازيغي، أو أن يتحول الصراع إلى صراع عربي/أمازيغي.