كانت رائحة كريهة تفوح من القاذورات، والإطارات المحروقة تملأ الجو حين نزلتُ من السيارة في كفر قدوم شمال الضفة الغربية، وهي رائحة تذكرنا بالمواجهات شبه المستمرة بين المستوطنين والجنود الإسرائيليين من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى.
وسط هذه المعارك تعيش عائلة أبو إيهاب، التي تقيم في منزل من طابقين يقع على منحدر أسفل الطريق التي سلكناها. تربي الأسرة الدجاج في الطابق الثاني، فيما يقيم أفرادها في الطابق الأول الذي لا يوفر إلا حماية بسيطة من القنابل المسيلة للدموع والإطارات المحروقة والحجارة. وكثيراً ما يقوم الجيش الإسرائيلي بتحرّكات في محيط أرض عائلة أبو إيهاب خلال عمليات التفتيش الليلية، كما أنها تدخل منزلهم في بعض الأحيان.
هذا وتفوح الروائح النتنة من قناة الصرف الصحي المفتوحة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي لتلويث المتظاهرين الذين يتجمّعون أسبوعياً على هذه الطريق. ومن المؤسف أن نرى الابن البكر لهذه الأسرة يتقيأ الآن بمجرد أن يرى الطعام. لكن هذه المشكلة ليست إلا إحدى التبعات التي تعيشها هذه الأسرة، إذ فقدت البنت الكبرى السمع في أذنها اليمنى حين انفجرت قنبلة صوتية قرب منزلها، وهي من القنابل التي يستخدمها الجيش ضد المتظاهرين.
وقال لي المختص النفسي الذي يعمل مع منظمة "أطباء بلا حدود" والذي يقدّم الاستشارات للأم منذ عام: "كانت تبدأ بالبكاء قبل أن تنهي جملة واحدة. أما اليوم، فهي تستطيع التحدّث عن مخاوفها من دون أن تنهار".
وبهذه الطريقة تقوم أطباء بلا حدود، بوصفها منظمة طبية إنسانية، بتحديد مدى تطور الأوضاع في الضفة الغربية، وذلك من خلال التغيرات التراكمية التي تحدث لكل مريض. وخلال الخمس عشرة سنة الماضية، ركزت برامجنا في فلسطين بشكل رئيسي على الصحة النفسية، لكن زملائي يشعرون أحياناً بأن مثل هذه البرامج لا تمنح المرضى سوى درع نفسي ضد الصدمات اليومية التي يعيشونها. والمرضى هم أهالي المراهقين المحتجزين في السجون الإسرائيلية أو السلطة الفلسطينية، والأطفال الذين تم احتجاز أحد والديهم أو كليهما، وكذلك أولئك المتضررين من عمليات التفتيش التي ينفذها الجيش الإسرائيلي.
تشهد طواقمنا كل يوم على التبعات الطبية التي يخلفها الاحتلال. يمكننا علاج الأعراض، لكننا لا نقدر على تغيير الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى هذه المعاناة. وفي ظل هذه المعاناة التي أصبحت جزءاً من الحياة، بدأنا نتساءل عن سبب وجودنا، ونجد أنفسنا أمام معضلة إنسانية: كيف يمكن أن نخفف من معاناة السكان من غير أن نعزز القوى المسؤولة عن هذا الأمل؟
ومع اقتراب الذكرى السنوية للحرب الأخيرة على غزة (والتي لا يُرجّح أن تكون خاتمة الحروب)، يتعين علينا فهم أن المنظمات الإنسانية لا يمكنها أن تحتكر هذه المعضلة لنفسها. ويجب على الدول كافة، وبالأخص الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تتحمّل مسؤولياتها إزاء معاناة الفلسطينيين. وهذا الكلام ينطبق بوجه الخصوص على الدول التي تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية، سواء عن طريق دعم الدول كافة من خلال المساعدات الإنسانية أو العسكرية أو عن طريق تأمين غطاء سياسي لسياساته وممارساته.
عنف بيروقراطي
شهدت منظمة أطباء بلا حدود عن كثب على أسلوب الإسرائيليين في استخدام الاعتقال الإداري الذي لا يتطلب وجود أي تهمة بحق المحتجزين، وهذا يفاقم العنف النفسي الذي يتعرض له الأطفال الفلسطينيون. فالصدمة التي يقاسونها نتيجة اعتقال أحد الوالدين منتصف الليل، يرافقها غموض حيال موعد عودة الأم أو الأب إلى المنزل.
كما أن حوادث فصل الأسر آخذة بالارتفاع، حيث ازداد المعدل الشهري للفلسطينيين الذين تعتقلهم السلطات الإسرائيلية بسبب مخالفات أمنية مزعومة بنسبة 24 في المئة في سنة 2014. وتظهر بيانات الأطفال الفلسطينيين المعتقلين لدى الجيش الإسرائيلي بأن 185 طفلاً تعرّضوا للاعتقال شهرياً بشكل وسطي خلال سنة 2014، مقابل 198 طفلاً في العام 2013، وهذا يشير إلى انخفاض بنسبة 6 في المئة فقط.
وبحسب "مركز أسرى فلسطين للدراسات"، أصدرت المحاكم العسكرية للاحتلال الإسرائيلي منذ بداية 2015، 319 أمر اعتقال إداري من دون تهم أو محاكمات. وهذه زيادة بنسبة 500 في المئة عما كان عليه الرقم في الفترة ذاتها من العام 2014، حين صدر وقتها 51 أمراً.
القلق من الأخطار الليلية أمرٌ ملموس. فغالباً ما تقوم الأمهات في المجتمعات التي نعمل فيها بتبادل رسائل نصية قصيرة بمجرد ظهور بوادر لحملة تفتيش، وتنتفض كثير منهن لإيقاظ أطفالهن في منتصف الليل وإلباسهم، كي يتجنبن قيام الجنود الإسرائيليين باقتحام المنزل أو دخولهم بينما كل أصحابه لا زالوا في ملابس النوم.
الجسد لا يكذب
تتضمّن معظم الأحداث التي يرويها المرضى الذين تستقبلهم فرق أطباء بلا حدود، حملات تفتيش عنيفة ينفذها الجيش الإسرائيلي في بيوتهم (52 بالمئة)، واعتقال لواحد أو أكثر من أفراد الأسرة (42 بالمئة)، وعنف غير مباشر كإطلاق النار أو عمليات التوغل التي يقوم بها الإسرائيليون (35 بالمئة).
ويعد وجود الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، واستخدامه المستمر للقوة في معظم الأحداث التي يتدخل فيها، السبب الرئيس للصدمة النفسية التي يعيشها مرضانا. كما أن 20 في المئة منهم يعيشون بالقرب من المستوطنات، ولهذا فهم معرضون باستمرار للتوتر. وهذا هو الضرر النفسي الذي يخلفه الحصار المستمر على سكان الضفة الغربية.
يُشار إلى أن الأطفال هم الضحية الأكبر، فهم يتأثرون بسهولة بما يحدث. ولذلك نجد بأن 50 في المئة من مرضانا لا يتجاوزون 15 عاماً من العمر، كما أن 25 بالمئة هم دون سن العاشرة. ومن أكثر الأعراض شيوعاً نجد اضطرابات النوم (50 بالمئة)، القلق (36 بالمئة)، صعوبة التركيز (28 بالمئة)، العدوانية (23 بالمئة) وتبليل الفراش (21 بالمئة). وحتى أن أكثر المختصين النفسيين خبرة، الذين يعملون معنا، صدموا بهذه المستويات.
عنف المقرّب
يعاني سكان الخليل في جنوب الضفة الغربية أشكالاً قاسية من المذلّة تنبع من مكان قريب، فالعنف بين المجتمعات الفلسطينية والإسرائيلية يندلع كل يوم.
وعلى قمة تلٍّ يشرف على المدينة القديمة، قابلت سيدة فلسطينية كانت تزور برنامج الاستشارات التابع للمنظمة. فقد كانت مصابة بالسكري وارتفاع الضغط ونقص التروية، وقد اضطرت إلى دخول المستشفى العام مرات عدة على مدى أعوام. استجمعت قواي بعد أن كنت ألهث من صعود التلة للوصول إلى منزلها، وبدأت بالاستماع إلى قصتها حيث أخبرتني كيف عاشت أسرتها هنا لأكثر من 70 عاماً، وكيف شيّدت المستوطنة سنة 1984 في هذه المنطقة مقابل باب منزلها الأمامي.
ومنذ سنة 2003، لم يعد يسمح لها ولأسرتها باستخدام الباب الأمامي للمنزل. ويتوجّب عليها إن أرادت الذهاب إلى المستشفى أو مغادرة المنزل لأي سبب كان، أن تخرج من الباب الخلفي وتمشي على طريق ترابية تملؤها نفايات المستوطنة وتفيض كلما أمطرت، للوصول إلى سيارة الإسعاف أو سيارتها المتضررة (وكان المستوطنون قد أعطبوا سياراتها الخمس السابقة). أما للوصول إلى السوق، فبدلاً من رحلة كانت تستغرق خمس دقائق، يتحتم على ابنتها اليوم أن تسلك طريقاً غير مباشرة تستغرق حوالي نصف ساعة.
الأمر لا يتوقف على منعها من استخدام بابها الأمامي، إذ إنها لا تستطيع أيضاً منع الغرباء من استخدامه لدخول ساحة منزلها. كما أن الجيش الإسرائيلي أخبرها مؤخراً بأن منزلها لم يعد متصلاً بنظام الصرف الصحي البلدي.
والمآسي اليومية ليست نادرة في الخليل. يقدّر تعداد السكان الفلسطينيين في الخليل بنحو 150 ألف نسمة مقابل 500 مستوطن إسرائيلي، لكن يتواجد في المدينة أكثر من 4000 جندي تابع للجيش الإسرائيلي لحماية المستوطنين. هناك أكثر من 120 حاجزاً، بينهم 18 نقطة تفتيش دائمة في منطقة تُعرف باسم H2 وتشكل أكثر من 20 بالمئة من مدينة الخليل، وهي المنطقة التي لا تزال إسرائيل تتحكم بشكل كامل بحرية حركة السكان الفلسطينيين فيها.
وفيما كنت أتحضر لمغادرة منزلها، همست لي من خلال المترجم قائلة: "لقد زرت شيكاغو، لكنني لم أذهب إلى غزة".
البؤس يخيّم على غزة
هذه السيدة ليست وحدها. فالفلسطينيون الذين يعيشون في البقع المسكونة الآخذة بالتقلص في الضفة الغربية محرومون جميعهم من السفر إلى غزة. ومن الصعب أن نتخيّل الفرق بين المواجهات اليومية والقمع الذي يعيشونه، وبين الحرمان والحصار الذي يضرب غزة. ولو كان بإمكان فلسطينيي الضفة الغربية زيارة غزة، سيرون ما يقع في شمال القطاع، وبأن الأمر يبدو وكأن الحرب الأخيرة قد انتهت للتوّ. سيرون أنه لم تتم إعادة إعمار أي مبنى مدمّر منذ أن بدأت القوات الإسرائيلية حملتها العسكرية على غزة والتي استمرت 50 يوماً خلال شهري تموز وآب 2014.
لا تزال النقاشات حول الحرب قائمة خارج غزة، لكن معظم الجدل العام، والتقارير شبه الأسبوعية الصادرة عن الأمم المتحدة، وتلك الاخرى التي تتعلق بحقوق الإنسان، تركز كلها على أفعال المقاتلين وطبيعة الأعمال العدائية للطرفين. هذه التحقيقات مهمة، لكنها لا ينبغي أن تخفي البؤس المستمر الذي تعيشه غزة.
أما أعداد الضحايا فتخبرنا عن جانب من جوانب الحرب وآثارها. فبحسب الحكومة الإسرائيلية، قتل 71 إسرائيلياً بينهم خمسة مدنيين. وبحسب لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في العام 2014، فقد قتل 2251 فلسطينياً بينهم 1462 مدنياً، منهم 299 امرأة و551 طفلاً. كما جرح نحو 11231 فلسطينياً بينهم 3540 امرأة و3436 طفلاً.
وخلال الحرب، تعرّضت المرافق ووسائل النقل والفرق الطبية للهجوم مراراً. فقد تضرر أو دمر في غزة 17 مستشفى و56 مركزاً للرعاية الصحية الأولية و45 سيارة إسعاف، في حين توفى 16 عاملاً صحياً (أثناء تأدية واجبهم)، كلهم فلسطينيون، نتيجةً للنزاع.
وقد بقيت عيادة بالرعاية ما بعد الجراحة في الحرب، لكنها عملت بأقل عدد ممكن من العاملين، وأدخلت نحو 95 حالة جديدة في الفترة بين 15 تموز و24 آب 2014، كما تابعت الحالات الحرجة التي كانت قد قبلتها قبل تلك الفترة. وكي لا يضطر المرضى للعودة إلى العيادة خلال القصف، قام فريقنا بإعطاء كل مريض مجموعة من مستلزمات التضميد التي يمكن أن يستخدمها بنفسه.
عولج معظم الجرحى من الطواقم الطبية الفلسطينية وقد كان عاملو الإغاثة في الهلال الأحمر الفلسطيني يقومون بنقل الجرحى في ظروف خطيرة للغاية إلى المرافق الطبية العامة في غزة.
أما فرق الجراحة والطوارئ الإضافية التابعة للمنظمة والتي تمكنت من دخول غزة خلال الأسبوع الأول، فقد بدأت على الفور بالعمل في وحدات الجراحة الرئيسية ووحدة العناية المركزة وغرفة الطوارئ في مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر. كما تمكنت فرق "أطباء بلا حدود" من دعم وحدة علاج الحروق في مستشفى الشفار، حيث عالجت أكثر من 80 مريضاً في آب 2014. ونظراً للتدفق الكبير للمرضى خلال تموز، فقد كان من المستحيل الاحتفاظ بسجلات دقيقة لأعداد المرضى الذين تلقوا العلاج.
وفي نهاية المطاف، جرى توقيع اتفاق وقف إطلاق نار، لكن عدد ضحايا الحرب لا يزال يرتفع. وفي 15 أيار 2015، أصيب أكثر من 50 شخصاً جراء انفجار قنابل لم تكن قد انفجرت في بيت لاهيا في شمال القطاع. وهذا الحادث لن يكون الأخير من نوعه على الأغلب، حيث يقدّر وجود 7000 قنبلة لم تنفجر في غزة.
الزمن قد توقف
في أعلى الأبنية شبه المهدمة، تتأرجح قضبان الفولاذ والأسلاك فوق أكوام الحطام. لكن الفلسطينيين يحاولون إعادة استخدامها خاصةً وأنهم بحاجة إلى مثل هذه المواد التي تعدّ ثمينة في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر على غزة، والذي تفاقم منذ تشرين الأول الماضي، حين أغلقت مصر معبر رفح الذي يصل إلى جنوب غزة ودمّرت أنفاق التهريب التي كانت توفر شريان حياة لأهل غزة. والعديد من المواد الأساسية التي تخشى إسرائيل من أن تستخدم لأغراض عسكرية – وهي مواد توصف بأنها "ذات حدين"- يُمنع إدخالها إلى غزة مطلقاً، بدءاً بالإسمنت وانتهاءً بقضبان الفولاذ. حتى الخشب اللازم للبناء أصبح مدرجاً ضمن هذه المواد ويتوجب أن يمر عبر الأمن الإسرائيلي. ويستخدم الرمل لدعم ما توفر من الإسمنت الذي دخل غزة.
لكن الكلفة التي يدفعها الناس في ظل الوضع الحالي أمر واقع. فعيادات "أطباء بلا حدود" في مدينة غزة وخان يونس ملأى بالأطفال الذين يعانون من حروق شديدة تعرّضوا لها في حوادث طبخ وقعت في منازل تضرّرت خلال الحرب. وقد أصيب بعض مرضانا بحروق نتيجة انفجارات ناجمة عن استخدام مواد تدفئة منزلية رديئة الجودة. وفي نيسان بلغت نسبة معالجة الحروق في مرافق منظمتنا في غزة 70 بالمئة، كان 65 بالمئة منهم أطفالاً دون سن الخامسة عشرة.
ولا يزال هناك أشخاص بحاجة إلى عمليات جراحة تقويمية إضافية أو علاج فيزيائي للإصابات التي لحقت بهم خلال الحرب التي وقعت الصيف الماضي، وبينهم طفلة تبلغ من العمر 8 أعوام قابلتها في عيادة الرعاية التالية للجراحة في مدينة غزة. كانت هذه الطفلة قد فقدت وظيفة أطرافها بعد إصابتها بشظية صاروخ إسرائيلي في ظهرها. وعلى الأغلب، ستستعيد 50 بالمئة فقط من وظائفها التي تضررت.
لكن هناك الكثير غيرها. فعدد حالات الجراحة التقويمية المتراكمة قد وصل الآن إلى 300 حالة. وبالنسبة لأولئك الذين فقدوا أطرافهم وحالفهم الحظ بالعودة إلى بيوتهم التي نجت من التدمير، ستكون حياتهم اليومية صعبة للغاية. فكم من الصعب سيكون عليهم التحكم بكرسي متحرك في شارع يلمؤه حطام الأبنية المدمّرة.
اليوم، وبعد مرور عام تقريباً على الحرب، لا يزال هناك خلاف قائم بين الطرفين حول عدد الضحايا، إلا أن المنظمة تستطيع أن تؤكد بأن هناك غلبة واضحة للأطفال دون سن الثامنة عشرة الذين يعانون من إصابات تتعلق بالحرب وتتطلب عمليات جراحية وعلاجاً فيزيائياً. تعمل فرقنا معهم كل يوم وتحاول التخفيف من ألمهم مع العلم أن حركة حماس قد منعت العديد من مسكنات الألم التي تتطلّب وصفة طبية نظراً لارتفاع نسبة الإدمان في غزة.
وفي عيادة "الرعاية ما بعد الجراحة" التي نديرها في مدينة غزة، نسمع صرخات الأطفال الذين يقوم العاملون الطبيون بتضميد حروقهم من دون مسكنات للألم. وهذا ليس إلا مثالاً آخر عن المعاناة التي خلفتها الحرب الأخيرة والتي لا تزال آثارها تطال الفلسطينيين. كما يكشف أيضاً عن المعوقات الكبيرة والمؤسفة التي تقف في وجه العمل الإنساني في ظل الاحتلال.
لا مكان للأمل
يسيطر نوع من البؤس المخيف الذي لا مكان فيه للأمل أو المستقبل على الحياة اليومية في غزة، وباتت الحرب حتمية في الأذهان وجزءاً من الفصول المتعاقبة. فطفل لم يتعدّ عمره 10 سنوات عاش ويلات الحرب أربع مرات في حياته، ومع كل حرب ترتفع الحصيلة أكثر: فقد تم تدمير 12410 منازل بالكامل في 2014، مقابل 3425 منزلاً في 2009.
لكن أهل غزة لا زالوا صامدين وسط كل ما يجري. وقامت مجموعة منهم بتنظيم مهرجانٍ للسينما مطلع شهر أيار، كان بمثابة نسخة مصغرة عن مهرجان جرى وسط الركام في غزة، إلا أن ثمة حتمية مشؤومة لا تزال تخيم على واقع الحياة اليومية.
فقد عاد من جديد اختبار وإطلاق الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل، مما يؤدي إلى رد إسرائيلي ضخم. فهذه الأفعال التي تدعى بالمقاومة من هذا الجانب وبالإرهاب من الجانب الآخر، لا تخدم سوى دعاة سياسة الفصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين ونفي إنسانية "الآخر"، وهي دينامية تصاعدت وتيرتها منذ الانتفاضة الثانية.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، تم تفجير عبوات يدوية الصنع ليلاً وفي ساعات الصباح في شوارع غزة، من دون أن يسقط ضحايا لحسن الحظ، لكن الكثيرين يتساءلون ما إذا كانت هذه العمليات تنذر بجولة جديدة من الصراع الداخلي الفلسطيني، في حال فشل المحادثات بين حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية.
وبلغت الأوضاع في غزة درجة من العبث باتت معها منظمات الإغاثة والديبلوماسيون يشتكون خلال الاجتماعات الخاصة التي كنا نعقدها من تدمير أنفاق التهريب – التي تستعمل لتهريب السلاح وكذلك المواد والسلع الضرورية للحياة اليومية - عوضاً عن الظروف التي كانت أساساً وراء إنشائها.
يحصل كل هذا في غياب أي تقدم ملموس على الصعيد السياسي، مع استمرار منظمات الإغاثة – بما فيها أطباء بلا حدود – وبعض الدول، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وبلدان الاتحاد الأوروبي، في دعم تكلفة الاحتلال الإسرائيلي، حيث بلغت قيمة هذا الدعم 1.6 مليار دولار أميركي منذ 2010.
وحتى هذا الدعم المتواضع لمقومات الحياة بات مهدداً، فمنذ أواخر نيسان 2015، وبحسب تحليل للالتزامات الثنائية ومتعددة الأطراف عقب الحرب، لم تساهم الأطراف المانحة إلا بما قدره 27.5 بالمئة أو 976 مليون دولار أميركي من المبلغ التي التزمت بدفعه، والذي كان 3.5 مليار دولار أميركي. كما أن 35 بالمئة فقط من المبلغ التي تعهدت به الأطراف – أي 1.2 مليار دولار أميركي – تم تسديده بتمويل جديد، حيث كان الباقي نتيجة عمليات إعادة تخصيص وتمويلات طارئة تم تسليمها بينما القنابل لا زالت تسقط على رؤوس الفلسطينيين في غزة، علماً أن 13.5 بالمئة فقط من هذا الدعم، أي 165 مليون دولار أميركي، تم فعلاً صرفها.
بموازاة ذلك، بلغت نسبة البطالة في غزة أعلى مستوى على صعيد العالم، بمعدل 44 بالمئة، مرتفعةً بمقدار 12 نقطة مقارنة بالفترة التي سبقت الحرب، فيما بلغت نسبة البطالة بين صفوف الشباب 60 بالمئة، وهي أعلى نسبة على مستوى منطقة الشرق الأوسط. كما يعيش 40 بالمئة من سكان غزة – 1.8 مليون نسمة – تحت خط الفقر، رغم أن 80 بالمئة منهم يتلقون بعض المساعدات.
ولا يجب أن يستمر ارتباط السكان بعشرات السنوات من المساعدات الدولية. فحسب دراسة للبنك الدولي صدرت في 2014، لو تمّ السماح للسلطة الفلسطينية باستخراج معادن البحر الميت واستغلال الأراضي الواقعة حالياً في المنطقة "C" من الضفة الغربية، فسيدر عليها ذلك 2.2 مليار دولار أميركي من المداخيل الإضافية، ويُغنيها عن أي مساعدات دولية إضافية.
ثغور دائمة التقلص
في تلك الأثناء، لا تنفكّ "الحقائق على الأرض" تزداد تدهوراً في القطاع والضفة على حد سواء. فالفلسطينيون لا يتحكمون اليوم إلا في 40 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، بينما يسيطر سكان المستوطنات والجيش الإسرائيلي على باقي المناطق المحظورة على الفلسطينيين، الذين تحاصرهم نقاط التفتيش والألغام الأرضية. وهذه القيود على حرية الحركة وتقلص الفضاء الفلسطيني أمور ستزداد سوءاً.
فهناك مخططات لترحيل البدو لمنطقة شمال أريحا وفتح ممر ممنوع على الفلسطينيين بين الشرق والغرب، يربط القدس الشرقية بالبحر الميت ويقسم الضفة إلى شطرين، بينما ترفض وكالات الإغاثة، بما فيها أطباء بلا حدود، المشاركة بأي شكل من الأشكال في عملية الترحيل القسري التي باتت حتمية، من خلال بناء ملاجئ جديدة لإيواء البدو مثلاً.
أما المجتمع الدولي فليس لديه أي شيء يعرضه على الأطراف في المستقبل المنظور في سبيل التوصل لتسوية سياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبالحديث إلى الفلسطينيين، نجد فقداناً للأمل ينتشر بينهم كما تنتشر الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة التي تحاصرهم. فبالنظر لعدد سكان المستعمرات في كل من القدس الشرقية والضفة الغربية، الذي بلغ 600 ألف نسمة، لا يرى الفلسطينيون أي أمل في قيام دولة فلسطينية أو تخفيف للقيود المفروضة على تحركاتهم. أما في غزة، فسكانها الذين يقاربون مليوني نسمة لا يسعون إلا إلى عيش يومهم.
التواطؤ الإنساني
إن فرق "أطباء بلا حدود" في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي مناطق نزاع أخرى عبر العالم، لا تنفكّ تنظر لعملياتها من زاوية ضمان أن لا تُحدث المساعدات التي تقدّمها ضرراً أكبر من نفعها. في الوقت الراهن، سنستمر في تضميد جروح الفلسطينيين الجسدية والنفسية، ونحن ندرك أن حرباً جديدة مع إسرائيل قد لا تكون بعيدة وأن أعداداً كبيرة من الناس تحتاج للمساعدة الآن.
هذا هو دورنا الذي نعيد النظر فيه باستمرار من خلال أطقمنا على الأرض، التي ما فتئت تصارع لتبين الخط الفاصل بين التواطؤ مع الاحتلال ورفض تجاهل تداعياته، علماً بأن تدخلنا الإنساني كان دائماً مبرراً كاستجابة لاحتياجات الفلسطينيين العالقين داخل دائرة هذه الحرب التي لا تنتهي.
وكما كان الشأن بالنسبة للسنوات الخمس عشرة الماضية، حضورنا هو نوع من الاحتجاج على هذا الاحتلال الذي لم يكد يتغيّر وجهه، علماً بأن المعاناة مستمرة في غزة والضفة الغربية وبأن قبول اللامقبول من قبل المجتمع الدولي هو أكثر أشكال الاحتلال فتكاً بالفلسطينيين الذين لا يرون نهايةً تلوح في الأفق.