دخان أزمة الغاز المسيّس يخنق نساء اليمن

بدأت أزمة الغاز مع اندلاع الحرب مطلع العام 2015. وككل السلع الأساسية، أصبح الغاز يباع في السوق السوداء بأسعار باهظة، ووصل سعر الاسطوانة منه في صنعاء مطلع هذا العام إلى 30 ألف ريال (ما يقارب 50 دولار)..
2022-03-10

وسام محمد

كاتب من اليمن


شارك

تكاد المرأة اليمنية أن تختفي خلف سحب كثيفة من الدخان، جراء لجوئها إلى استخدام كل أنواع البدائل التي تمكّنها من الطبخ، بعد تفاقم أزمة الغاز المنزلي المتواصلة منذ اندلاع الحرب في البلاد قبل سبعة أعوام.

المرأة هي المعنية بشؤون المطبخ، ويتوقف دور الرجل على توفير الاحتياجات الأساسية. إلا أن أزمة الغاز المتواصلة، وسّعت دائرة معاناتها، فأصبح البحث عن الغاز وتقنين استخدامه، واللجوء إلى البدائل في حال انعدامه، جزءاً أساسياً من يومياتها.

وبات من المألوف رؤية النساء يقفن في طوابيرَ طويلة أمام وكالات بيع الغاز، إما لتسليم الأسطوانات الفارغة أو لاستلام الأسطوانات بعد ملئها، وهو الدور الذي كان مناطاً بالرجل عندما لم يكن الأمر يشكل هذا العناء!

تقف النساء في تلك الطوابير في أي وقت. في الصباح، وفي وقت الظهيرة حيث الشمس الحارة... ويمكن أن يسقطن مغمى عليهنَّ، وهو ما حدث فعلاً بحسب روايات ناشطين. وهنَّ قد وقفن في طوابير الغاز في ذروة تفشي كوفيد-19 دون أن تتوفر أيٌّ من أدوات الوقاية. كما إنهنَّ هنا على الرغم من وقوع عراكات واشتباكات قد تصل إلى إطلاق النار.

وحتى حين يتوفر من يمكنه أن يقوم بهذا الدور، تظل المرأة في حالة ترقب دائم لمواعيد الاستلام والتسليم، وتوفير ميزانية الغاز، وتذكير من عليه أن يذهب إلى الطابور، لأنها إذا لم تقم بذلك، فسيكون عليها دفع الثمن على شكل عناء وجهد إضافيين وإهدار للصحة جراء اللجوء إلى البدائل التي لا تتوفر بسهولة.

وفوق ذلك، هناك مئات الحوادث بسبب انفجار أسطوانات الغاز في المنازل، جراء عدم صيانتها منذ بداية الحرب. حيث قدر عدد الأسطوانات غير الصالحة، بنحو 12 مليوناً. وعندما تنفجر يكون معظم ضحاياها من النساء والأطفال.

منذ اندلاع الحرب على اليمن

بدأت أزمة الغاز مع بداية اندلاع الحرب مطلع العام 2015. وككل السلع الأساسية، أصبح الغاز يباع في السوق السوداء بأسعار باهظة. حينها كان لا يزال هناك مدخرات ورواتب وبعض الأعمال... لكن مع مرور الأشهر والسنوات، فُقِد كل ما يمكن أن يساعد على مواجهة الأزمات، وتوفير المستلزمات الضرورية بينما خضعت أزمة الغاز لمأسسة ضمنية، فهي لا تتخفف إلا لكي تعود على نحو أكثر ضراوة. وفي مطلع هذا العام، وصل سعر أسطوانة الغاز في السوق السوداء في صنعاء، إلى 30 ألف ريال (ما يقارب 50 دولار).

وعندما يتعذر توفير أسطوانة غاز، تلجأ المرأة في المدينة إلى استخدام "الكرتون" وكل ما يمكن أن يُشعل ناراً، وتستعين به للطبخ، وتستنشق الأدخنة السامة التي تنعكس على صحتها وصحة من حولها. والأمر في الأرياف لا يقل معاناةً، غير أن توفر الأشجار والاعتماد على الاحتطاب، وبحكم العادات هناك، فيمكن توفير البدائل بسهولة.

الأزمة المسيسة

تستفحل أزمة غاز الطهي في محافظات ومناطق شمال اليمن الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، حيث أصبحت السوق السوداء هي الأساس. وعندما يتوفر لدى وكالات التوزيع الرسمية، عادةً ما يكون ذلك خاضعاً لآليات شاقة، تبدأ من التسجيل في الحارات وتسليم الأسطوانة الفارغة ودفع قيمة تعبئتها (ضعف سعرها المفترض) وآخذ بطاقة مخصصة للاستلام، ثم الانتظار أسابيعَ إلى أن يحين موعد التوزيع. وعلى أصحاب البطاقات أن يقفوا في طوابيرَ طويلة لساعات.

المرأة هي المعنية بشؤون المطبخ، ويتوقف دور الرجل على توفير الاحتياجات الأساسية. إلا أن أزمة الغاز المتواصلة، وسّعت دائرة معاناتها، فأصبح البحث عن الغاز وتقنين استخدامه، واللجوء إلى البدائل في حال انعدامه، جزءاً أساسياً من يومياتها.

لقد تحول غاز الطهي إلى سلعة حربية، بحسب ما يردده المواطنون في مناطق سيطرة الحوثيين، فالقسم الأكبر يباع في السوق السوداء حيث يجري خلق أزمات باستمرار، ويذهب فارق السعر للأسطوانة الواحدة، لصالح "المجهود الحربي".

مقالات ذات صلة

كما أن توفير الغاز في أحياء العاصمة صنعاء وفي مناطق أخرى كثيرة، خاضع لعدة اعتبارات. منها عدد ما يطلق عليهم "المجاهدون والشهداء" المنتمون إلى هذا الحي أو تلك المنطقة. إذا كان العدد كبيراً فإن السكان يحصلون على الغاز بسهولة وبشكل دائم وبسعر معقول. ويكون التوزيع أسبوعياً، وهناك امتيازات خاصة لأسر المقاتلين.

 أما إذا كان عدد "الشهداء والمجاهدين" قليلاً في الحي، فمن الممكن أن يمر شهران قبل أن يحل موعد التوزيع. وعلى السكان أن يتدبروا أمرهم، إما باللجوء إلى السوق السوداء، أو باستخدام "البدائل".

وهكذا أصبح غاز الطهي سلاحاً متعدد الاستخدام: لجني الأرباح وتعزيز الميزانية الحربية، ولاستقطاب جنود ومقاتلين، وفي الوقت ذاته لمعاقبة من يتخلف عن جبهات القتال وإجبارهم بطريقة غير مباشرة (إلى جانب الطرق المباشرة) على الدفع للمجهود الحربي.

في بداية الحرب، كان لا يزال هناك مدخرات ورواتب وبعض الأعمال... لكن مع مرور الأشهر والسنوات، فُقِد كل ما يمكن أن يساعد على مواجهة الأزمات، وتوفير المستلزمات الضرورية، بينما خضعت أزمة الغاز لمأسسة ضمنية، فهي لا تتخفف إلا لكي تعود على نحو أكثر ضراوة.

هناك على ما يبدو المصالحُ التي تشكلت خلال سنوات الحرب، وهي عابرة للاصطفافات السياسية، ولا تحكمها الانتماءات، فتغض الحكومة الرسمية الطرف ولا تكترث بكيفية ادارة الحوثيين لأزمة الغاز والأذى اللاحق بالمواطنين. وهو الأمر الوحيد الذي يفسر بقاء أزمة غاز الطهي قائمة! 

يحدث هذا في ظل استرخاء مشبوه من قبل "الشركة اليمنية للغاز" ومقرها في مأرب، وتتحكم فيها الحكومة اليمنية الرسمية والمعترف بها دولياً، والتي تخوض حرباً مع الحوثيين.. ظلت شركة الغاز لوقت طويل تبيع الغاز إلى مناطق سيطرة الحوثيين، بالعملة الجديدة (تهبط قيمتها أحياناً إلى نصف قيمة العملة القديمة)، بينما يقوم الحوثيون بتخزين الجزء الأكبر لبيعه في السوق السوداء، وبيع الكميات الأخرى بضعف سعرها ولكن بالعملة القديمة. أي إن قيمة أسطوانة الغاز في مأرب تباع على أكثر تقدير بسعر 2500 ريال (تساوي أقل من 1500 ريال بالعملة القديمة). ويدفع الحوثيون بالعملة الجديدة التي يصادرونها من الصرافين والمسافرين في النقاط الأمنية، ثم يبيعون الأسطوانة في صنعاء بـ 5500 ريال، ولكن من العملة القديمة.

لا أحد يفهم السر في هذا التراخي طالما أنه لا يفيد المواطنين الذين يعانون من ظروف إنسانية مزرية جراء الحرب وتوقف الأعمال وعدم صرف رواتب الموظفين. بل إن هذه السياسة مستمرةٌ على الرغم من معرفة شركة الغاز بأن الحوثيين يبيعون نصف كمية الغاز القادمة من مأرب في السوق السوداء، ويجنون أرباحاً طائلة تذهب للمجهود الحربي الحوثي، أو لحساب تجار يعملون لصالح الحوثيين.

يفسر بيع الغاز للحوثيين بالعملة الجديدة، أن الهدف منه إجبارهم على التعامل بها. لكن الواقع يقول إن هذا الهدف لم يتحقق، وأن الأمر أصبح يخدم الحوثيين فهم يشترون الغاز مجاناً، ومن النقود التي يصادرونها كونهم يمنعون تداولها، ويبيعونها بأسعار كبيرة، ويستخدمونها ضمن عدّتهم الحربية إلى جانب إيرادات الاتصالات وإيرادات الجمارك التي استحدثتها سلطة صنعاء في مداخل المدن الرابطة بين المحافظات الشمالية والمحافظات الجنوبية.

عدم اهتمام شركة الغاز اليمنية في صافر، وعدم اهتمام الحكومة اليمنية بعدم وصول الغاز إلى المستهلك بسهولة وبسعره الحقيقي، أصبح بنظر كثيرين محيراً، وليس له علاقة بتخفيف الأزمة عن سكان المحافظات الشمالية، لأن المعاناة تظل قائمةً على الرغم من ذلك. وهناك على ما يبدو المصالحُ التي تشكلت خلال سنوات الحرب، وهي عابرة للاصطفافات السياسية. وهو ما يفسر بقاء أزمة غاز الطهي قائمة!

تحول غاز الطهي إلى سلعة حربية، بحسب ما يردده المواطنون في مناطق سيطرة الحوثيين، فالقسم الأكبر يباع في السوق السوداء حيث يجري خلق أزمات باستمرار، ويذهب فارق السعر للأسطوانة الواحدة لصالح "المجهود الحربي".

وتشترك محافظة تعز مع العاصمة في معاناتها من أزمة غاز مستفحلة، سواء في إطار القسم الواقع تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، أو في إطار الأجزاء الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي. ويعود ذلك إلى الحصار المفروض على المدينة من جهات ثلاث، وإغلاق المنافذ الرئيسية من قبل قوات الحوثي، ووجود منفذ وحيد فقط لدخول السلع يمر عبر طرق شديدة الوعورة.

لكن بقاء أزمة الغاز في تعز يعود في جزء منه إلى الفساد والمتاجرة من قبل تجار على علاقة بقيادات عسكرية ومدنية في الدولة، وأيضاً بسبب غياب الرقابة التي تشجع على تهريب جزء من حصص الغاز من مناطق الحكومة إلى مناطق سيطرة الحوثيين لبيعها والتربّح من فارق سعر العملة.

أما في محافظات جنوب اليمن، فنادراً ما يكون هناك أزمةٌ في مادة غاز الطهي، لوجود طرق إمداد مفتوحة من محافظة مأرب. وإذا ما حدث بعض التلاعب، فإن الاحتجاجات في عدن التي تعد عاصمةً بديلة للحكومة، وأعمال تقطيع وإغلاق الطرق من قبل المسلحين، تكون بمثابة ضغط يجبر الجهات المعنية على ضمان انسياب الغاز إلى المواطنين بشكل مستمر.

لا أحد معني!

ليس من الصعب حل مشكلة الغاز المنزلي في اليمن، طالما أن إنتاجه يتم محلياً، والتحكم بعملية توزيعه لا يزال بيد الحكومة اليمنية "الرسمية". لكن هذا لا يحدث لأنه لا يوجد من يطالب به، أو حتى من يرى أن هناك مشكلة. لقد جرت خصخصة معظم الخدمات طوال سنوات الحرب، وما تبقى منها أصبح مجالاً للتربّح.

ويبدو أن الأحزاب السياسية في اليمن، لم تعد ترى في وجود الدولة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين قاسماً مشتركاً بينها، وإلا لكانت تحالفاتها الشكلية المعلنة من وقت لآخر ستصبح مجدية. ما تفعله تلك التحالفات هو أنها تضمن للأحزاب تمثيلاً في الحكومة، ومداخلَ للحصول على بعض المصالح. والتباينات القائمة بينها تستند على الأحقاد، وصارت هي غالباً بمثابة البرنامج السياسي لها في ميدان القضايا الكبيرة.

توفير الغاز في أحياء العاصمة صنعاء وفي مناطق أخرى كثيرة، خاضع لعدة اعتبارات. منها عدد ما يطلق عليهم "المجاهدون والشهداء" المنتمون إلى هذا الحي أو تلك المنطقة. إذا كان العدد كبيراً فإن السكان يحصلون على الغاز بسهولة وبشكل دائم وبسعر معقول. ويكون التوزيع أسبوعياً، وهناك امتيازات خاصة لأسر المقاتلين.

بقاء أزمة الغاز في تعز يعود في جزء منه إلى الفساد والمتاجرة من قبل تجار على علاقة بقيادات عسكرية ومدنية في الدولة، وأيضاً بسبب غياب الرقابة التي تشجع على تهريب جزء من حصص الغاز من مناطق الحكومة إلى مناطق سيطرة الحوثيين لبيعها والتربّح من فارق سعر العملة. 

والأحزاب السياسية لا ترى في المرأة إلا صوتاً انتخابياً، ووجوداً شكلياً في الهيكل القيادي، بدون نقاش لقضايا وواقع المرأة اليمنية. وفي ظل الحرب، اختفت المرأة تماماً عن المشهد، أو لعلها تراجعت بقوة الواقع إلى مكانها "الطبيعي" وهو المطبخ. تقوم بما يُطلب منها وتعاني بصمت.

أما النقابات فهي أصبحت ملحقةً بالأحزاب وبأزمتها، ولم يعد لها وجود فعلي، واتحاد نساء اليمن الذي أصبح دوره شكلياً منذ سنوات حكم صالح، اقتصرت أنشطته المحدودة على ما يتيحه التمويل الخارجي واشتراطاته، وكذلك هي المنظمات غير الحكومية التي تقف عند القشور، وتذهب إلى قضايا المرأة، ولكن في مجتمع لا يشبه المجتمع اليمني، وفي واقع لا يقترب من واقع المرأة اليمنية إلا لُماماً.

وقد أثيرت مؤخراً قضية منع المرأة من استخراج جواز سفر لها دون موافقة الأب أو الزوج أو الأخ، على الرغم من أن القانون لم ينص على ذلك، والإجراء يتعلق بالعرف الإداري الذي أصبح متّبعاً في مصلحة الجوازات ومعزَزاً بثقافة محافظة. وبالطبع فهذا موضوع مهم، لكنه لا يمس سوى عشرات النساء، وهنَّ أولئك اللاتي يمكنهن السفر إلى دول أخرى على حسابهنَّ الخاص. وهكذا أصبحت قضايا النساء هي قضايا فئة بسيطة منهنَّ ممن يعملن في المنظمات غير الحكومية والإعلام. لكن غالبية النساء اليمنيات لديهنَّ قضاياهنَّ المختلفة والتي لا يلتفت أحد لها.

وهناك آلاف المشاريع عن المرأة التي تنفذها المنظمات غير الحكومية في اليمن، لكن لم يتطرق أحد حتى الآن إلى قضية أزمة الغاز، والتي يخدم حلها ملايين النساء اليمنيات... حتى تستطيع المرأة أن تتنفس هواءً نقياً على الأقل، يمكنها من البدء في التفكير بأن لها حقوقاً أخرى يجب انتزاعها!

الشمس كحل منتظر!

في قديم الأزل، عبد اليمنيون الشمس! وخلال سنوات الحرب نشأت بين اليمنيين وبين الشمس علاقةٌ من نوع خاص. لقد أصبحوا يكنون لها قدراً كبيراً من العاطفة والاحترام الواجب. فلولا الطاقة الشمسية التي انتشرت في الأعوام الأولى من الحرب لكانوا غرقوا في الظلام. حتى إن اليمن من أكثر الدول التي اعتمدت على ألواح الطاقة الشمسية في السنوات الأخيرة.

ويبدو أن هذه العلاقة في طريقها لتتعزز أكثر، إذ يبدو أنه يمكن الاعتماد على الشمس في حل أزمة الغاز، من خلال أفران تعمل بالطاقة الشمسية، تسمى "طباخات شمسية" ويمكن استخدامها في الأوقات الصعبة. غير أن مشكلة الطباخات الشمسية التي دخلت بعض المطابخ اليمنية فعلاً، تكمن في كونها لا تزال تصنع بطرق بدائية، ومن قبل أفراد ومبادرات محدودة، ولا إنتاج صناعي لهذا النوع من الطباخات حتى الآن.

هناك مئات الحوادث بسبب انفجار أسطوانات الغاز في المنازل، جراء عدم صيانتها منذ بداية الحرب. حيث قدر عدد الأسطوانات غير الصالحة، بنحو 12 مليوناً. وعندما تنفجر يكون معظم ضحاياها من النساء والأطفال. 

... علماً أن الغاز المستخدم في المنازل يُستخرج من آبار بقرب معبد الشمس في مأرب، وهو كان هبةً طبيعية قبل أن يدخل في حسابات البشر.  

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه