كنتُ بعيداً تماماً عن قضية الثأر، وذلك ربما عائد لنشأتي في مدينة كبيرة من مدن الدلتا لم تعرف هذه الظاهرة قط. كان كل ما يربطني بها هو تلك القصص الساذجة التي نراها في السينما أو دراما التليفزيون، والتي يتحول بعضها إلى أعمال هزلية نتيجة المبالغة الشديدة في نطق لهجات صعيد مصر التي ليست كذلك أبداً. كنت هكذا حتى قابلت جلال.
ففي تلك السنة التي قضيتها في أحد سجون مصر على خلفية اتهامي بحزمة تهم سياسية، وطّنت نفسي على التعامل معها، وكأنها تجربةٌ صحافية ثرية تتيح لي التعرف على الكثير من أصحاب التجارب الصعبة الذين قذفت بهم الأقدار إلى السجن. وكان جلال واحداً من هؤلاء، ومع حكاياته التي تعزُّ على التصديق، رأيت الوجه الأسود للثأر. الخصومات الكريهة التي يفنى العمر ولا تنتهى. الدماء التي تراق لأتفه الأسباب فيمتد حبل الكراهية لعشرات الأجيال المتتابعة التي ربما لا تدرك الأجيال المتأخرة منها سبب تلك الخصومات أو تفاصيل تاريخها الطويل.
السجون المصرية تعمّق جراح الفقراء
29-08-2021
موهوبون وراء القضبان.. كيف ساعد السجن على اكتشاف الذات؟
18-07-2020
لم يكن جلال يحكي تلك الحكايات متفاخراً قط . كان يتألم من فرط ما اقترف. كان يتخفف بالحكي ويبكي أحيانا ويخبرني أن السرطان الذي احتل رئتيه منذ أكثر من عام وهو في السجن هو أقل العقوبات التي يستحقها. وبدوري كنت أحاول التخفيف عنه لكنني كنت عاجزاً عن ذلك تماماً، بل كنت عاجزاً عن تصديق أغلب حكاياته لفرط قسوتها ولا معقوليتها. ولكن سجيناً آخر كان يساكنه في البلدة قبل أن يضمهما السجن، أخبرني أن كل ما يقوله جلال صحيح. بل إنه يعمد أحياناً إلى تخفيف بشاعة بعض الجرائم التي فعلها خشية ألّا أجالسه أو أستمع إليه. وعلى امتداد عشرات الجلسات في فترات التريّض محدودة الوقت، ربما أمكنني أن أمسك بجذور بعض هذه المأساة التي تتوغل في مجتمع الصعيد على وجه الخصوص.
سألني جلال ذات مرة وهو يرى علامات الاستنكار والفزع تملأ وجهي بعد أن استمعت إلى واحدة من تلك الحكايات قائلاً: أخبرني بصدق. لو قتلوا والدك أمامك، وكان لديك خياران أولاهما أن تقتل من قتله، وثانيهما أن تترك القانون يقتص من ذلك القاتل؟ وجدت نفسي عاجزاً عن الجواب، وعندما شاهد صمتي قال: هكذا تجري الأمور يا صاحبي. من يفرّط منّا في الأخذ بثأره يلاحقه العار طوال عيشه في بلدته إلى أن يغادرها إلى الأبد. كل العائلات التي تورطت في ذلك المنزلق منذ البداية وجدت نفسها مدفوعةً بقوة الأمر الواقع والتقاليد الحاكمة المفرطة في قسوتها فلا تدع مجالاً للاختيار. إما أن تثأر لقتيلك، وإما أن يُفرض عليك حصارٌ من الاحتقار والتجاهل في مجتمع مغلق لن تستطيع الفكاك منه.
ما يدعم رواية جلال ما ذكره الدكتور "جمال فرويز" استشاري الطب النفسي، والذي يؤكد أن "المعايرة" بين العائلات هي التي تجعل الأمر يشتعل. يقول إنه شاهد بنفسه إحدى القصص في الصعيد، وقد تمثلت في وقوف ابن القتيل في أحد المحلات التجارية لتناول مشروب غازي. فقال له المارة "لك نفس تشرب البارد ودم أبوك التراب مشربهوش لسه". بعدها ذهب الشاب ليحرق 7 أشخاص في كوخ بأرض زراعية انتقاماً منهم!(1)
لم يكن جلال يحكي تلك الحكايات متفاخراً قط. كان يتألم من فرط ما اقترف. كان يتخفف بالحكي ويبكي أحياناً ويخبرني أن السرطان الذي احتل رئتيه منذ أكثر من عام وهو في السجن، هو أقل العقوبات التي يستحقها.
ينحدر جلال من عائلة كبيرة بإحدى مراكز الصعيد المهمة، والثأر لديهم له حسابات خاصة ومعقدة. ففي حالات كثيرة لم تكتف عائلته بالقصاص من القاتل، بل امتدت ذراعها الطويلة كي تحصد العديد من الأرواح في رسالة مباشرة إلى قوة بأسها، وقدرتها على النيل من الخصوم بأكبر قدر من القسوة والسيطرة. حكى جلال أنه عندما أراد القصاص لمقتل أحد أولاد عمومته ذهب إلى سرادق عزاء خاص بأسرة الخصم، وألقى قنبلة يدوية في مقدمة سرادق العزاء، فحصدت في لحظة واحدة ستة أرواح غير الأطراف التي بترت والعيون التي فقئت! وفر هارباً. أصابتني تلك الحكاية بالغثيان ولم أستطع النظر في وجه جلال لأيام متتابعة. لكنني أذكر أنني سألته سؤالاً يبدو لي الآن ساذجاً للغاية وهو: كيف حصلت على تلك القنبلة؟
الصعيد المصري أنهكه النسيان
07-09-2021
أخبرني أن توافر السلاح بكافة أشكاله هو أحد الأسباب المحرضة والقوية على استمرار تدفق عمليات الثأر في مصر حتى الآن، بل إن تجار السلاح يعمدون إلى إشعال بعض قضايا الثأر المنسية كي تستمر تجارتهم رائجةً. أخبرني وهو يتعثر في خجله أنه قام بمساعدة أحد أقاربه بقتل أحد أطراف خصومة ثأرية في قرية مجاورة، لا يعرفه ولا تربطه به أي صلة لمجرد أن تشتعل تلك الخصومة مجدداً من أجل ترويج بعض قطع السلاح الكثيرة الراكدة في مخازنهم!
وبعيداً عن الصورة النمطية التي رسختها الدراما لذلك القاتل الذي يقبع في الظلام منتظراً فريسته للثأر منها بإطلاق عيار ناري نحوها، فإن جرائم الثأر في مصر "عرفت أساليب جديدة للقتل أفرزها التقدم التكنولوجي الذي تعرف الأجيال الجديدة كيف تستخدمه. فعلاوةً على الرشاش الآلي والمسدس المتعدد الطلقات، توجد الأسلحة التي تعمل بالليزر وأجهزة التتبع عن بعد، والقنابل التي تنفجر عن طريق الريموت كنترول، أو التليفون المحمول، والمدافع المضادة للطائرات والصواريخ. هذا غير استخدام الكمبيوتر وإمكاناته المختلفة لرصد تحرك الخصوم! (2).
ثمة تجارةٌ رائجة جاهزة ومستعدة ومخازنها متخمةٌ بالعديد من قطع السلاح بكل درجاته ومستوياته وأسعاره. تجار الموت، ذلك المصطلح الذي بات مشهوراً عن تجار السلاح الذين سعوا إلى مد نشاطهم إلى الوجه البحري أيضاً، والذي كان بعيداً نسبياً عن صراعات الثأر التي اقتصرت لزمن طويل على محافظات الصعيد "حيث تشير بعض التقارير الأمنية إلى أن هناك عائلاتٍ في الشرقية وكفر الشيخ والغربية ودمياط يملكون سلاح "الآر بي جي"، وهو سلاح مضاد للدبابات! وأسهم سعره الرخيص في انتشاره حيث وصل سعره إلى خمسة آلاف جنيه فقط!" ( 3 )
يقول جلال: "من يُفرِّط في الأخذ بثأره يلاحقه العار طوال عيشه في بلدته إلى أن يغادرها إلى الأبد. كل العائلات التي تورطت في ذلك المنزلق وجدت نفسها مدفوعةً بقوة الأمر الواقع والتقاليد الحاكمة، المفرطة في قسوتها، فلا تدع مجالاً للاختيار. إما أن تثأر لقتيلك، أو يُفرض عليك حصارٌ من الاحتقار والتجاهل في مجتمع مغلق لن تستطيع الفكاك منه".
وفى مقاله المنشور في جريدة الشروق المصرية، يتحدث مصطفى الأسواني عن طرق تهريب ترسانات الأسلحة إلى الصعيد والتي يمكن إيجازها في طريقتين:
الأولى عن طريق الممرات والدروب الصحراوية في الجنوب والغرب، حيث يتم استقبال شحنات الأسلحة في السودان، بواسطة الجمال في مناطق الوسط عند نقاط الحدود ضعيفة الحراسة، ثم يتم دفن السلاح في مغارات معروفة بالصحراء يستخدمها التجار مخازنَ للسلاح القادم إليهم، ومن ثمّ يتم نقله تدريجياً لحين إتمام عملية التسليم.
والثانية، عن طريق شركات الشحن الخاصة بالأثاث، أو عن طريق المراكب النيلية ("الصنادل") حيث يتم تفكيك السلاح وتخبئته في أماكن مخصصة بقاع المركب، وتوصيله إلى القرى المُطلة على نهر النيل نظير مبلغ من المال يصل إلى 800 جنيه للقطعة الواحدة. أما الطلقات والذخيرة فتُحسب بالصندوق، ويتم تسليم شحنة السلاح للمشترين في عرض النهر بمراكب صغيرة .
ولكن ظلت نقطةٌ محددة كانت تؤرقني في البحث عن الأسباب الأعمق لاستمرار ظاهرة الثأر بعيداً عن الحفاظ على "الوجاهة الاجتماعية"، وعن سهولة الحصول على السلاح. تلك النقطة التي تتعلق بالمشاعر والوجدان. حالة الغضب التي لا تنطفئ، وحالة الحزن التي لا تعرف البلاسم .. تقول المعالجة النفسية "نهى النجار" إن الأمر في بدايته يرتبط بمشاعر حزن عميقة تمّ كبتها لفترة، وتتحول مع الوقت لحالة عنف عامة صوب هدف الثأر أو الانتقام. لافتةً إلى أن هناك عواملَ تحفيزية تتم لزيادة حدة هذه المشاعر، في مقدمتها الامتناع عن "العزاء"، وهو مساحة لتفريغ المشاعر وتذويب كبتها.
ما يعمق من مشاعر الحزن المتأججة أن المرأة الصعيدية هي طرف فاعل ومؤثر للغاية كما تؤكد الدكتورة "هناء أبو شهبة" أستاذة علم النفس بجامعة الأزهر. وهي اعتبرتها تختلف كثيراً عن نظيرتها في مختلف أنحاء البلاد من حيث القوة والحدة والصلابة فيما تعتقد. فيما أكد فرويز أن المرأة في صعيد مصر هي التي تشعل نيران الأخذ بالثأر، خاصةً إذا كان القتيل ابنها، فلا تجعل أفراد الأسرة يهنؤون لحظةً واحدة دون الأخذ بالثأر.. وقد حفظ لنا التراث الصعيدي بعض أغاني "العديد"، وهو الإنشاد المقفّى الذي تردده النسوة مصحوباً بالبكاء والصراخ على الفقيد الراحل المقتول غدراً، وغيلةً ومحرضاً على الثأر لدمه الذي لا يجب أن يذهب هدراً.
توافر السلاح بكافة أشكاله هو أحد الأسباب المحرضة والقوية على استمرار تدفق عمليات الثأر في مصر حتى الآن، بل إن تجار السلاح يعمدون إلى إشعال بعض قضايا الثأر المنسية كي تستمر تجارتهم رائجةً.
في واحدة من جلساتي المطولة مع جلال، وكان قد قضى الليل بطوله كما أخبرني في مستشفى السجن لمحاولة تخفيف آلامه دون جدوى سألته: ألا يوجد سبيل لوقف نزيف كل هذا الدم؟ وأخبرته أني أسمع كثيراً عن عادة "تقديم الكفن" فى الصعيد، وهي عادةٌ يقوم فيها القاتل بتقديم كفنه لأسرة المقتول في إشارة إلى أنه يضع نفسه تحت تصرف تلك الأسرة، إن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا تركوه، فأخبرني أنها ما زالت موجودةً هناك، وهي سبيل معترف به أحياناً لإنهاء الخصومات الثأرية الممتدة، لكنها لا تخلو من محاذيرَ صنعتها النعرة، ورسخها كبرياء العائلات الكبيرة، فهذه العادة رغم أنها تقطع الطريق على تكرار الحوادث الثأرية بين عائلتين، إلا أنها توصم من يفعلها بالعار ما دام حياً، حتى إن ذلك الشخص لا يقام له سرداق عزاء عند موته لأن عائلته تعتبره قد مات بالفعل بمجرد تقديمه الكفن لعائلة الخصم. وفي العادة يتم تقديم الكفن بحضور بعض مندوبي وزارة الداخلية وبعض الوجهاء والمسؤولين لضمان إتمام الأمر بلا مشاكل أو مفاجآت.
عندما تواصلت مع المحامي "مؤمن سيد" من محافظة سوهاج، وهي واحدة من البؤر المشتعلة بالثأر الممتد قال: ربما كان تقديم الكفن في الماضي حتى قبل عشر سنوات مضت يوصم صاحبه بالعار وفقدان الاعتبار لدى قريته، أما الآن فبعض الأسر المتنازعة تحبذ ذلك الاتجاه لإنهاء تلك الخصومات التي تمتد إلى ما لا نهاية، والتملص من التكلفة الباهظة للثأر الذي بات سرطاناً مستشرياً في جسد الصعيد بكامله.
____________
من دفاتر السفير العربي
تعال معي إلى الصعيد
____________
ثمة محاذير عديدة تقف دون توسيع دائرة "حاملي الأكفان" من أجل مزيد من حقن الدماء، حيث يؤكد الباحث في المجال الأمني اللواء "نظامي الشريف" أن الحلول الأمنية لا تكفي لوقف ظاهرة الثأر، لأنها موروث ثقافي متجذر. كما يؤكد الدكتور محمد أبو الفضل بدران الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة أن "الحلول العرفية في بعض الأحيان تكون أحد أسباب تجدد عمليات الثأر، لما يمارس من ضغوط في تلك المصالحات على أهل القتيل بوجوب قبول الصلح بنفس غير راضية من أهل القاتل. الأمر الذي يجعل من بعض المصالحات الثأرية مجرد مصالحات إعلامية صوريّة"( 4).
غادرت سجن وادي النطرون في أيار/ مايو عام 2019 فيما كان جلال لا يزال قابعاً هناك، يجتر حكاياته عن سرطان الثأر في الصعيد، ويحاول أن يلتمس الغفران والمواساة .
المرأة في صعيد مصر هي التي تشعل نيران الأخذ بالثأر، خاصةً إذا كان القتيل ابنها، فلا تجعل أفراد الأسرة يهنؤون لحظةً واحدة دون الأخذ بالثأر.. وقد حفظ لنا التراث الصعيدي بعض أغاني "العديد"، وهو الإنشاد المقفّى الذي تردده النسوة مصحوباً بالبكاء والصراخ على الفقيد الراحل المقتول غدراً، وغيلةً ومحرضاً على الثأر لدمه الذي لا يجب أن يذهب هدراً.
هناك عادة "تقديم الكفن" فى الصعيد، فيضع القاتل نفسه تحت تصرف أسرة القتيل، إن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا تركوه. وهي سبيل معترف به أحياناً لإنهاء الخصومات الثأرية الممتدة، لكنها لا تخلو من محاذير. وهي توصم من يفعلها بالعار ما دام حياً، فلا يقام له سرداق عزاء عند موته لأن عائلته تعتبره مات بالفعل بمجرد تقديمه الكفن لعائلة الخصم.
عانقني بشدة في اليوم الأخير في السجن. أخبرني باكياً أنه أراد أن يقدم كفنه لأسرة الخصوم، ولكن عمه شديد البأس ورأس الأسرة أخبره أن أمامه يوماً واحداً كي يترك البلدة ويرحل، بدلاً من أن يترك العار للأسرة الكبيرة مرهوبة الجانب.
لا أدري ما حل بجلال هناك في محبسه بعد أن انقطعت خطوط التواصل. هل ما زال يحكي لأحدهم في فترات التريّض، أم أن سرطانه قد فتك به فلم يعد ثمة حكي؟
1- أسماء فتحي، الثأر جريمة الوجاهة والمشاعر العنيفة التي يغذيها الفقر. منشور في "مصر 360"، 7 حزيران/ يونيو 2021
2- المتغيرات الاجتماعية والبيئية المرتبطة بجريمة أخذ الثأر - معهد الدراسات والبحوث البيئية جامعة عين شمس - المجلد السابع والثلاثون. الجزء الثاني. آذار/ مارس 2017
3- ناهد الكاشف، خريطة الثأر تغيرت بفعل الفوضى منشور في "الأهرام"، 17 كانون الأول/ ديسمبر 2013
4- عبد الرحمن أبو بكر/ غفران يونس. منشور في "إندبندنت عربية" 17 آذار/ مارس 2021.