العديد من الأوساط السياسية والحقوقية في تونس أصبحت قلقة مما وصفته بتراجع منظومة مكتسبات المرأة في تونس خاصة مع تفشي ظاهرة تعدد الزوجات والزواج العرفي بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم. وتعود أسباب تفشي الظاهرة في نظرنا إلى سببين، الأول يتعلق بطبيعة القانون التونسي والثاني مرتبط ببداية مظاهر ما يمكن أن نسميه مع كثير من التنسيب "أسلمة المجتمع"، مع إمكانية تداخل العاملين في الفترة الأخيرة.
المفارقة العجيبة
تنفرد المحاكم قبل الثورة في تونس وخاصة بعدها بمشاهد طريفة جداً، تلك التي تجمع في أكثر من مناسبة بين الإدّعاء والقضاء من جهة والمحامين وبعض الشباب الموقوفين من الإسلاميين المتشددين من جهة أخرى. فالادّعاء يحاول جاهدا إلصاق تهمة الزواج "على خلاف الصيغ القانونية" بالمتهمين والدفاع يجتهد في إقناع هيئة المحكمة بأنّ علاقة موكله بموكلته هي علاقة رجل بعشيقته، مما يجعلها تدخل في باب الحرية الشخصية. فما الذي يجعل رجلا إسلامياً يتخفى وراء حرية المعاشرة الجنسية رغم أن ذلك يعدّ زنا بحسب "الشريعة الإلهية" التي يطالب الكثير منهم بتطبيقها؟
بين الفقه الشرعي والقانون الوضعي
حرّم الإسلام كل علاقة جنسية خارج إطار الزواج معتبرا إياها فاحشة بدليل القول القرآني "ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا" (الإسراء 32) وسلط على مرتكب الزنا أشد العقوبات. وتختلف العقوبة المقررة في الفقه الإسلامي عن اقتراف الزنا حسبما كان الزاني بكرا أو محصنا، فإذا زنى البكر ذكرا أو أنثى عوقب بالجلد مائة جلدة وإذا زنى المتزوج رُجم حتى الهلاك. ولئن تأثر المشرع التونسي في مجلة الأحوال الشخصية وفي المجلة الجزائية ببعض مفاهيم الفقه الشرعي وحتى ببعض ألفاظه (استعمال كلمة الفاحشة مثلا في المواد المتعلقة بالجرائم الجنسية في المجلة الجزائية)، فانه اختلف عنه اختلافاً جوهرياً في تكييف الجرائم وليدة العلاقات الجنسية غير القانونية وفي تحديد العقوبة المستوجبة في حال ارتكابها. والاختلاف الذي يهمنا هنا هو الاختلاف في اعتبار تحديد جريمة الزنا. فبخلاف الفقه، ارتبطت هذه الجريمة في القانون التونسي بالخيانة الزوجية حصرا وهي وليدة علاقة جنسية بين رجل وامرأة كان أحدهما أو كلاهما مرتبطا بزواج رسمي ما زال قائما مع الغير على معنى المادة 236 من المجلة الجزائية. فاذا استثينا جريمة الزنا كما يحددها المشرع التونسي وبعض الجرائم الجنسية الأخرى التي تقع تحت طائلة القانون التونسي والقائمة على المثلية أو الاستكراه، فقد صنف المشرع العلاقات الجنسية القائمة على الرضا ولكن غير القانونية بين رجل وامرأة راشدين:
1- الزواج على غير الصيغ القانونية
2- جريمة البغاء السري والمشاركة فيه. وما يسترعي انتباهنا هنا في تبين العلاقة بين الفقه والقانون هو ذلك المزج بين فكرة تجريم العلاقة الجنسية في الحالات المذكورة وعدم تجريمها في حالة قيامها بشكل عرضي وبالرضا بين شخصين راشدين غير متزوجين وذلك بخلاف الفقه الشرعي. وقد يكون هذا المعطى ساهم في انتشار ظاهرة ممارسة الجنس من دون زواج في تونس. ومن المفارقات العجيبة أن الإسلاميين أنفسهم قد استفادوا منها. فهذا الغموض أحيانا في التمييز بين الزواج على غير الصيغ القانونية والعلاقة الجنسية العرضية هو الذي شجع كثيرا منهم على الزواج العرفي أو تعديد الزوجات دون خوف من التبعات القانونية لسلوكهم.
هل يمارس الإسلاميون علاقة حرة أم زواج على غير الصيغ القانونية؟
لا شك أن الإسلاميين من الاتجاه السلفي أو غيرهم من ذوي الميولات الدينية يدركون بأنفسهم أو من خلال وكلائهم هذه الفروق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي التونسي. ولذلك، كثيرا ما يحاولون إيهام المحكمة أنّه من حقهم أن يعاشروا من النساء من يشاؤون وبالعدد الذي يريدونه وبالصيغة التي يختارونها على اعتبار إن ذلك يدخل في باب الحرية الشخصية. فهل ذلك صحيح؟
الإسلاميون يمارسون "عقيدة دينية" لا حرية شخصية
أن شروط صحة عقد الزواج وفق القانون التونسي تتمثل في توافر السن القانونية للطرفين، ووجود الشهود والإشهار مع إثبات هذا العقد في السجلات الرسمية لدى عدول الإشهاد أو ضبّاط الحالة المدنية في البلديات. ويجرّم القانون التونسي كلّ صيغ الزواج التي لا تستجيب للشروط القانونية والمدنية، معتبراً إياها باطلة لكونها “زواجاً على خلاف الصيغ القانونية”. ومن أهم شروط صحة الزواج حسب القانون الوضعي التونسي الذي ورد في مجلة الأحوال الشخصية والتي تعتبر المرجعية القانونية الوحيدة لإتمام مراسم الزواج، هو توفر السن القانونية للقرينين وهو 18 سنة للذكر والأنثى، ووجود الشهود والإشهار. والأهم من ذلك هو إثبات هذه العملية في سجلات رسمية عن طريق أطراف مخولة قانونياً لذلك، مثل عدول الإشهاد وضباط الحالة المدنية. وأيّ صيغة زواج لا تستجيب لهذه الشروط القانونية والمدنية تعتبر باطلة باعتبارها “زواجاً على خلاف الصيغ القانونية”، وهو ما يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. ومن الثابت أيضا قانونا وعادة أن الزواج سواء كان قانونيا أو مخالفا للقانون يجب أن تتوفر فيه شروط أهمها استقرار القصد والنية لدى الزوجين في الارتباط. وبروز هذا القصد في مختلف المظاهر الدالة عليه التي منها المعاشرة أو المساكنة. وأنه خلافا للمجتمعات الغربية التي تبيح العلاقات الحرة بين الجنسين القائمة على المعاشرة ولما هو موجود في الشرق من زواج عرفي، فان المشرّع التونسي اشترط لصحة عقد الزواج توفر جملة من الشروط الجوهرية والشكلية من دونها تبقى العلاقة بين الرجل والمرأة انحرافا باطلا وموجبا للردع. ويتضح مما ذكر ان العلاقة التي يقيمها كثير من الإسلاميين هي من نوع الزواج بخلاف الصيغ القانونية بجميع مقوماتها كالديمومة والمساكنة وهو ما يبرر في كثير من الحالات تتبعهم جزائيا اثر إعلام يصل إلى النيابة العمومية يقوم به أفراد من العائلة أو من الأجوار أو ممن قد يكون متضررا من العلاقة بشكل من الأشكال. أضف إلى ذلك وجود أبناء أحياناً. فما الذي يجعل رجلا إسلاميا يعيش مع امرأة عيشة الأزواج ولكن يدعي رغم ذلك أنها عشيقته؟
صادق مع "شرع الله" مستمتع بقانون البشر
يبدو الاسلاميون عادة مطمئنين جدا إلى سلامة موقفهم وسلوكهم مع الله والقانون. كيف ذلك؟ لا شك لدينا أن كثيرا منهم يقيمون علاقة من نوع الزواج العرفي رغم أنهم لا يعترفون بذلك وهو ما يجعلهم خارج منطقة الزنا بالمفهوم الشرعي لاعتقادهم بصحة وسلامة هذه العلاقة من الناحية الدينية الشرعية. فهو زواج على سنة الله ورسوله على حد رأيهم لا حاجة لها بالاعتراف بالقانون الذي صنعه البشر مما يفتح الباب أمام الطعن في مجلة الأحوال الشخصية برمتها وخاصة القانون المجرم لتعدد الزوجات. ولكنهم يعتبرون علاقتهم بالمرأة التي يعاشرونها معاشرة الأزواج وبالنظر إلى القانون التونسي في حال قيام تتبع ضدهم ممارسة لحرية شخصية، وهو مجرد تحايل يساعدهم عليه محاموهم الذين كثيرا ما يكونون هم أنفسهم من الإسلاميين. كيف ذلك؟ يُعرّف الزواج العرفي بأنّه زواج يشهده الشهود والوليّ في بعض الحالات، ولكنه لا يوثّق توثيقاً رسمياً في المحكمة بمعنى أنه ليس زواجاً مدنيّاً موثقاً، ويتمّ عن طريق كتابة عقد غير قانوني بين طرفين، بحضور شهود أو غيابهم أحياناً. ولا تترتّب على هذا النوع من العقد نفقة وليس للزوجة أي حقوق قانونية لدى الزوج أثناء الزواج وبعد الطلاق.
والزواج العرفي نوعان: فاما أن يكون علنيا وهو ما كان معمولاً به إبّان بدايات الدعوة الإسلامية وفي بعض البلدان العربية إلى حد الآن وفي تونس ما قبل الاستقلال سنة 1956. واما أن يكون سريا، فقد أظهرت دراسة ميدانية أكاديمية أن ظاهرة الزواج العرفي السري انتشرت بنسبة 80 بالمائة في صفوف الطلبة السلفيين بالجامعات التونسية وبنسبة 20 بالمائة في صفوف الطلبة المتعاطفين معهم في السنوات الأخيرة (وهو موضوع نشاهده في جامعاتنا ويحتاج إلى حديث خاص).
هكذا إذن فما يمارسه الإسلاميون لا يدخل ضمن اطار الحرية الشخصية كما كرسها القانون التونسي، بل هو جريمة يعاقب عليها هذا القانون حسبما بينا أعلاه. فبالإضافة إلى بطلان الزواج الذي لا يبرمه من تمت الإشارة إليهم يعاقب الزوجان بالسجن مدة ثلاثة أشهر، و اذا استمرّ الزوجان في المعاشرة رغم التصريح بإبطال زواجهما يعاقبان بالسجن مدة ستة أشهر.
الزواج العرفي ودولة الإسلاميين
هكذا، فان تفاقم هذه الظاهرة يفسره في تقديرنا عاملان أولا هذا المزج بين تجريم العلاقة الجنسية أو إباحتها الذي يعتري القانون التونسي والذي يوقع الكثيرين في الخلط بين الحرية الجنسية والزواج على غير الصيغ القانونية ومنهم عن جهل أو عن دراية. ولا ريب أيضا أنّ تفاقم ظاهرة الزواج العرفي في تونس نتاج طبيعي لصعود الحركات الإسلامية وتولي بعضها الحكم ضمن الترويكا(ائتلاف حزبي جمع حزب النهضة بحزبين علمانيين). فتسامح الترويكا مع الجماعات الإسلامية وخصوصاً منها السلفية أو الجهادية التي لا تعترف بالقانون "الوضعي»، شكّل سببا رئيسيا في تزايد عدد مثل هذه الزيجات، في غير الأطر القانونية. فهل يكون هذا التسامح مقدمة لتشريع تعدد الزوجات وهو جوهر الموضوع ولبه الذي يبدو أن البعض يريد فرضه على المجتمع التونسي مستغلا طبيعة القانون الوضعي الذي ينكره ولكن يتحيل عليه ويستفيد منه فيعدد الزوجات خارج القانون ثم يدعي بعد ذلك انه يمارس حريته بل وصل الأمر أحيانا الى الاعتراف جهارا بالزواج بثانية على الهواء ومباشرة على إحدى القنوات التلفزية. فقد صدم الجمهور التونسي في السنة الماضية بظهور شيخ في 83 من عمره طلبت زوجته البالغة من العمر 65 سنة جلبه لأنه غادرها منذ 5 سنوات وتركها بدون رعاية.
أفصح الشيخ مباشرة على الهواء انه تزوج بأخرى ووصل به الأمر إلى جلبها معه إلى الاستديو معتبرا ذلك أمرا عاديا رغم أن الزوجة الأولى لا تزال في عهدته وهو يعرف ذلك. وقد قال بصريح العبارة انه لا يعتبر نفسه مخطئا وقال" ماذا فعلت أنا؟ تزوجت انثتين... أما أبي فقد تزوج تسعا وثمة من تزوج أربع أو خمس نساء... اثنتان فقط مسألة هينة".ولما طلب منه مقدم البرنامج إن كان يريد إرجاع زوجته الأولى الشرعية، أجاب بأنه يقبل القديمة اذا هي تقبل العيش مع الجديدة.
وقال: "أعود بهما الاثنتين". وقال أنه عقد قرانه على الثانية بواسطة عدل إشهاد وشاهدين وأنه لم يخطئ بزواجه. لا ندري اذا كانت النيابة العامة قد استدعت الشيخ للتحقيق معه لاعترافه بارتكاب جريمة الزواج بثانية كما التحقيق مع عدل الإشهاد الذي حرر العقد الباطل قانونا، إذ أن الرجل المسنّ أقرّ أيضا أن بحوزته عقدا محررا بواسطة عدل. وليست هذه هي المرة الأولى بعد الثورة التي يعترف بها رجل بالزواج على غير الصيغ القانونية. فقد فعل ذلك أيضا أحد المسؤولين في الدولة في حوار تلفزيمعتبرا ما فعله حرية شخصية.
وهكذا يشطل الخوض في موضوع الزواج سواء بأولى أو بثانية خارج الصيغ القانونية ضربا من التطبيع في اتجاه فرض القبول به من قبل الوجدان العام رغم الصدمة الأولى. وبذلك، نكون أمام مسار قد يقود على المديين المتوسط والبعيد إلى إعادة طرح مسألة تعدد الزوجات التي يختص بتجريمها القانون التونسي بين كل البلدان العربية على منبر النقاش العام بعدما خلنا أن المجتمع قد تجاوزها إلى الأبد. وربما ما يعقد المسألة أكثر هو أن بعض ما ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية والتقدمية يجدون حرجا كبيرا في الخوض في موضوع الزواج الباطل موضوع حديثنا. فالبعض منهم يمارس هو نفسه نوعا من العلاقة الحرة التي يجرمها القانون كما ذكرنا مما يجعل الحدود بين المخادنة والزواج العرفي باهتة وغير واضحة المعالم.
ولا معنى بطبيعة منطق القانون القائم على العدل والإنصاف والمساواة لإباحة سلوك ما بعلة انه صادر عن مثقفين تقدميين وإدانة صونه وشبيهه لأنه صادر عن جهات متشددة دينيا. نحن إلى حد الآن أمام طرق محتشمة أو هي متخفية للعودة إلى نظام تعدد الزوجات (في تونس التي تفخر بانجازاتها في مادة الأحوال الشخصية) لا تريد أن تعلن عن نفسها بصراحة بعد، ولكن من يدري ما تحمله قادم الأيام؟
كتابة: عبد السلام الككلي
من المفكرة القانونية (15-06-2015)