“المفكرة” تدقّ ناقوس الخطر: التحقيق في جريمة المرفأ دخل في غيبوبة تامّة

منذ نهاية أيلول 2021، اعتمد الوزراء السابقون المدّعى عليهم استراتيجية تكثيف الدعاوى الموازية للتحقيق في جريمة المرفأ، فتقدّموا لغاية اليوم ب 21 دعوى: 11 دعوى لإزاحة بيطار و9 دعاوى لإزاحة 8 قضاة ينظرون في طلبات إزاحة بيطار. وقد عمدوا بشكل منسّق إلى تقديم الدعاوى نفسها أمام المحاكم ذاتها مستخدمين الحجج نفسها، فيما شكّل تعسّفاً واضحاً في ممارسة حق الدفاع.
2022-03-17

شارك

دخل التحقيق العدلي في جريمة مرفأ بيروت في غيبوبة تامّة على إثر تجميده في نهاية العام الفائت وارتباط عودته بصدور قرار عن الهيئة العامّة لمحكمة التمييز في دعوى جديدة لمخاصمة الدولة تقدّم بها المدّعى عليهما علي حسن خليل وغازي زعيتر في نهاية شباط. بالرغم من عدم جديّة هذه الدعوى وترجيح رفضها شكلاً وفقاً للاجتهادات السابقة، إلّا أنّ الهيئة العامّة لمحكمة التمييز عاجزة عن الانعقاد للنظر فيها بسبب فقدانها النصاب بعد تقاعد أغلب أعضائها من دون تعيين بديل عنهم. فأصبح إنجاز تشكيلات قضائية جزئية المدخل الأساسي لعودة التحقيق، إلّا أنّ هذه التشكيلات معطّلة لغاية اليوم بفعل الضغوط السياسية، ممّا يعني استمرار تجميد التحقيق من دون أي أفق.

في موازاة ذلك، لا تزال الأجهزة الأمنية كافّة تمتنع عن تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عن المحقق العدلي طارق بيطار بحق المدّعى عليهما يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل من دون أي مبرر قانوني. ويشكّل ذلك تمرّداً واضحاً على سلطة القضاء. هكذا، تمّكن مدّعى عليه فار من العدالة ولم تنفذّ مذكرة التوقيف بحقّه (خليل)، من تعطيل التحقيق برمّته بموجب دعوى تعسّفية.

في 4 آذار 2022، يدخل التحقيق أسبوعه الحادي عشر من التجميد، وهي المرّة الرابعة التي ينجح فيها الوزراء السابقون المدّعى عليهم في تجميده. ويندرج هذا التجميد الأخير ضمن جهود الوزراء لعرقلة مسار ملاحقتهم من خلال استراتيجية تكثيف الدعاوى الموازية (21 دعوى لغاية اليوم) التي تهدف إلى كفّ يد بيطار والقضاة الناظرين في طلبات كفّ يده. ونتيجة لتعسّفهم في استخدام حق الدفاع وإغراقهم المحاكم نفسها بالدعوى ذاتها ومستخدمين الحجج نفسها، بلغ مجموع أيّام تعطيل التحقيق 113 يوماً.

وفي حين استخدمت القوى السياسية المناوئة للتحقيق شتّى الوسائل لإزاحة بيطار وفبركة الارتياب بأدائه وصولاً إلى تعطيل الحكومة لمدّة ثلاثة أشهر، ها هي تلك القوى تلجأ اليوم إلى تعطيل التحقيق بالكامل أو إخضاعه لخطوط حمراء تحددها التسويات السياسية. والنتيجة ذاتها: السطو على العدالة وتعميم الإفلات من العقاب مع قهر الضحايا، كلّ الضحايا.

إذ تعيد “المفكرة القانونية” التأكيد على وجوب الاجتهاد في اتجاه إسقاط الحصانات وتنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عن المحقق العدلي بحق الوزراء المدعى عليهم، ندقّ ناقوس الخطر أمام ما وصلت إليه أوضاع العدالة في قضية المرفأ بفعل السلطة السياسية الحاكمة، داعين مختلف القوى السياسية والاجتماعية إلى تحمّل مسؤولياتها في هذا الخصوص، قولاً وفعلاً، لضمان الحقيقة للمجتمع والعدالة للضحايا والمحاسبة للمرتكبين.

كما ندعو إلى أوسع تضامن مع الضحايا وذويهم، والالتفاف حولهم ودعم مطالبهم ومناصرتهم في مختلف وقفاتهم وبخاصة وقفاتهم الشهريّة في الرابع من كلّ شهر أمام تمثال المغترب.

تجدون أدناه تفاصيل إضافية حول مساعي السلطة السياسية في تعطيل التحقيق في جريمة المرفأ.

كيف حوّلت القوى السياسية قضية المرفأ من مشكلة إفلات من العقاب إلى مشكلة حول أداء قاضٍ؟

منذ وقوع التفجير، كان رهان “المفكّرة” على أهمية تولّي القضاء اللبناني مسؤولية التحقيق في هذه الجريمة (التي لكانت أسقطت أي نظام في أي دولة أخرى غير لبنان) بالنظر إلى كونه الطريق الأكثر جدوى لتطوير منظومة العدالة في لبنان. وقد بدا الرهان في صدد إنتاج ثماره على أثر جهود المحقق العدلي طارق بيطار، وقبله القاضي فادي صوّان، في تحدّي أنظمة الحصانات والإفلات من العقاب من خلال إصرارهما على اختصاص القضاء العدلي في ملاحقة الوزراء المدعى عليهم، وبخاصّة بعد فشل مساعي بعض النوّاب في تهريب الوزراء المدّعى عليهم من قبضة القضاء وسقوط عريضة العار في المجلس النيابي في آب 2021.

إلّا أنّه سرعان ما استشعرتْ القوى المتضرّرة من التحقيق محدوديّة استراتيجيتها في الدفاع عن منظومة الحصانات. فانتقلتْ بشكل تدريجي ولكن ممنهج وواضح إلى مرحلة الهجوم على المحقّق العدليّ بهدف إبعاده. وإذ باشرتْ استراتيجيتها الهجومية بفبركة ارتياب في هذا الأخير في الخطاب العامّ، لجأت، بدءاً من أيلول 2021، إلى شتّى أنواع الدعاوى أمام المحاكم، وبخاصّة الدعاوى التي من شأنها وقف التحقيقات بصورة فورية. وبعد فشل الدعاوى الأولى المقدَّمة منها، انتهتْ إلى تصعيد المواجهة ووسائل الضغط المباشر في مسعى منها لفرض ما تراه عادلاً، أو بكلمة أخرى عدالتها الخاصّة. وقد بلغتْ هذه المساعي أقصاها مع تعطيل الحكومة لمدّة ثلاثة أشهر في نهاية 2021 في ظلّ أسوأ أزمة يعيشها لبنان إلى حين تحقيق غايتها المنشودة. وقد بدتْ هذه القوى في معركة مفتوحة وغير متكافئة لكفّ يد بيطار، غير آبهة بأيّ ضوابط في لعبتها المفتوحة هذه ولا بمظهر اللاتكافؤ الذي بات فاقعاً أكثر في ظلّ تخلّيها عن هذه الضوابط.

وإذ منيَتْ تلك القوى بفشل ذريع في إقناع الرأي العام بسدادة موقفها بشأن الحصانات، نجحتْ في المقابل استراتيجيتها الهجومية وحملات التّشكيك السياسيّة والإعلاميّة بشأن أداء المحقّق العدلي بيطار وما استتبعَها من ردود أفعالٍ سياسية، في تحويل المشكلة من مشكلة حصانات وإفلات من العقاب إلى مشكلة أداء القاضي بيطار ومشروعيته بدرجة كبيرة. ومن شأن ذلك التحوّل أن يُفقِد القضية وضوحها لتنتهي كما انتهتْ إليه قضايا حقوقية عدّة في وحول التّسييس والتّطييف.

في المقابل لم تقدّم القوى المناوئة لبيطار أي رؤية لكيفية انتظام سير التحقيق في هذه القضية، فجاء خطابها خالياً من أيّ أفق في ظلّ انسداد أفق المحاسبة وطغيان الأساليب التي من شأنها أن تدمّر أي عمل قضائي بمعزل عن مدى صوابيّته، مما يفاقم من أزمة العلاقة بين القضاء من جهة والسياسيين وأصحاب نفوذ من جهة أخرى.

لماذا التجميد الأخير للتحقيق هو الأخطر؟

منذ نهاية أيلول 2021، اعتمد الوزراء السابقون المدّعى عليهم استراتيجية تكثيف الدعاوى الموازية للتحقيق في جريمة المرفأ، فتقدّموا لغاية اليوم ب 21 دعوى: 11 دعوى لإزاحة بيطار و9 دعاوى لإزاحة 8 قضاة ينظرون في طلبات إزاحة بيطار. وقد عمدوا بشكل منسّق إلى تقديم الدعاوى نفسها أمام المحاكم ذاتها مستخدمين الحجج نفسها، فيما شكّل تعسّفاً واضحاً في ممارسة حق الدفاع. وفي حين رفضت المحاكم جميع هذه الدعاوى، لا تزال ثلاثة مقدّمة من علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس عالقة لغاية اليوم.

بعد تعليق التحقيق للمرّة الأولى على إثر تنحية القاضي فادي صوّان، أدّت تلك الدعاوى إلى كفّ يد بيطار مؤقتاً عن التحقيق أربع مرّات، وذلك لتسعة أيّام في أيلول وتشرين الأوّل 2021 بناء لطلب نهاد المشنوق وزعيتر وخليل بهدف منع انعقاد جلسات التحقيق معهم، ولمدّة شهر في تشرين الثاني 2021 بموجب قرار غير قانوني صدر عن القاضي حبيب مزهر بناء لطلب فنيانوس. أما اليوم، فالتحقيق مجمّد منذ نهاية العام 2021 بموجب طلب ردّ جديد من زعيتر وخليل، ليبلغ مجموع أيّام التجميد 113 يوماً منذ نهاية أيلول 2021 لغاية 4 آذار 2022. لكنّ هذا التجميد الأخير يزيد منسوب القلق على مصير العدالة في جريمة المرفأ.

ففي 16/12/2021، تقدّم علي حسن خليل وغازي زعيتر، وهما نائبان عن حركة أمل، بدعوى خامسة أمام الغرفة الأولى لمحكمة التمييز لردّ المحقق العدلي طارق بيطار، وطلبوا من خلالها إعادة النظر في طلبهما الرابع الذي كانت المحكمة قد رفضته في 14/10/2021 لعدم الاختصاص. وقد تمكّنا من إعادة إحياء دعواهما لردّ بيطار بعدما ثبّتت الهيئة العامة لمحكمة التمييز في 25/11/2021 صلاحية محكمة التمييز للنظر في طلبات ردّ المحقق العدلي على نحو يسمح بإعادة تعليق التحقيق.

على أثرها، أصدر القاضي ناجي عيد، وهو رئيس الغرفة الأولى لمحكمة التمييز، قراراً في 23/12/2021 بتبليغ بيطار دعوى الردّ، مما أدّى إلى تجميد التحقيق إلى حين صدور قرار الغرفة الاولى. لكنّ لتعقيد الدعوى وإطالة أمدها، أضاف خليل وزعيتر في 4/1/2022 طلب ردّ آخر بحقّ القاضيين ناجي عيد وروزين غنطوس وهي مستشارة في المحكمة، مما منعهما من النظر في طلب ردّ بيطار إلى حين البتّ بطلب ردّهما. وفي 25/1/2022، قررت الغرفة الثانية لمحكمة التمييز (برئاسة القاضية رلى المصري) رفض طلب ردّ عيد وغنطوس، في خطوة أولى تمهيداً لعودة التحقيق.

لكنّ خليل وزعيتر عادا وتقدّما بدعوى أخرى أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز لمخاصمة الدولة عن قرار عيد الصادر في 23/12/2021 بتبليغ طلب ردّ بيطار، مما يمنع عيد من النظر في طلب ردّ بيطار إلى حين صدور قرار الهيئة العامّة. إلّا أنّ هذه الأخيرة لن تتمكن من إصدار قرارها بسبب فقدانها النصاب بعد تقاعد أغلب أعضائها من دون تعيين بديل عنهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ قرار عيد الذي طعن فيه زعيتر وخليل هو قرار إداري لا يقبل الطعن بما فيه من خلال دعاوى المخاصمة (المداعاة) وفقاً للاجتهادات السابقة، مما يؤكّد عدم جديّة الدعوى ويرجّح رفضها شكلاً في حال اكتمال نصاب الهيئة العامّة.

مقالات ذات صلة

وعليه، أصبح إجراء تشكيلات قضائية جزئية لتعيين رؤساء غرف محكمة التمييز مدخلاً أساسياً لعودة التحقيق من خلال تمكين الهيئة العامّة من البتّ بدعوى المخاصمة. لغاية اليوم، تتعطّل هذه التشكيلات بفعل عجز مجلس القضاء الأعلى عن الاتفاق على اقتراح أسماء لتعيين رؤساء لغرف محكمة التمييز بسبب الضغوط السياسية على أعضائه. ولاحقاً سيكون بإمكان أي من المسؤولين الموّقعين على مرسوم التشكيلات، وهم رئيسا الجمهورية والحكومة ووزيرا المالية والعدل، تعطيلها. وعليه، إما تُعطّل هذه التشكيلات أو تتم وفق منطق المحاصصة السياسية وليس الكفاءة، مما يؤكّد أهمية إقرار قانون لاستقلالية القضاء العدلي يمنع السلطة السياسية من وضع يدها على مجلس القضاء الأعلى والتدخّل في التشكيلات القضائية.