المغرب من أكثر الدول العربية والإسلامية احتضاناً للزوايا والأضرحة والمزارات، حيث تكاد لا تخلو قرية أو مدينة من ضريح أو مزار، حتى سمي ببلد الألف ولي. وللزوايا والأضرحة بالمغرب حضورها وأهميتها داخل نسيج المجتمع وحياته، وخصوصاً أن لها جذوراً ضاربة في عمق تاريخه الديني والسياسي منذ الأدارسة إلى العلويين الذين يحكمون المغرب اليوم، حيث ارتبطت من جهة بالنسب الشريف أو الانتساب لآل البيت وروجت للأيديولوجية الشريفية. كما ارتبطت من جهة أخرى بالتصوف الذي اتخذ أشكالاً متعددة تراوحت بين التصوف الفردي الذي يمثله مزار الضريح، والتصوف المؤسساتي الذي تدخل في إطاره الزاوية التي لعبت أدواراً مهمة في تاريخ المغرب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في فترة ما قبل وأثناء الاستعمار، حيث كانت الزاوية بمثابة سلطة محلية قائمة بذاتها، يساندها أعيان القبيلة وسكانها، وتمكنت من أن تفرض نفسها على "المخزن" (الدولة المركزية) كقوة حقيقية. كما لعبت دور إطعام وتغذية المحتاجين أيام المجاعات، وإيواء الفقراء خصوصاً في فترات الأزمات والحروب. واعتمدت في ذلك على أملاكها الخاصة، بالإضافة إلى تلقيها الهبات والهدايا المتواصلة أو ما يعرف بالزيارة.
قصص الأولياء ومنهم نساء
وتستند الأضرحة والزوايا على كرامات الولي الذي يُدفن في قبر في أرض خاصة به وليس في مقبرة مع بقية المسلمين، أو يُدفن بداخل الزاوية. ويُشيَّد على القبر بناء يُغطى بأثواب خضراء عليها بعض الآيات القرآنية لربطه بالدين الإسلامي، ولشرعنته أمام زواره الذين يرفضون نعت ما يقومون به من ممارسات على أنها خارجة عن الإسلام أو شرك بالله، ما دام الولي يتصف بالورع والتقوى والصلاح. ويبقى لكل ولي صالح قصصه الخاصة وكراماته الخارقة التي تتجاوز حدود المعقول أحياناً، وتدرج في إطار الأساطير والخرافات، تتوارث سردها الأجيال وتكون محل ثقة، خاصة في صفوف الأميين أو من يعتقد بقدرات الأولياء فوق الطبيعية التي منحها له الله نظراً لالتزامه الديني وزهده وتصوفه. وبالتالي يعول عليه في وساطته مع الله الذي يستجيب له. فهؤلاء الأولياء أموات، ولكنهم في نظر من يقومون بزيارتهم ويطمعون ببركاتهم أحياء قادرون على حل مشاكلهم. وما يلفت الانتباه بزوايا المغرب أنها لا تقتصر على الذكور فقط، بل تنتشر العديد من الأضرحة التي تحمل أسماء نساء ارتبط اسمهن أيضا بكرامات وحكايات عن تقواهن وورعهن، وتتم زيارتهن والتبرك بهن تماما كما أضرحة الرجال. ومن جهة أخرى يوجد بالمغرب أضرحة مقدسة ليهود يتم تنظيم موالد وزيارات سنوية لها من قبل يهود مغاربة ويهود قادمين من مختلف دول العالم، يقيمون خلالها صلوات ويتبركون بها تماماً كما يحدث عند أضرحة المسلمين.
أولياء متخصصون
والى اليوم ما زالت قدرات الأولياء في مخيال شريحة مهمة من المجتمع المغربي تعتقد بكراماتهم وبركتهم. وعلى هذا الأساس يتم اللجوء لهم من أجل طلب قضاء العديد من الأمور الدنيوية والتبرك بهم، وللشفاء من الأمراض.. كما أن بعض الزوايا والأضرحة تخصصت في أمور بعينها، سواء في شفاء أمراض محددة أو من أجل قضاء أمور بعينها، كالزواج وإنجاب الأطفال وإرجاع الغائب.... وبالطبع يدأب كل زائر على تقديم العديد من الهبات والهدايا لخدّام الضريح الذين يكونون غالباً من أحفاد الولي أو من سكان المنطقة، والذين يعيشون على هذه العطايا. وهي ترتفع إذا ما تم المراد وقضيت أغراض القاصدين. وغالباً ما تكون الهبات والهدايا عبارة عن أموال أو ذبائح تقدَّم لدعم القائمين على خدمة الضريح أو كقربان للضريح نفسه. وتنتشر حول الضريح دور وأماكن عديدة مخصصة لممارسة طقوس الشعوذة وقراءة الطالع وفك السحر. وهناك العديد من الزوايا بالمغرب التي لا يزال روادها يقيمون جلسات الذكر وليالي الصلاة مع رقصات خاصة تعرف بالحضرة، كما هو الشأن بالزاوية البودشيشية والدرقاوية والكركية وغيرها.
ويلاحظ أن السلطات عملت، وخاصة في السنوات الأخيرة، على دعم التدين الشعبي والزوايا كثيراً، كما عملت على إعادة إحياء زوايا وموالد بعض الأضرحة التي كانت شبه منسية. ومعروف عن الزوايا أنها لم تكن لها مطامح سياسية قوية، وخاصة بعد الاستقلال. وعلى أية حال، فالزوايا التي كان لها نشاط سياسي حقيقي وملموس نادرة، وهو حال الزاوية الخمليشية والتي كان لها نشاط سياسي منذ تأسيسها على يد الشيخ "سيدي يحيى خمليش" أواخر القرن السابع عشر، وهي تمكنت من استقطاب شريحة كبيرة في المجتمع الريفي الأمازيغي، بل توسعت لتشمل العديد من القبائل بمنطقة "الريف" (المنطقة الممتدة على طول المتوسط) التي انتظمت في شكل كونفدرالية بقيادة شيخ الزاوية، وكان لها بالإضافة إلى النشاط السياسي نشاط عسكري.. وكل هذا بالموازاة مع نشاطها الروحي، وهو ما منح هذه الزاوية خصوصيتها إلى اليوم، بحيث كانت تشكل سلطة سياسية قائمة بذاتها في دائرة نفوذها، مقابل السلطة المركزية.
التدين الشعبي والتدين الروحي
.. وإلى اليوم، فالإسلام التصوفي والزوايا من أكثر التجمعات المريحة للسلطة، ولا تشكل أي قلق لها أو خطر عليها، كما أنها لا تنحو باتجاه العنف. وهذا ما يفسر دعم السلطة لها وتوقير نخبها ومنحها الهبات والهدايا. اعتمدت الدولة سياسة إحياء الطرق الصوفية منذ تسعينيات القرن الماضي، وخاصة مع بدايات انتشار التيارات السلفية بالمغرب وحركات الإسلام السياسي. وهذه الأخيرة تختلف عن التدين الشعبي أو التقليدي المرتبط خاصة بالزوايا والتصوف، والذي يُعدّ تديناً طقوسياً وسلمياً بامتياز، بعيداً عن الشأن العام والشأن السياسي، بينما تدعو حركات الإسلام السياسي لقلب النظام والمطالبة بنظام الخلافة والملك العضوض الخ.. ويرنو بعض الحركات السلفية إلى ممارسة العنف والجهاد ورفض النظام القائم.
لذا كان من الطبيعي أن تتبنى الدولة استراتيجية توظيف قوى اجتماعية وسياسية مقابل أخرى، عن طريق دعمها المباشر أو غير المباشر لها، وهو ما ستنجح فيه إلى حد كبير. إذ نشهد مهرجانات سنوية للعديد من الزاويا والأولياء، غالباً ما يتم افتتاحها من قبل السلطات المحلية التي تخصص لها هبات نقدية بالإضافة إلى المساعدة في تنظيم وتأمين المَوْلد، أو ما يعرف في المغرب بـ "الموسم"، في ما يشبه لعبة تبادل للشرعية أو الشرعنة. كما أن الإعلام يلعب دوراً كبيراً في الترويج لها عن طريق برامج تعريفية بالزاوية أو متابعة احتفالياتها السنوية في فترات إحياء المواسم أو الموالد داخل الزاوية أو الضريح.
وهكذا، فهناك فارق بين الأضرحة والزوايا، لجهة الفئات الاجتماعية التي ترتادها ولجهة "وظائفها" السياسية على الأقل. وفيما يتراجع "التدين الشعبي" في المغرب ويبقى محصوراً بالطبقات الفقيرة التي ما زالت تزور أضرحة الأولياء الصالحين للتبرك.. يتعاظم نفوذ الزوايا (ما يسمى "التدين الروحي") في بعض مناطق المغرب، حيث ظهرت زوايا جديدة استطاعت استقطاب مريدين من كل الطبقات. والزاوية مؤسسة قائمة بذاتها، فبالإضافة إلى الولي المؤسِس لها، يوجد شيخ للزاوية من حفدته أو من الصالحين، يتوارث المهمة الى اليوم. وتنظم الزاوية حلقات للذكر والصلاة وشيخها شبه مقدس، ويصل تأثيره إلى دول افريقية مختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للزاوية أو الطريقة التيجانية التي امتد تأثيرها من فاس إلى كل بلدان المغرب العربي والعديد من الدول الأفريقية كالسنغال والسودان.
كما أن هذا النوع من التدين استطاع استقطاب العديد من المريدين الغربيين الذين ينسجمون مع الطابع الروحاني للممارسات والطقوس الدينية للزوايا، وهو ما نشهده اليوم بالزاوية البودشيشية التي تعرف انتشاراً كبيراً في المنطقة الشرقية للمغرب، ومريدوها بالآلاف من داخل وخارج المغرب.
المتغيرات التي يعيشها المجتمع المغربي في إطار التطور الطبيعي للمجتمعات وفي إطار العولمة والانفتاح على الآخر كان له تأثير في تراجع دور الأضرحة في حياة الأفراد، ولكن هذا لا يعني أنها تسير نحو نهايتها، فحتى المجتمعات الأكثر عقلانية لم تتخلص إلى اليوم من مثل هذه المعتقدات.