في عام 1902، قدم عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة السعودية، من الكويت بصحبة مجموعة من مقاتليه إلى إمارة نجد. دخل بن سعود ومن معه الى الرياض، عاصمة نجد، واستولوا عليها بعد قتل حاكمها، بن عجلان، ممثل إمارة آل الرشيد في الشمال. آمن بن سعود أن الاستيلاء على أراضي الجزيرة العربية حقه الشرعي بعد سقوط إمارتي أجداده الأولى والثانية. وعلى خطى جده، أعاد بن سعود تحالف عائلته القديم مع أحفاد محمد بن عبد الوهاب، فتزوج ابنة الشيخ الوهابي عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، حفيد بن عبد الوهاب وكبير علماء مذهبه. أعلن بن سعود بصراحة أن نور التوحيد الذي أشعله جده ومحمد بن عبد الوهاب لا يكاد ينطفئ حتى يبعث الله رجلين من العائلتين لإشعاله من جديد على حد قوله. ترك بن سعود للمشايخ أمور الدعوة الوهابية ليدعوا للتوحيد على طريقتهم، وانبرى هو للتوحيد السياسي.
التنظيم العسكري من البدو: الإخوان
في بداية الأمر، كان تحت يد بن سعود مقاتلون من أهل نجد لهم تجارتهم ومزارعهم، أي مستقرين عموماً. بينما كانت عيناه على إمارات أطراف الجزيرة العربية المعادية له، في حائل والحجاز والأحساء. لم يكن ما تحت يديه من مقاتلين مستعدين لترك أرزاقهم وأهلهم لمدد طويلة رغم ولائهم له. كان لا بد لابن سعود أن يجد مقاتلين مستعدين لخوض معارك طويلة على امتداد رقعة شاسعة من الأرض وبأقل كلفة اقتصاديه تناسب موارده المحدودة، فوجد ضالته في البدو الذين يملأون الصحاري الجرداء ما بين نجد في الوسط وأطراف الجزيرة. عمل الرجل لعدة سنين على استخدام البدو وتأهيلهم بما يتناسب مع مطامعه السياسية، لينتج تنظيما عسكريا سمي "إخوان من أطاع الله" أو "الإخوان" اختصارا. يكاد يتطابق داعش اليوم مع ذلك التنظيم في العقيدة والاستخدام كأداة سياسيه بل حتى في التوحش.
ومع علم بن سعود بحاجته الماسة للبدو، لكنه لم ينس خياناتهم للإمارة السعودية عندما انقلبوا على أهله وقاتلوا في صفوف الحملة المصرية التي أنهت حكمهم. فقرر الرجل تغيير حياتهم جذرياً عبر استجلابهم من الصحاري واسكانهم في شبه قرى بنيت لهم وسميت "الهجر" وهي جمع "هجرة". والاسم إشارة الى هجرة النبي من مكة الى المدينة. ارتبط البدو اقتصاديا بابن سعود بعد ان باعوا إبلهم ومواشيهم واعتمدوا على معوناته.
لم يجد البدو ما يشغلهم في هجرتهم، بعد ان تخلوا عن طريقة الحياة البدوية الصرفة سوى التفقه في العقيدة الوهابية على يد دعاة أرسلهم بن سعود بانتظام. كان البدو قد ابتعدوا عن التعاليم الوهابية وقتها بعد سقوط الدولة السعودية الثانية. انتشرت في الهجر حلقات العلم وكُتب محمد بن عبد الوهاب وأبرزها "كتاب التوحيد" و "الثلاثة الفضول" و "الفوائد الأربع". وما زال داعش يطبع وينشر "كتاب التوحيد" لمحمد بن عبد الوهاب ويوزعه بمناطق سيطرته، باعتباره المانيفستو الداعشي. أبرز ميزة في العقيدة الوهابية أنها سهلة وبسيطة، ولا تحتاج الى تفكير عميق، فجلها يدور حول مفهوم التوحيد الضيق جدا في الدعوة الوهابية، وسواه يخرج إلى دوائر الكفر والشرك. وهذه الميزة تمكن الدعوة الوهابية من استقطاب أعداد كبيرة في وقت قصير. وهي تناسب العقلية البدوية للاخوان التي لم تعتد التعليم الديني في حياتها البدوية ولم تحتجه، وهي كذلك تناسب عقول مقاتلي داعش اليوم الذين غالبا ما يكونون في الأصل بعيدين عن التدين ومسائله الفقهية المعقدة، وآتين من خلفيات اجتماعية ومسلكيات متنوعة.
لم تكن خطورة الإخوان، تماما كما داعش، في التكفير فحسب إذا أخذ بالمعنى الثقافي للتكفير الذي يستدعي النقاش وتقديم البراهين، بل في اعتقادهم أن واجبهم المقدس هو إعادة الضالين والمشْركين من المسلمين الى الله بحد السيف، أو ما عرف في ما بعد بـ "الهداية القسرية". ويزيد في خطوره الدعوة الوهابية عقيدة الولاء والبراء التي تستخدم كمبدأ مطاطي يوجه الوهابيين بسهولة ضد هذا الحليف أو ذاك. فدائما ما يدفع الولاء والبراء بالوهابيين الى توجيه عدائهم للمسلمين انفسهم وليس لأعدائهم. فمثلا، يرى بن عبد الوهاب أن "عدم كره" اتباعه لـ "أصحاب الشركيات" على حد قوله، يستحق أن يخرجهم من خانة الصديق الى العدو ويصبح قتاله أولى، تماما كما ترى داعش أن قتال حماس أولى من قتال إسرائيل.
انطلق الإخوان تحت راية بن سعود لتلبية واجبهم الديني، فخاضوا معارك وغارات لصالح بن سعود لما يقارب العشرين عاماً. أظهر الاخوان في قتالهم وحشية وسقوطا أخلاقيا لا ينافسهم فيهما إلا داعش. فمجزرة "قاعده سبايكر" التي ذهب ضحيتها 1700 إنسان على يد داعش، ربما تكون مستوحاة من مجازر القتل الجماعي للاخوان في مدن تربة والطائف والأحساء وسيهات والمناطق الشرقية في المملكة وغيرها. ضرب الاخوان عرض الحائط، كاخوانهم في داعش، بكل التعاليم الدينية والالتزامات الأخلاقية القبلية في حروبهم لتوحيد المملكة، ولم يسْلم من سيوفهم لا رجل ولا امرأة ولا طفل، بل وحتى الحوامل كانت تُبقر بطونهم. كان بن سعود حريصا على الاّ يتواجد في مجازر الاخوان ليتملص من المسؤولية، وكان ياتي بعدها لأخذ الولاء السياسي بعد اقتناع الناس انه هو الوحيد الذي يستطيع ان يكف يد الاخوان عنهم.
كبر تنظيم الاخوان حتى اصبح من الصعب السيطرة عليه، وأصبح مجرد اسمه يثير الرعب داخل الاراضي السعودية وخارجها. وبدأ الاخوان يخرجون عن طوع إمامهم تدريجياً وبل وبدأوا بالانقلاب عليه. علم بن سعود انه وصل مع الاخوان الى مفترق طرق. فقد استعملهم لتوحيد أراض وبناء دولة، اما هم فاعتبروا قتالهم جهاداً في سبيل الله ليعيدوا المسلمين المرتدين الى توحيد الله الخالص. فمثلا كان يثنيهم عن مهاجمة أهل العراق والكويت بعد ان رسم حدود مملكته الشمالية، الامر الذي رفضه الاخوان واعتبروه ضد واجبهم الديني. قرر الرجل مواجهتهم، فكانت معركه "السّبلة" الشهيرة في عام 1929 في نجد، التي انهزم فيها الاخوان وفر منهم من بقي في أرجاء مُلْك هم من شيده الى ان تم استئصالهم وتطويع من بقي منهم. بدأ داعش اليوم بالانقلاب على من يستفيد منه مباشرة، ويبدو ان معركه "السّبلة" الخاصة به قد اقتربت. فلم يعد من الممكن الاستفادة من داعش اكثر، ومن يريد أن يقدم نفسه كمحارب للإرهاب قد نجح، ومن أراد ضرب خصومه بداعش قد بدأ يلتقي بهم.
تختلف اليوم أساليب انشاء تنظيمات جهادية مثل "اخوان من طاع الله" فليس من الضروري أن يتم الاتصال وتهيئتهم مباشرة كما فعل بن سعود، بل يكفي إطلاق التكفيريين من السجون وغض النظر عن تمويلهم وبيعهم للنفط وتدفق المقاتلين اليهم في حالة داعش. بل أصبحت مراحل التنظيمات متشابهة، فتبدأ بالسماح لها بالتمركز في اماكن النزاع، ثم الانتظار الى ان تحقق ما يُنتظر منها، ثم القضاء عليها عندما تخرج عن السيطرة، وتظل الدعوة الوهابية جاهزة للإحياء كلما اقتضت الحاجة.