مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة منها... بدءا من هزيمة 1967 وحتى الأسئلة القلقة التي تخص اللحظة الراهنة، وما بعدها.
2022-03-05

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
من انتفاضات مصر الحديثة

I – نتائج هزيمة 1967

جاءت انتفاضة 1968 رداً على هزيمة 1967 وسؤال الكفاءة والقدرة على التنظيم الذي أثارته، وطرحت تلك الانتفاضة سؤال الديمقراطية بشكل مركزي. فلقد ربطت بين الاستبداد والسلطوية من جانب، وعدم المساءلة والقدرة على التعاطي الحر مع السلطة، وتقييم مشاريعها من جانب آخر. وكان الطلبة والعمال هم من حملوا لواء هذه الانتفاضة وشكلوا قوامها الاجتماعي.

ما تشكل في أعقاب هزيمة 1967، كان سؤال الكفاءة والقدرة على التنظيم. ولهذا جاءت انتفاضة 1968، وكانت رداً على هذا الأمر، وطرحت سؤال الديمقراطية بشكل مركزي. فلقد ربطت هذه الانتفاضة بين الاستبداد والسلطوية من جانب، وعدم المساءلة والقدرة على التعاطي الحر مع السلطة، وتقييم مشاريعها من جانب آخر. واعتبرت أن الديمقراطية تضمن الحق في مراجعة السلطة، وإخضاعها للرقابة وللاشتباك دائم معها لتقويمها. تصادم هذا الموقف مع طبيعة وبنية الدولة في ذلك الوقت، والتي بدأت مسارها السلطوي على أساس رفض الديمقراطية وتكثيف الحكم والسيطرة من خلال تسلط وهيمنة مباشرين للأجهزة الأمنية على بقية أجهزة الدولة والمجتمع ككل. كما كانت هناك محاولةٌ لطرح سؤال أعمق من الطرح الليبرالي الديمقراطي، وهو حقيقة وطبيعة حجم المشاركة الفعلية في السلطة وإدارة الموارد، داخل نظام احتكر كلاً من عمليتي التنظيم والتمثيل الاجتماعي. فالنظام كان هو التجسيد المركزي لفكرة الشعب، وهو حامل لواء الوطنية المصرية، وهو أيضاً الماكينة الوحيدة الممكنة للتنظيم الاجتماعي. والدولة في ذلك الوقت أخذت على عاتقها تنظيم قوة العمل، وربطها بمشروع وطني وقومي كبير.

 ويجب الالتفات لأمر شديد الأهمية، وهو أن الطلبة والعمال هم من حملوا لواء هذه الانتفاضة وشكلوا قوامها الاجتماعي. وكلاهما كانا يحظيان باهتمام واعتناء النظام بقدر ما أو بآخر. كما أن الحركات اليسارية بدأت في التجذّر بشكل أعمق في هذه القطاعات بعد الانتفاضة وليس قبلها. ولكن الأهم أن هذه القطاعات كانت الأكثر تقدماً من الناحية الاجتماعية، ومواقعها تحظى بأهمية وحساسية شديدة في إدارة قوى العمل نفسها وتنظيمها وفي الإنتاج. وكان التصريح واضحاً: أنتم غير أكفاء ويجب إعادة النظر بكم لأنكم خطر على مستقبل البلد. ويمكن القول إن آثار انتفاضة 1968 ظلت ممتدةً على المستوى الحركي والسياسي حتى انتفاضة 1977.

نمط الحكم بواسطة الفشل

على الرغم من تشكّل أمر شديد الإيجابية من خلال الهزيمة، هو سؤال تلك الديمقراطية بشكل مركزي، إلا أن أمراً شديد الانحطاط سيتعمق على الجانب الآخر: الحكم عبر الفشل، والفشل كمبرر لاستمرار الحكم. وسيأخذ هذا الفشل العميق شكلين أو تمظهرين على المستوى الخطابي والثقافي: الإسلامي في جانب، والأمني في جانب آخر. وكلاهما سيتقابلان على مستوى المحافظة والرجعية الاجتماعية. وسيتبقى حقاً من "دولة يوليو" الجهاز الأمني، وتسلط ذو طبيعة شديدة الرجعية.

طُرح بعد هزيمة 1967 سؤال الديمقراطية بشكل أعمق من المقاربة الليبرالية: معرفة حجم المشاركة الفعلية في السلطة وإدارة الموارد داخل نظام احتكر كلاً من عمليتي التنظيم والتمثيل الاجتماعي. وكان هو التجسيد المركزي لفكرة "الشعب"، وهو حامل لواء الوطنية المصرية، وهو أيضاً الماكينة الوحيدة الممكنة للتنظيم الاجتماعي. والدولة في ذلك الوقت أخذت على عاتقها تنظيم قوة العمل، وربطها بمشروع وطني وقومي كبير.

ما سيتعمق ويتحقق أولاً على المستوى المادي للاجتماع المصري هو إعادة تنظيم كامل لقوى العمل، للتمحور حول السمسرة والمضاربة والاتصالات والنقل. وتدريجياً ستفقد مراكز تنظيم السلطة القديمة، مثل المصنع والمدرسة والجامعة، أهميتها بسبب تحولات الهزيمة داخلياً. ثانياً، إعادة تنظيم المجتمع بعيداً عن أحلام التصنيع والإنتاج. وثالثاً، هناك تحول عالمي كبير في أنماط الإنتاج سيأخذ مجراه تدريجياً حتى نصل إلى الألفية الثالثة. في هذه الأثناء ستكون الحلول المطروحة على مصر هي التحول من مجتمع - يسعى ولم ينجح - قائم على رأسمالية الدولة، إلى مجتمع ليس رأسمالياً إطلاقاً بمعنى تطوير أدوات الإنتاج والتصنيع، ولكنه منظَّم حول السوق. هذا التنظيم الجديد حول السوق سيأخذ شكلين: الأول "الانفتاح" في نهايات السبعينيات الفائتة، ثم اتخاذ سياسات نيو ليبرالية أكثر تنظيماً وعالمية الطابع بحلول عامي 2003 و2004 مع حكومة أحمد نظيف ورجال الأعمال.

العلاقة بين البنية العسكرية والبنية الانتاجية

أخفقت النخبة العسكرية التي حكمت مصر منذ 1952 في تطوير قوى الإنتاج، وخلق مستويات من الكفاءة في المجالين التنظيمي والاستراتيجي - سواء في النطاق العسكري أو في النطاق الإنتاجي. وقليلاً ما يتم الربط بين الأمرين. فكفاءة الجيوش الحديثة مرتبطةٌ شرطاً بكفاءة التنظيم والإنتاج والأدوات المتاحة في لحظة تاريخية ما. ولا ينطبق الأمر على ما يعرف بالحرب غير المتوازية أو حروب العصابات. والدرس القاسي الذي نعاني منه إلى اليوم، هو أن إضعاف القدرات التنظيمية للمجتمع، والاعتماد على كيانات بيروقراطية الطابع فقط كأداة وحيدة للتنظيم والتطوير، يعني ضعف القدرات التنظيمية ككل للمجتمع والدولة. وفي ظل غياب قدرات إنتاجية وتنظيمية، تلعب الأجهزة الأمنية دوراً شديد الخطورة والتدمير، وهو الحفاظ على تعزيز ضعف المجتمع في تنظيم نفسه، والقضاء على فكرة التنظيم ذاتها بشكل مجرد. ولذلك، على الرغم من شكوى الأنظمة المختلفة في مصر من غياب العمل الجماعي، واتهام المجتمع ثقافياً أنه يفتقر إلى هذه الروح، فهذا مجرد تمظهر اجتماعي للمشكلة وليس صلبها.

ما تبقى حقاً من "دولة يوليو" هو الجهاز الأمني، وتسلط ذو طبيعة شديدة الرجعية. جرت إعادة تنظيم كامل لقوى العمل، للتمحور حول السمسرة والمضاربة والاتصالات والنقل. وفقدت تدريجياً مراكز تنظيم السلطة القديمة، مثل المصنع والمدرسة والجامعة، أهميتها. كما كان هناك تحول عالمي كبير في أنماط الإنتاج سيأخذ مجراه تدريجياً حتى نصل إلى الألفية الثالثة.

 وما يتبقى من هذه المعادلة، وما سيتسمّر معنا إلى اليوم، هو تماسك الأشكال التنظيمية القديمة للمجتمع مثل القبيلة والعائلة، أو حتى العصابات صغيرة الحجم، والتي غالباً ما تختلط بأشكال عرفية وقبلية أيضاً. فهذه الأشكال من التنظيم الاجتماعي يصعب تدميرها أمنياً، ولكن يمكن المساومة معها وتعزيز صنوف من العلاقات الزبائنية بواسطة بعض القمع والمساومة والسماح بالنهب. ولكن هذه الأشكال التنظيمية لن تقوم - ولا تستطيع – بتطوير قوى العمل والانخراط في تنظيم العملية الإنتاجية والمالية. وما حدث هو انخراط هذه التنظيمات الاجتماعية في أشكال من الردع، أو التهديد للدولة بشكل مبطن أحياناً ومعلن أحياناً، بغاية أخذ ما يتساقط من ثمار عمليات نهب منظم للموارد أو تراكم بدائي للثروة. ولهذا ليس صدفة أن أغلب المناطق الجغرافية البعيدة عن المركز، باختلاف تنوعاتها الثقافية والاجتماعية، تتشاركُ النمط نفسه للاستحواذ على قدر من الثروة، مثل أعمال "الجفرة" (سيطرة الجماعات على جلب مواد المونة والبناء وأحياناً العمالة) و"الغفرة" (دفع أتاوات مقابل الأمن).

لكن سرعان ما فشلت سياسات "الانفتاح" والتحول نحو المعسكر الغربي، وواجهت مصر ثلاثة تحديات هيكلية كبيرة منذ منتصف الثمانينيات الفائتة: 1- تعظيم الثروة، 2- إعادة تنظيم قوى العمل، 3- فرض الحكم والسيطرة. ومع حلول نهاية ذلك العقد، أوشكت مصر على الإفلاس أو أفلست بالفعل. سبقت هذه المحطة الحرجة مرحلة تحول كبير على مستوى موقع مصر في كل من تقسيم العمل الدولي والصراع الإقليمي، ومكانها من الحرب الباردة. ولم تكن مصادفة أن تراجع مكانة مصر في الصراع الإقليمي مع إسرائيل أو مع السعودية أو حتى مع البعث كان مصحوباً بأمر شديد الأهمية على المستوى الداخلي: توقف طموحات التصنيع، وانهيار أحلام الريادة الإقليمية (سواء على المستوى المعنوي أو المادي).

الدرس القاسي الذي نعاني منه إلى اليوم، هو أن إضعاف القدرات التنظيمية للمجتمع، والاعتماد على كيانات بيروقراطية الطابع فقط كأداة وحيدة للتنظيم والتطوير، يعني ضعف القدرات التنظيمية ككل للمجتمع والدولة. وفي ظل غياب قدرات إنتاجية وتنظيمية، تلعب الأجهزة الأمنية دوراً شديد الخطورة والتدمير، وهو الحفاظ على تعزيز ضعف المجتمع في تنظيم نفسه، والقضاء على فكرة التنظيم ذاتها بشكل مجرد.

حُلّت مشكلة الإفلاس من خلال الانخراط مع الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية في حرب تحرير الكويت. وخرجت مصر من هذا المأزق، وتحسنت أيضاً علاقتها الإقليمية مع دول الجامعة العربية كانت تضررت بسبب معاهدة كامب دافيد. ثانياً، ستبدأ مصر حرباً ضروساً ضد الإرهاب في حقبة التسعينيات الفائتة وإلى جوار ذلك بدأت عمليات ما يعرف بـ"إعادة التكيف الهيكلي" بإشراف البنك وصندوق النقد الدوليين، وستقوم الدولة بخصخصة جانب كبير من القطاع العام وشركاته ومصانعه، وسط تبريرات "الخبراء" الاقتصاديين بأنها قاسية للغاية وإنما ضرورية. وسيبدأ قطاع السياحة والعقارات في التضخم بشكل مهول. وستأخذ العقارات، وملكية الأراضي - بمعنى المساحة وليس بمعنى الأرض الزراعية - دوراً محورياً في إنتاج الثروة. وستعبِّر العقارات عن نفسها في السوق الرسمي وغير الرسمي، لتكون الجسر بين اقتصادين، وأحد أهم وسائل تدوير وغسيل الأموال سواء المشروعة أو المجرمة طبقاً للقانون. مع العلم أن تضخم الاستثمار العقاري هو في جانب منه استجابةٌ طبيعية للسكن في مجتمع ضخم مثل مصر.

II - التحول النيوليبرالي

الصراع على فائض القيمة لا يُنتج فائضاً من العنف للحكم والسيطرة. فالعنف في هذه الحالة، مهما بلغ من قسوة، يظل محصوراً في مساحات محددة وتوقيتات محددة. العنف هنا يحاكي وتيرة وشكل تنظيم العمل نفسه. ولكن الصراع مع الفائض البشري والتعامل معه كعبء أو مصدر عام للتهديد يُنتج فائضاً مهولاً من العنف.

عشية "ثورة يناير 2011"، لم يكن وضع مصر على الورق سيئاً إطلاقاً. فقد نجحت في ما عُرف ب"الإصلاحات النيوليبرالية" في عدة أمور: 1- نمو وتوسع حجم السوق المصري 2- بالضرورة توسع حجم الاقتصاد نفسه 3- خلق ثروات جديدة بشكل ضخم، 4- تدفق السيولة في السوق المصري، وازدهار الحركة المالية بشكلها الرسمي وغير الرسمي 5– توسع القطاع المالي بشكل ضخم جداً، وهو الأمر الذي خلق من ناحية طبقةً وسطى جديدة بمعدلات دخول ضخمة، ومن ناحية أخرى سحق أجزاء من الطبقة الوسطى القديمة التي أنتجها التعليم والبيروقراطية والوظائف العلمية والميدانية خلال المشروع الناصري.

المدن المسيجة: جغرافيا استعمارية

بدأت هذه الطبقات الوسطى الجديدة، مع البرجوازية الكبيرة، في هجرة المدينة القديمة تدريجياً. ومع هذه الإزاحات الاجتماعية، وإعادة تنظيم قوة العمل داخل المدينة، سيعاد تشكيل المدينة نفسها، وبالتالي سيعاد تشكيل الجغرافيا. وهكذا ستظهر أنماط من الاستهلاك جديدة ومعولمة الطابع، كذلك سنشهد ما يعرف بالمجتمعات المسيّجة (الكومبوندز). وفي هذا التحول سيعاد تعريف وتحديد المساحات العامة والخاصة، وستبدأ إدارة المدينة تأخذ طابعاً قريباً من تنظيم المدينة في عهد الاستعمار من دون أن تكون هي نفسها. فالمساحات العامة ستبدأ في التقلص.

 وستنتشر ممارسات اجتماعية قائمة على ازدراء كل ما هو عام، وتسعى للتمايز عن بقية المجتمع. المشترك بين تنظيم المدينة النيوليبرالية والمدينة الكولونيالية هو فصل السكان الأصليين عن المحتل والنخبة التابعة له اجتماعياً ومعيشياً. والكومبوند هو تجسيد لهذا الطموح بشكل أكثر كفاءة وتحصيناً، فتنحصر العلاقة الاجتماعية لبقية قوة العمل الموجودة في المجتمع بهذه المساحات الخاصة في علاقات الخدمة. وكما ينظر إلى بقية السكان، وفق هذه المعادلة، كخطر دائم، بحيث يتم التعامل معهم وتنظيم حركتهم بشكل استثنائي لحفظ الأمن وضمان عدم انفلات الأوضاع. وسيعمّق ذلك دور البوليس في المدينة ككل.

إذاً كانت الأمور على ما يرام؟ لا، فقد كان انفجار يتمخض في قلب هذه التفاعلات. فالأرقام وحدها أمرٌ شديد التضليل. لقد نجحت تلك "الإصلاحات" في خلق الثروة وتعظيم السوق. لكنها فشلت في عدة أمور:1 - تنظيم قوى العمل بشكل جديد 2- قادت الطبيعة السائلة للسوق والمدينة إلى عجز بنيوي غير مسبوق في آليات الحكم، والرصد، وتتبع حركة الأموال وتنظيمها والقدرة على حصر الثروة. 3- انفلات كامل لإيقاع المدينة، بسبب عدم تمحور قوى العمل ليلاً ونهاراً حول مراكز محددة للإنتاج أو حتى للخدمات. فالأموال يتم جنيها من أعمال صغيرة هنا وهناك، أو من خلال خدمات السمسرة أو الوساطة أو النقل. كذلك ستتحول المساحة داخل الحيز المديني إلى مجال للصراع الدائم بسبب توحش السوق غير الرسمي وبيع السلع أو السيطرة على المساحة كمنفذ لتقديم خدمة أو فرض أتاوة. ولهذا توسعت أشكال النقل غير الرسمي، والتجارة غير الرسمية والصراع الدائم حول أدنى مساحة ممكنة لاستخراج الأموال.

التغير في قواعد اللعبة

ومع التحول النيوليبرالي، حدث أمران أربكا المشهد في مصر، وقادا إلى موجات كبيرة من الاحتجاج: أولاً، مراكز قوى العمل القديمة من خلال المصانع، دخلت في موجة احتجاجات واسعة منذ 2006، وبالأخص المراكز القديمة والتي كانت مرشحة للعب دور تاريخي في عملية التحول الصناعي، مثل صناعة الغزل والنسيج. ولدى هذه المراكز خبرة طويلة تخص دورها ومكانتها، كذلك لديها سجل جيد فيما يتعلق بتنظيم الاحتجاج ومحاولة تحسين الأجور وشروط العمل. تنطبق على هذا التحول النظريةُ الكلاسيكية في الماركسية: استخراج فائض القيمة من قوة العمل وتهميشها من الأرباح. وصراعٌ في هذه المساحة جرى حول فائض القيمة. وكانت قوى الأمن تتدخل بشكل معتاد إما للتفاوض مع العمال وقيادتهم أو لشق صفوفهم أو لمساومتهم أو لقمعهم المباشر. ومن المهم الالتفات إلى أن الألفية الجديدة ستشهد أيضاً عولمة "الداخلية" نفسها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وسيصبح حبيب العدلي ضيفاً مرموقاً في أغلب العواصم، وسيعاد تنظيم لقاءات وزراء الداخلية العرب ويصبح الاجتماع الأكثر انضباطاً والتزاماً في انعقاده.

هجرت الطبقات الوسطى الجديدة، مع البرجوازية الكبيرة، المدينة القديمة تدريجياً. ومع هذه الإزاحات الاجتماعية، وإعادة تنظيم قوة العمل، سيعاد تشكيل المدينة نفسها، وبالتالي تشكيل الجغرافيا. وهكذا ظهرت أنماط من الاستهلاك جديدة ومعولمة الطابع، كذلك شهدنا نشوء "المجتمعات المسيّجة" (الكومبوندز). وفي هذا التحول بدأت إدارة المدينة تأخذ طابعاً قريباً من تنظيم المدينة في عهد الاستعمار، من دون أن تكون هي نفسها.

ولكن هذه الفترة شهدت أمراً آخر، وهو حرمان قوى العمل من العمل المنظم والقابل للتطور، وأصبحت المشكلة تكمن لا في النزاع على فائض القيمة بل في "ماذا نفعل بالفائض البشري الذي تطور عبر عمليات تعليم واسعة ولكنها متهالكة"، وهذا الفائض البشري في أغلبه متشكلٌ من قوًى متطورة نسبياً، وبدرجة ما كانت قد بدأت بالانخراط في العولمة بشكلها المعاصر. وهنا يمكن الخروج بمجادلة كبيرة نسبياً وهي أن الصراع على فائض القيمة لا يُنتج فائضاً من العنف للحكم والسيطرة. فالعنف في هذه الحالة، مهما بلغ من قسوة، يظل محصوراً في مساحات محددة وتوقيتات محددة. العنف هنا يحاكي وتيرة وشكل تنظيم العمل نفسه. ولكن الصراع مع الفائض البشري والتعامل معه كعبء أو مصدر عام للتهديد يُنتج فائضاً مهولاً من العنف.

 هذا الفائض من العنف يختلط فوراً مع المواقع الاجتماعية، والأدوار السياسية والوظيفية الجديدة لجهاز الداخلية، فينتج أمران: طغيان واسع النطاق قائمٌ في أساسه على استسهال القمع والقهر، وهو بالضرورة سيكون مصحوباً بانتشار كبير للفساد. وهو ما قد دفع إلى مقتل خالد سعيد مثلاً في قلب إحدى أبرز مناطق الطبقة الوسطى، وأكثرها هدوءاً من الإسكندرية في 2010. الأمر الثاني، هو توحش المكون العنصري، وهو أقرب لحالة شبه فاشية، ولكنها سائلة داخل المؤسسة وبعض القطاعات الاجتماعية. فكل مواطن "أسمر" ستكون هناك رغبةٌ في إقصائه عن الفضاءات المتحضرة. هذه الممارسة في حد ذاتها ليست جديدة. فعبد الناصر كان ينشر رجال الداخلية في "محطة مصر" بالقاهرة والإسكندرية لمنع العمالة القادمة من الصعيد. وتاريخياً يمكن تتبع ممارسات شبيهة. الجديد أن هذا الأمر تحول إلى ممارسة ضد أغلب السكان، وعادت الخطابات العنصرية التي تطورت مع الاستعمار، ولكن هذه المرة من الداخل نفسه إلى الداخل.

العنصرية؟

وليست مصادفة أن المصريين سيتعرضون على أكثر من مستوى إلى ممارسات معولمة من العنصرية. فعدم تنظيم قوة العمل سيحوّل مصر إلى مجرد مصدّر لهذا الفائض البشري لدول الخليج وليبيا. وهو ما سيجعل أغلب العمالة المصرية تتعرض لممارسات عنصرية شديدة الإذلال. وعلى مستوى الحركة لدول أوروبا والولايات المتحدة ستتكفل إجراءات الفيزا المعقدة كمصفوفة منع لحركة العمالة، وحرمان قوة العمل في مصر - ودول كثيرة من العالم أيضاً - من التطور والاستفادة من أحد جوانب العولمة. فهذه العنصرية ستأخذ شكلين في الظاهر: عنصرية ثقافية وعنصرية اجتماعية. فقد تراجعت العنصرية القائمة بشكل فج على البيولوجيا والعرق (كما يشير الفيلسوف مايكل هارت). ولكن بعيداً عن الأشكال الظاهرية لهذه العنصرية، ففي المتن يكمن موضوع الموارد وفائض البشر. ونحن، طبقاً لهذه المنظومة، على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، فائضٌ بشري كبير، يجب منع وتحجيم حركته.

شهدت هذه الفترة أمراً آخر، وهو حرمان قوى العمل من العمل المنظم والقابل للتطور. وأصبحت المشكلة تكمن لا في النزاع على فائض القيمة بل في "ماذا نفعل بالفائض البشري الذي تطور عبر عمليات تعليم واسعة ولكنها متهالكة". وهذا الفائض البشري في أغلبه متشكلٌ من قوى متطورة نسبياً، وبدرجة ما كانت قد بدأت بالانخراط في العولمة بشكلها المعاصر.

أصبحت قطاعات كبيرة من المصريين - وامتد الأمر حتى شمل الطبقة الوسطى نفسها - مطالبةً بإثبات سبب لحركتها حتى داخل المدن والأحياء المصرية. هنا نحن أمام حرمان من الحركة، بطش أمني دائم وعنيف، حرمان من التطور داخل منظومة العمل، والحرمان من الولوج إلى المعلومات والسوق والاستفادة من الأدوات الجديدة لتعظيم الدخل. والأمر لن يتوقف هنا، فنجاح النيوليبرالية في تعظيم الثروة، وتضخيم السوق، وإدخال أشكال جديدة من الاستهلاك، خلق حالةً من الحنق الشديدة، لأننا هذه المرة لسنا في الثمانينيات حيث الوضع برمته سيء. هذه المرة، الثروة ستعبّر عن وجودها بشكل فج، وستخاطب الجموع كمستهلكين محتملين. وهو ما سيخلق حالةً كبيرة من الشعور بالحرمان النسبي.

على المستوى الإقليمي، سوء تنظيم قوة العمل، وعدم القدرة على تطوير أي قطاعات حقيقة داخل الاقتصاد المصري للتوسع إقليمياً، نتج عنه ببساطة شديدة انحسار لأهمية وفاعلية الدور الإقليمي لمصر. وتبقّى بعض النفوذ المادي لمؤسسة ضخمة مثل "المقاولين العرب"، التي احتفظت ببعض الأدوار في أفريقيا وبعض الدول العربية. ولكن جاءت الإمارات العربية المتحدة بحلول الألفية الثالثة بأشكال جديدة من التوسع العمراني والإنشاءات يصعب على "المقاولين العرب" منافستها. وتبقّى لمصر دور محدود من الترتيبات الأمنية المباشرة سواء مع إسرائيل وقطاع غزة، أو في مواجهة الإرهاب العالمي وملاحقة العناصر الإسلامية، لِما لها من خبرة طويلة في هذا المجال. وحتى "نادي السفاري" (هو تجمع لبعض الدول الأفريقية والعربية بدعم فني وتكتيكي من فرنسا تحت مظلة أمريكية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين) الذي حاول تنظيم بعض الدول العربية والأفريقية في دور وفاعلية أمنية ما، بالأخص في محيط القرن الأفريقي، قد ذبل هو الآخر، ولا نستطيع حتى التحديد بشكل دقيق متى انتهى هذا الكيان.

المعضلة

مرة أخرى، تنظيم قوة العمل شهد النمط نفسه في الداخل والخارج، فأصبحت مصر قوة عمل رخيصة وغير متطورة وقابلة للاستبدال بسهولة. ولذلك مثلاً تمت مزاحمة العمالة المصرية بسهولة بالعمالة الهندية في الخليج. وشهد دور وفاعلية الدولة المصرية النمط نفسه في الداخل والخارج، وهو مجرد دور أمني شديد المحدودية، وليس دوراً عسكرياً واسعاً، ولا نفوذاً أمنياً داخل الدول العربية والأفريقية، وليس لديها قدرة على فتح أسواق، أو التوغل الرأسمالي أو التجاري في محيط مصر الإقليمي.

بحلول الألفية الثالثة، جاءت الإمارات العربية المتحدة بأشكال جديدة من التوسع العمراني والإنشاءات يصعب على "المقاولين العرب" منافستها. وتبقّى لمصر دور محدود من الترتيبات الأمنية المباشرة سواء مع إسرائيل وقطاع غزة، أو في مواجهة الإرهاب العالمي وملاحقة العناصر الإسلامية، لِما لها من خبرة طويلة في هذا المجال.

ولكن لأن هناك أسواقاً واسعة قد تم خلقها، لا في مصر فقط، ولكن في أغلب المنطقة، فبعض الشرائح من الطبقة الوسطى العليا قد استفادت بشكل كبير من خلق ثروات كبيرة، ونمط حياة جديد بفضل القطاعات المالية المختلفة، مثل بعض المحترفين في مجال البنوك، أو السمسرة والاستثمار العقاري، أو بعض النماذج المتطورة مما يعرف باقتصاديات الخدمات أو البورصة، ومؤخراً ربط الخدمات مثل النقل بأشكال جديدة من التكنولوجيا وربطهم جميعهاً بالأسواق المالية. وهذه الشريحة ستكون أوفر حظاً في مواجهة العنصرية والإذلال في الخليج على سبيل المثال، وفي الداخل ستضطر للاندماج الثقافي مع البرجوازيات الكبيرة لتجاوز أي إذلال أو إهانة من قبل المجتمع أو الداخلية.

وعلى الرغم من نجاح النيوليبرالية في خلق ثروات ضخمة، فهي ظلت عاجزةً عن تعظيم الثروة بشكل واسع، كما أنها فشلت عن عمد لا عن خطأ في تطوير قوى الإنتاج. وفي خطابها في نهايات السبعينيات الفائتة، كانت تحفظ "التهليب" (أشكال من النصب "بالشطارة")، تقليب الرزق والخفة، وهي قيم لا تقود إلى أي شيء غير تخلف القوى الاجتماعية. أما في المرحلة التالية، فكان الوعد منصبّاً على تطوير الذات من خلال البرامج والتدريب والتنمية البشرية، ومن خلال ذلك، ستكون لكَ/ لكِ فرصةٌ سانحة في السوق، ومن ثم ستنعم/ ستنعمين بجنة الاستهلاك. ولكن ما حدث هو أن شرائحَ ضيقة كان لها هذا الحظ. هذه الشريحة الضيقة في مجتمع مثل المجتمع المصري، كفيلةٌ أن تقوم بإملاء مدن جديدة كاملة مثل التجمع الخامس وغيره. فمرة أخرى، إذا أصبح هناك أكثر من مليون فرد داخل شريحة الطبقة الوسطى قادر على مواكبة هذه الأنماط من الاستهلاك، أياً كان وضعه/ وضعها في سوق العمل، فستنفجر أشكال الاستهلاك ومساحتها وما ينتج عن ذلك من إعادة تخطيط المدن.

في "ضرورة" مبارك

ومثلما كان الحال مع تشظي السوق غير الرسمي، لعب مبارك على الوتر نفسه فيما يتعلق بدوره في الترتيبات الأمنية والدولية. فمثلاً فيما يتعلق بترتيبات الضبط في البحر المتوسط لجهة الهجرة غير الشرعية، لم يكن مبارك جاداً في مواجهة هذا الأمر لسببين: الأول أنه سيتطلب إعادة هيكلة وتطوير لقطاعات أمنية مثل الشرطة والمخابرات العامة والعسكرية، كذلك تطوير قطاعات من النيابة العامة والقضاء. وهو أمرٌ مكلف، ولم تكن هناك دوافعُ سياسية أو إقليمية للقيام به. الأمر الثاني هو أنه كان غير راغب في التضييق على نفسه والمجتمع. فبعض موجات الهجرة عبر البحر قد نجحت في خلق عمران جديد داخل الدلتا على سبيل المثال. كذلك كان من المهم إرسال بعض التنبيه للغرب حول ضرورة وأهمية بقاء نظامه، بالأخص على المستوى الأمني. ينطبق الأمر نفسه على ما حدث بين 2004 و2008، أو كحد أقصى حتى 2010 فيما يتعلق بتجارة البشر من خلال سيناء. وكان النمط نفسه يتحرك في أفق الداخل والخارج: غير الرسمي/غير المشروع كبديل لتطوير وتنظيم قوى العمل وخلق فرص لها.

على الرغم من نجاح النيوليبرالية في خلق ثروات ضخمة، فهي ظلت عاجزةً عن تعظيم الثروة بشكل واسع، كما أنها فشلت، عن عمد لا عن خطأ، في تطوير قوى الإنتاج.

كانت هناك مشكلةٌ أخرى تواجه نظام مبارك في هذا التحول الكبير: ذبول وترهل مراكز التنظيم القديمة (المصنع، المدرسة، الجامعة) وضعف جهاز الدولة في الحصر والرصد والسيطرة بشكل دقيق وقادر على توظيف المعلومات والبيانات المختلفة. أي أن جهاز الدولة كجهاز منظم وإداري كان في أقصى درجات عدم الفاعلية. 

كذلك استغلت البيروقراطية والبيروقراطية-الأمنية مواقعها للانقضاض على مسارات الثروة الجديدة عبر الفساد والنهب المنظم والطغيان في أحيان كثيرة أيضاً. فمثلاً لقيت حملة الضرائب التي كان خلفها لجنة السياسات بقيادة جمال مبارك ابتهاجاً شديداً في العديد من الأوساط، حتى من بعض المعارضة نفسها التي تتبني التوجه النيوليبرالي أيضاً. ولكن حقيقة الأمر أن هذه الحملة كانت محض شكلية حتى لو حققت بعض النجاحات المادية. فالضرائب في هكذا اقتصاد تحتاج إلى تواصل وتشابك عدة منظومات من الداخل بشكل رفيع تقنياً ومعلوماتياً ومؤسسياً. فالأمر يحتاج لقدرة عالية للولوج إلى حركة ودوران المال. وهو أمر شديد الصعوبة في ظل اقتصاد غير نظامي بلغت بعض التقديرات للقول بأنه يمثل 40 في المئة من الاقتصاد المصري. ثانياً، منظومة غير مسجلة من العقارات والأراضي يتم التداول فيها يومياً بأرقام مهولة من الأموال السائلة، كذلك وجود اقتصاد واسع من المخدرات والبلطجة يمثل اقتصاداً سياسياً قائماً بنفسه لعدة أقاليم داخل مصر، ويخدم في السوق الداخلي ويخدم أيضاً في قطاع السياحة.

III - السيسي وقمع يناير

يحدث تاريخياً في أغلب الثورات الكبيرة، أنها تقود إلى إعادة بناء مشاريع الدولة والحكم على جثة الثورة نفسها، سواء من خلال الثوار أو من خلال أعداء الثورة أو بواسطة قوًى تقع بينهما. فما الذي نجحت فيه الثورة المضادة بقيادة الجيش والسيسي في مصر؟

كانت الوصفة الدولية عبر صندوق النقد والبنك الدوليين واضحةً: تتحرر الدولة من أعبائها الاجتماعية لضبط عجز الموازنة، وتوفير حصيلة مالية لتفعيل وتحسين دورها كجهاز تنظمي وإداري أكثر فعالية وكفاءة. وبسبب الأرقام، وبسبب انخراط الاقتصاد المصري بالعالمي على عدة مستويات بعيداً عن الإنتاج، لم تأتِ حكومة واحدة لا قبل الثورة في 2011، ولا بعدها حاولت تغيير هذه السياسات. بل تعهّد الجميع بالمضي قدماً .(1)

رأت هذه المؤسسات الدولية أن الأمر يكمن في الفساد السياسي والمالي والإداري، لا في المنظومة النيوليبرالية نفسها. هذا الأمر نفسه ينطبق على قطاع لا بأس به من نشطاء الطبقة الوسطى العليا الذين انخرطوا في الثورة المصرية وبقوة. فالأمر بسيط: تحرير النظام الاجتماعي - والاقتصادي من قيود وأعباء النظام السياسي، وفرض سيادة القانون. ثم أضاف بعضهم تطوير وتغيير ثقافة العمل والمؤسسات الاقتصادية لتحسين أدائها. على الرغم من محدودية هذا الأفق السياسي في الحالة المصرية، إلا أن به قدراً من "الوجاهة". فهذه المجموعات من الطبقة الوسطى العليا، سواء داخل مصر أو خارجها - وبعضهم قد عاد إلى مصر بعد الثورة أو جاء في قلب الحدث نفسه ليشارك في تاريخ بلده - كانوا يرون أنهم محرمون من الاستثمار والتطوير والتفاعل الجاد مع السوق أو الإمكانيات المتاحة بسبب القهر السياسي، الفساد، والمحسوبية. وبعيداً عن المشاعر الوطنية والأخلاقية لهؤلاء الأشخاص، والتي على المستوى الإنساني يمكن أن تكون جديرةً، إلا أن الأهم هو ما ينتج عن هذا الأفق من صراع سياسي واجتماعي.

على كلِ حال، خلقت هذه التناقضات الشروط البنيوية للانقضاض السياسي على نظام مبارك. وفي الناحية المقابلة، كان الجيش يحاول الحفاظ على عدة أمور في أثناء التحولات النيوليبرالية العاصفة: السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، واستخدام قطاع من مجنديه الإجباريين لتعظيم قطاعاته الاقتصادية والخدمية، والاستقلال عن بقية الجهاز الإداري للدولة.

إذا أصبح هناك أكثر من مليون فرد داخل شريحة الطبقة الوسطى قادر على مواكبة هذه الأنماط من الاستهلاك، أياً كان وضعه/ وضعها في سوق العمل، فستنفجر أشكال الاستهلاك ومساحتها وما ينتج عن ذلك من إعادة تخطيط المدن.

وفي تلك السنوات، يمكن القول إن جميع القطاعات المختلفة في مصر، داخل الدولة وخارجها، قد عانت بشكل جاد من "النمو المركب غير المتكافئ" (الذي قام تروتسكي بنحته كمفهوم). فداخل الجيش، أصبحت بعض القطاعات تحظى بتطور مالي، وقطاعات أخرى تعاني، وكان هناك قطاعاتٌ متطورة ومحدثة على مستوى التسليح والتدريب، وقطاعات أخرى لا يعرف مجندوها كيفية إطلاق النار. في وزارة الزراعة مثلاً، انهارت مراكز البحوث، وازدهرت القطاعات التي تعمل مع المنح الأوروبية والمعونة الأمريكية، وأصبح التفاوت في الدخول مذهلاً. في التعليم والجامعة، نالت القطاعات المالية التي تم تعليم وتدريب كوادرها داخل الجامعة الأمريكية حظاً وافراً من جودة التعليم وفرص كبيرة في سوق العمل، سواء في مصر أو الخليج. وأصبح لدينا ثلاثة مستويات من تقسيم التعليم قبل الجامعي: أنترناشونال، وناشونال، وخاص. أما التعليم الحكومي والتجريبي فهو ليس في أسفل السلم، بل خارج السلم نفسه أصلاً!

تحديث الدولة؟

فلنفترض على سبيل التخيّل أن قمع الثورة المصرية ضرورةٌ تاريخية لإعادة تقوية وبناء الدولة. وعادة هذا ما يحدث تاريخياً في أغلب الثورات الكبيرة. فهي تقود إلى إعادة بناء مشاريع الدولة والحكم على جثة الثورة نفسها، سواء من خلال الثوار أو من خلال أعداء الثورة أو بواسطة قوًى تقع بينهما. لا يهم. فما الذي نجحت فيه الثورة المضادة بقيادة الجيش والسيسي في مصر؟

رأت المؤسسات الدولية أن العطب يكمن في الفساد السياسي والمالي والإداري، لا في المنظومة النيوليبرالية نفسها. هكذلك رأى قطاع واسع من نشطاء الطبقة الوسطى العليا الذين انخرطوا في الثورة المصرية وبقوة. فالأمر بسيط: تحرير النظام الاجتماعي - والاقتصادي من قيود وأعباء النظام السياسي، وفرض سيادة القانون. ثم أضاف بعضهم تطوير وتغيير ثقافة العمل والمؤسسات الاقتصادية لتحسين أدائها.

بعيداً عن صعود النزعات الفاشية والعنف، فقد دفعت الثورة المضادة بشكل حقيقي إلى تحديث جاد داخل أجهزة الحكم المختلفة كاستجابة لتحديات الحكم القديمة وكتسلح ضد الثورة. وهذا ما نراه في أغلب القطاعات، ولا نعرف إن كانت هذه المحاولة "ستنجح" أم لا، ولكنها جادةٌ وعنيفة. ثم محاولة أشد أهميةً لاستغلال الوضع الإقليمي لمحاولة توسيع دور مصر. هذا الأمر مدفوع بضرورات شديدة الإلحاح مثل المسألة الليبية، أو هو كفرصة لاستغلال بعض الفجوات البنيوية التي نتجت عن التراجع النسبي لدور أمريكا، وانفجار الإقليم ككل بعد 2011. ويمكن رصد عدة محاولات وأدوار: الدخول بجدية في ترتيبات البحر المتوسط لجهة ضبط الهجرة والغاز، ومحاولة إيجاد موطئ قدم فيه سواء على مستوى الطاقة أو الأسواق. محاولة فتح أفق جديد مع العراق والأردن من خلال "مشروع الشام الجديد"، وإدماج نسبي لسوريا عبر لبنان. ثم لبنان نفسه ومحاولة مصر في السنوات الأخيرة استغلال الارتباك السعودي والإماراتي هناك. أما الملف السوداني وملف الماء مع إثيوبيا ففي إدارتهما حتى الآن إخفاق كبير.

الاسئلة الصعبة

لا يمكن تقيم دور مصر الإقليمي في سطور. ما يهم هنا، هو محاولة الخروج المصري من دور أمني محدود، تراجعي وتقهقري، إلى دور أمني متقدم.

وفي الداخل، هناك مشروع طموح للسيطرة على السوق غير الرسمي وتنظيمه. إنفاق مهول على المشاريع الكبيرة والبنى التحتية. إزاحة السكان وإعادة تشكيل الجغرافيا، وهو أمر قد حدث ويحدث حتى الآن، ويبدو أن السيسي ينجح فيه. وقد نجح السيسي في القضاء على السوق السوداء للعملات الأجنبية في مصر. وتم تعظيم دور البنك المركزي. والأهم هو ربط المنظومات الداخلية للحكم ببعضها البعض. وهذا قطعاً سيخلق حصيلة معلوماتية ضخمة لدى جهاز الدولة، مع القدرات الأمنية الجديدة ومحاولات حصر العقارات والأراضي، فمن المتوقع أن تتصاعد قوة جهاز الدولة كجهاز إداري وتنظمي بشكل كبير في عشر السنوات القادمة.

بعيداً عن صعود النزعات الفاشية والعنف، فقد دفعت الثورة المضادة بشكل حقيقي إلى تحديث جاد داخل أجهزة الحكم المختلفة كاستجابة لتحديات الحكم القديمة وكتسلح ضد الثورة. وهذا ما نراه في أغلب القطاعات، ولا نعرف إن كانت هذه المحاولة "ستنجح" أم لا، ولكنها جادةٌ وعنيفة.

طرحت يناير أسئلةً كبيرة حول شكل الحكم، ضرورة التعايش المشترك بين مكونات المجتمع المصري، شكل إدارة الصراع السياسي في مصر. ولكنها لم تطرح أي أسئلة أو اشتباكات جادة مع سؤال تنظيم قوى العمل، تطوير أدوات الإنتاج، وتعظيم الثروة وأشكال الولوج لها وإعادة توزيعها. كما أنها لم تكلف نفسها عناء الاشتباك الجاد مع ترتيبات الحكم اليومي، والدخول في تشكيلات الترتيبات الاجتماعية/ الأمنية، كذلك لم تحاول المشاركة في حركة الأموال. بالقطع ليس حراك يناير كياناً واحداً أو متجانساً، ولكن المفارقة أن أحداً من هذه التشكيلات المتنوعة لم يُثِرْ أياً من هذه الأمور، وانحصر الأمر فقط في بناء مجال سياسي ديمقراطي ومجال عام احتجاجي المزاج والهوى.

السيسي قامع الثورة، استجاب بشدة لسؤال الدولة: تقوية آليات الحكم والسيطرة، التخلص من الأعباء الاجتماعية للدولة، وإعادة تعريف وتنظيم دورها الاجتماعي بشكل جذري. ولكنه لم يستجب إلى أسئلة تنظيم قوة العمل، وحول ماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وكيفية هذا؟ كما أنه لم يقدم أي استجابة لسؤال التعايش المشترك، وإدارة الصراع السياسي والاجتماعي بعيداً عن النزعات الفاشية أو القمع البوليسي والأمني المباشر.

لم تطرح "يناير" أي أسئلة أو اشتباكات جادة مع سؤال تنظيم قوى العمل، تطوير أدوات الإنتاج، وتعظيم الثروة وأشكال الولوج لها وإعادة توزيعها.

ببساطة لقد انتصرت الدولة في حربها على الإرهاب، وانتصرت في هذه الحلقة على الثورة أيضاً، وقريباً ستتوقف المشاريع الكبرى، وستنتهي النقلة العمرانية والجغرافية الضخمة المتمثلة في نقل الحكم إلى العاصمة الجديدة. وستعود أسئلة السياسة بمعنى الصراع على الموارد والتمثيل مرةً أخرى، وسيعود السؤال الصعب حول تنظيم قوى العمل. وبناءً على هذين السؤالين، سيعاد طرح شكل التوسع الإقليمي وحدوده وإمكانياته وأفقه. والسؤال الآخر والأهم: هل سيتم تشكيل نمط حكم يومي مقبول، ويحترم مسألة الكرامة بشكلها المادي والمعنوي؟. فما حدث منذ منتصف التسعينيات حتى الثورة المصرية في 2011، من وجود دولة منفلتة تقوم بضرب المواطنين يومياً والتنكيل بهم. هذا النموذج يصعب إعادة إنتاجه مهما بالغ السيسي في القمع والقهر السياسي.  

______________

 1  - كما يشير عمرو عدلي في كتابه "العمدة الجديدة"
Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه