في بغداد.. يجب أن تؤدي جميع الطرق إلى روما

أين المشكلة؟ إننا في العراق نعيش وفق قانون للعقوبات لا يقرُّ تعريفات الجرائم ضد الإنسانية. نعم، بهذه البساطة. كعراقيين، لا نعرف حلاً لهذا الخراب الكبير سوى الانضمام إلى العالم. من هذا المطلب الواحد انطلقت أمهات عراقيات ثكالى بأبنائهنَّ، طالبنَ بمعاقبة المجرمين وإنهاء إفلاتهم الدائم من العقاب، بالانضمام العاجل والفوري للمحكمة الجنائية الدولية العليا (نظام روما).
2022-03-03

أحمد الحسيني

كاتب صحافي من العراق وأحد مؤسسي "منظمة إنهاء الإفلات من العقاب" فيه


شارك
من ضحايا مجزرة ملجأ العامرية في بغداد

"إن هول الجريمة، بحد ذاته، يجعل القتلة الذين يدّعون براءتهم، أقرب للتصديق من الضحايا الذين يقولون الحقيقة". الفيلسوفة الألمانية حنّا أرندت.

نويتُ قبل زمن كتابة مادتي هذه. لكني، كنت كلّما هممتُ بفتح دفّتي حاسوبي الشخصي، أجد ثقلاً يتخلل يدي ورأسي وعينيَّ، ومن ثم أغلق صفحة "Word" التي تظل بيضاءَ فارغة، لأشغل نفسي بعدها بأتفه الأشياء وأبسطها غير التفكير بما سأكتب فيها.

الحديث عن المجازر العراقية بحاجة لروحية طبيب. ذلك الكائن الذي يرتدي قفازاته وعباءته الزرقاء وقبعة الشعر القطنية، ليتأمل قلباً مفتوحاً دون اشمئزاز، أو دوار، أو إحساس الأسى الذي يرافق غير الأطباء. مراجعةُ التاريخ مضنيةٌ حقاً، والتقاط الوقائع من سطور الكتب والتقارير أشبه بالتقاط الأحشاء. مراجعة تحتاج أكثر من صفحة بيضاء متروكة كي تمتلئ فيما بعد بالحقيقة. أي حقيقة بالضبط؟

معضلة التعريف كانت العائق الأول في الكتابة عن المجازر. كيف توصف؟ ماهي أركانها؟ أي نمط يجب عليّ حفظه والكتابة عنه؟ من أين أبدأ؟ لعنة اللغة ترافق الفجيعة، والواجب هنا فصل اللغة عن الدم ليستقيم المعنى، فكيف يمكن لأحدنا قراءة الأشلاء والجثث وأحلام القتلى وقصصهم بمعزل عن الشعور بما حدث في العراق الجديد؟

مقالات ذات صلة

المجزرة فعلٌ عمدْ، ينطلق من إصرار فرد واحد، أو مجموعة أفراد على قتل عدد من البشر - عاجزين أو مستسلمين- بطريقة عشوائية. يتضمن فعل المجزرة استخداماً مبالغاً به للقوة القاتلة وبطرق متنوعة (كهجمات إرهابية ضد تجمعات مدنية، أو قصف جوي أو مدفعي متعمد للمدنيين)، لا توجد له أي ضرورة عسكرية. أو تجيء - المجزرة - كرد فعل على تهديدٍ شكّله الضحايا. تعريف حالة القتل الجماعي هذه، والتي يتفرد بها البشر ككائنات حية دون غيرهم، لا تنتهي عند هذا الحد، فللمجزرة وسائط متعددة تتم من خلالها، تكون مرةً على يد قوًى نظامية عسكرية (كالجيش العراقي الذي صنع مجزرة حلبجة في الثمانينيات الفائتة وكمجزرة ملجأ العامرية على يد القوات الأمريكية في التسعينيات)، أو شبه عسكرية (كالمجازر التي تمت على يد المجاميع المسلحة السنيّة والشيعية والكردية بعد 2003). أما الضحايا، فهم دائماً من المدنيين بنسائهم وشيوخهم ورجالهم العُزّل والأطفال، أو من مقاتلين استسلموا وأصبحوا تحت سيطرة القوة الغازية ولا يشكلون أي خطر عليها، لكنهم يُجزرون.

آلات قتل حاضرة

كإنسان عراقي وفّقه الله - أو الكون أو أي محرك للحياة - تواً، لامتلاك مزاج ووقت للتأمل في حياته، وسأل نفسه الأسئلة الثلاث القديمة: من أين جئتُ؟ ماذا أفعل هنا؟ إلى أين سأمضي؟ لو فعل ذلك فسيجد نفسه في منتصف غرفة مطلية بالصدمة! صدمة التغييب اليومي، بل قل التغييب اللحظي الذي يُركَّبُ في كل ثانية من الثواني الممتدة منذ الولادة وإلى الممات. عمليتا صدمة وإخفاء يرافقهما الرعب واليأس والكآبة. آليات واضحة للجميع، لكنك لا تقوى على منعها، وكل ما تستطيعه اتجاهها، معرفتها أو تتبعها فقط.

الحديث عن المجازر العراقية بحاجة لروحية طبيب. ذلك الكائن الذي يرتدي قفازاته وعباءته الزرقاء وقبعة الشعر القطنية، ليتأمل قلباً مفتوحاً دون اشمئزاز أو دوار، أو إحساس الأسى الذي يرافق غير الأطباء. مراجعةُ التاريخ مضنيةٌ حقاً، والتقاط الوقائع من سطور الكتب والتقارير أشبه بالتقاط الأحشاء. مراجعة تحتاج أكثر من صفحة بيضاء متروكة كي تمتلئ فيما بعد بالحقيقة. أي حقيقة بالضبط؟

في كتابه "حيونة الإنسان" دوّنَ الكاتب والشاعر السوري ممدوح عدوان نوعاً من الاستحكام على الجماهير في حقبة الأنظمة الحديثة حيث قال "إن عالم القمع المنظّم، منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالمٌ لا يصلح للإنسان ولا لنموّ إنسانيته، بل هو عالم يعمل على "حيونة" الإنسان، أي تحويله إلى حيوان". شرَّح عدوان، وبمبضع جرّاح محترف، آلية التحول هذه بصورة عامة بالنسبة للشعوب، وكيفيات إنتاج الجماهير غير العارفة من طبيعتها الإنسانية أي شيء، سوى أنها أشياء بيد صانعيها، لا تجيد من الحياة سوى تلقي العذاب، وطاعة الأنظمة.

منذ قيام الدولة العراقية سنة 1921، اشتغل الواقع العراقي بكل طاقته وقدرته على تحويل سكان هذه الأرض لـ "أشياء" بعيدة عن معنى الإنسان. مجازر في العشرينيات والأربعينيات والستينيات من القرن العشرين، وصولاً للحظة احتجاجات تشرين/ اكتوبر 2019. أتحدث هنا بصفتي شاهداً على مجازرَ، أعيش في بيئة تتوفر فيها عناصر المجازر في كل وقت. دائماً أجد في بلدي منفّذين للمجازر مقتنعين بصواب فعلهم، مسلحين متسحلين بفكرة أنهم يمتازون عن غيرهم بأن لهم الأفضلية على الآخرين. ملكيين، قوميين، وبعثيين وما تبعهم إلى يومنا هذا من مجازر قام بها الاحتلال الأمريكي والميليشيات الشيعية والسنية. هؤلاء جميعهم، تجمعهم رابطةُ أن لهم إرادة التحول لآلات قتل فائقة، مرفوقة ببيانات الانتصار والمجد وحمد الإله والثناء عليه، يحدث ذلك في وسط سياسي غير مكترث بأي قطرة دم تسقط في هذه الإبادات. هكذا عشتُ في العراق، ذرةً في غبار بشري لا داعٍ له مطلقاً.

موضة المذابح العراقية المتجددة

لا تنفك حقبةٌ زمنية في العراق من صناعة نموذج للمذابح وتسليمها لحقبة أخرى كشعلة أولمبية. لم أشأ في هذه المادة إدراج سيرة المذابح والتذكير بما حدث قبل سقوط نظام البعث، لأن الكتابة عنها قد قام بها كثيرون، أنا سأضع رقماً تقديرياً للقيامات العراقية في تسع عشرة سنة ماضية: 32 مجزرةً حصلت في العراق على طول هذه الفترة، تتوزع بين مجازرَ صُنعت على يد قوات الاحتلال الأمريكي، وأخرى تفننت بتصميمها مجاميع الطائفة السنية المسلحة، وثالثة الميليشيات الشيعية وأسلحتها.

المجزرة "سائحة" تزور العراق شماله وجنوبه في كل حقبة سياسية، لا تترك بقعة أسفلتٍ إلّا وتلتقط معها "سيلفي" أحمر. سائحةٌ تخلق الأحداث دائماً عكس ما هو شائع عن السائح الذي يكتفي بالتعليق على الأحداث. تأتي حاملةً معها "صوغة" المسافر (تقليد عراقي يجعل الضيف يحمل هدايا لمن يزورهم)، محمّلةً بالأكفان والبخور والسدر والمسك وسرادق العزاء ومكبرات أصوات النعي. وثلاثة أيام وبعدها سبعة أيام يليها أربعون يوماً إلى دورة السنة الأولى. هدايا المجزرة للعراقيين لا تنفذ أبداً، وكذلك لا سبيل لرفضها، إنها تدخل للعراق رغماً عن أنف أبنائه بدون جواز مرور وختم دخول.

هل القانون موجود؟

قرأت عن العراق الحديث كثيراً. شكل الجرائم ضد الإنسانية كالإبادة الجماعية والتهجير القسري وإسقاط الجنسية عن جماعات بشرية كاملة تثير الحرقة والألم في النفس ليس بسبب حدوثها فقط – على الرغم من أن حدوثها مُهلكٌ لعين الرائي وأذن المستمع - بل لأن جميع مرتكبي هذه الجرائم أفلتوا من العقاب!

هي حالة القتل الجماعي العمد والتي يتفرد بها البشر ككائنات حية دون غيرهم. وللمجزرة وسائط متعددة تتم من خلالها، تكون مرةً على يد قوًى نظامية عسكرية (كالجيش العراقي الذي صنع مجزرة حلبجة في الثمانينيات الفائتة وكمجزرة ملجأ العامرية على يد القوات الأمريكية في التسعينيات)، أو شبه عسكرية (كالمجازر التي تمت على يد المجاميع المسلحة السنيّة والشيعية والكردية بعد 2003).

أين المشكلة؟ إننا في العراق نعيش وفق قانون للعقوبات لا يقرُّ تعريفات الجرائم ضد الإنسانية. نعم، بهذه البساطة. القانون الذي حاكم صدام حسين رأى فيه مجرد مجرم ارتكب 180 ألف جريمة قتل، وليس رئيساً لنظام سياسي استهدف قومية كاملة منطلقاً من خلفية عنصرية، مستخدماً أجهزة إنفاذ القانون لارتكاب مجازرَ كبرى. هذه هي الفجيعة غير الساكتة منذ خط المحتل الأمريكي جملة "العراق الجديد".

وبعد محاكمة صدام، حدث الأمر ذاته مع التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش، فنحن نحاكمهم كقتلة عاديين أو "إرهابيين" مع قصور في تعريف الإرهاب نفسه، إذ لا يوجد تعريف متفق عليه دولياً لمصطلح الإرهاب.

في العراق، البلد الذي سقط ثلثُه بيد مجموعة إرهابية، وتحرر فيما بعد، ينظر القانون لهم - كأفراد وقيادات لداعش - كمجرد مجرمين ارتكبوا جرائم قتل واختطاف دون الإشارة إلى أنهم يستهدفون جماعات عرقية ودينية ومذهبية بكاملها. كما أن ما تقوم به الميليشيات من جرائمَ منظمة تجاه المحتجين والناشطين الحقوقيين، وقبله من جرائمَ ضد قرًى ومدن بعينها على خلفيات طائفية، يتم التعامل معها قانونياً على أنها جرائم عادية.

كان تاريخ 25/10/2021 يوماً خانقاً كالكثير من أيام العراقيين. امتلأت الصحف والمواقع العراقية بخبر محاكمة المفوض في الشرطة القضائية، والمنتمي لفرقة الموت "حمزة كاظم خضير" الذي أدين لاغتياله الصحافيين أحمد عبد الصمد وصفاء غالي. هذا اليوم يُضاف لأيام انعدام العدالة العراقية المستمرة. تعامل القانون مع حادثة الاغتيال كجرائم قتل "طبيعية" تحدث على خلفية شجار أو نزاع بين أي شخصين، وليس باعتبار القتلة أفراداً في منظومات إجرامية تستهدف فئة كاملة من المجتمع. هكذا يتعامل القانون مع العراقيين، فأي طريق يجب أن نسلك لإنهاء هذا الفصل الدموي؟

جميع الطرق تؤدي إلى روما

كعراقيين، لا نعرف حلاً لهذا الخراب الكبير سوى الانضمام إلى العالم. من هذا المطلب الواحد انطلقت أمهات عراقيات ثكالى بأبنائهنَّ، طالبنَ بمعاقبة المجرمين وإنهاء إفلاتهم الدائم من العقاب، بالانضمام العاجل والفوري للمحكمة الجنائية الدولية العليا (نظام روما) حيث إن نظام روما الأساسي الذي سن القوانين التي تجرم الجرائم ضد الإنسانية، وأسس محكمة دولية لهذا الغرض هو الملاذ الذي ربما أمكنه إغلاق صنبور الدم المفتوح.

أتحدث هنا بصفتي شاهداً على مجازرَ، أعيش في بيئة تتوفر فيها عناصر المجازر في كل وقت. دائماً أجد في بلدي منفّذين للمجازر مقتنعين بصواب فعلهم، متسحلين بفكرة أنهم يمتازون عن غيرهم بأن لهم الأفضلية على الآخرين. ملكيين، قوميين، وبعثيين وما تبعهم إلى يومنا هذا من مجازر قام بها الاحتلال الأمريكي والميليشيات الشيعية والسنية.

المجزرة "سائحة" تزور العراق شماله وجنوبه في كل حقبة سياسية، لا تترك بقعة أسفلتٍ إلّا وتلتقط معها "سيلفي" أحمر. سائحةٌ تخلق الأحداث دائماً عكس ما هو شائع عن السائح الذي يكتفي بالتعليق على الأحداث. تأتي حاملةً معها "صوغة" المسافر (تقليد عراقي يجعل الضيف يحمل هدايا لمن يزورهم)، محمّلةً بالأكفان والبخور والسدر والمسك وسرادق العزاء ومكبرات أصوات النعي. 

عند مراجعتي للتاريخ العراقي الحديث، وجدت أن أقطاب العملية السياسية برروا عدم انضمام العراق لنظام روما الأساسي منذ أن دعته المحكمة إلى الانضمام، بمسوّغ غريب وهو "الولايات المتحدة ترفض انضمامنا"، وهذا إقرارٌ واضح بعمالتهم وتبعيتهم جميعاً للولايات المتحدة، حتى من يدّعون أنهم مناهضون لها ولتدخلاتها بسياسة العراق، والواقع أنها تتدخل من خلالهم هم وهذه القضية مثال كبير على ذلك.

أعرف أن انضمام العراق للمحكمة الدولية الآن لن يوفر الغطاء القانوني لمحاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم السابقة، كون قانون المحكمة الجنائية الدولية لا يعمل بأثر رجعي، وكذلك الدستور يمنع سن قانون يعمل بأثر رجعي، لكنه سيحد من هذه الجرائم في المستقبل، لأن المجرمين سيفكرون كثيراً قبل الإقدام على جريمة ضد الإنسانية، أو الترويج لها والتلويح بها في الإعلام كما جرى ويجري دائماً عند حدوث نزاع ما، لأنهم – المجرمين - سيصبحون مستهدفين في الغالبية العظمى من بلدان العالم، ولن تنجو أموالهم في دول العالم كذلك.

أن يدخل العراق لنظام روما أسوةً بتونس والأردن، سيجعل لهذا البلد نصيبٌ أكبر من الحياة بعد حفرة الموت التي وقع فيها، خصوصاً بعد 2003.  

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق: في تجارب الخيبة!

في زمن مقداره عشر معشار الثانية، انقلبت الحياة تماماً. الرؤية بيضاء، السمع مفقود، الإحساس بالزمان والمكان يتلاشى، اصطدام كبير في جدار الذاكرة يفقدك تعريفك لنفسك ولهويتك ووجودك. انفجار سيارة مفخخة،...

سيرة شخصية تمانع النسيان

رقدوا هناك وحيدين كما كانوا في حيواتهم، لا يُرشُّ لهم ماء الورد ولا يشتعل البخور بقربهم. انتقلوا للمنافي حاملين معهم خيوطاً تمتد من قلوبهم إلى بيوتهم المتروكة في ليلٍ بعثي...