تطالعنا بين الفينة والأخرى تعليقات تشيد بالاستثناء التونسي وتثني على التحول السلمي الذي يميزه عن باقي الارتدادات الدموية التي تشهدها المنطقة، من ليبيا الى اليمن مرورا بمصر وسوريا. ولا شك بأن الوضع في تونس، مقارنة بدول الجوار التي اكتسحها زلزال الثورات، هو الأفضل، كما لا شك بأن ذلك لا يعود حصرا ــ كما تختصره معظم هذه التعليقات ــ الى التوافقات السياسية بين حركة النهضة الإسلامية وحزب نداء تونس الحائز الأغلبية البرلمانية، وهي التي هدأت من وطأة الاستقطاب الثنائي بين الإسلاميين ومن اصطلح على تسميتهم في تونس بالحداثيين. بل هو يعود بالأساس الى توازن للقوى بين الحراك الاجتماعي العصي على الترويض من جهة، والقوى المدافعة عن مصالح النظام القديم أو المهادنة له من جهة أخرى. وهذا التوازن هو ما حال دون أن تستأثر قوة بمفردها بزمام السلطة، حتى وإن احتكمت الى انتصاراتها الانتخابية.
لا يمكن إدراك الديناميات الاجتماعية والسياسية المحلية الجارية بالنظر حصراً الى المشهد السياسي المؤسسي أو الى صعوبات تشكيل تحالف حاكم مستقر يحظى بقدرة (وشرعية حقيقية) على إدارة الصراع. وهو ما خلصت إليه دراسة سوسيولوجية حديثة نشرت في تونس، أعدّتها مجموعة من الأكاديميين تلقي الضوء على هذه الديناميات عبر تجلياتها في "الهوامش"، أي في الضواحي الحضرية الواقعة في حزام العاصمة، والتي تعاني من الإفقار والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والعمراني. رصدت الدراسة شباب هذه الأحياء الذي شكل رأس حربة الحراك الثوري في منطقة تونس الكبرى في كانون الثاني/ يناير 2010-2011، والذي سرعان ما خبا دوره بعد رحيل زين العابدين بن علي، فانحسر منسوب التعاطف معه، لا بل أصبح الحديث عنه في الإعلام يختزل بأخبار صلته بالسلفية والجهاد في سوريا.
أحياء الهامش
في حيين شعبين هما "التضامن" و "دوار هشير"، وبعد أربع سنوات على سقوط نظام بن علي، تركز هذا العمل البحثي، الكمي والنوعي، على محاولة فهم مسارات هؤلاء الشباب الدراسية والمهنية، وأوضاعهم الاجتماعية، وممارساتهم الدينية، وتفحص تمثلاتهم للمشهد الحزبي والجمعياتي القائم، وعلاقاتهم بالدولة ومؤسساتها. لهذين الحيين، ذوَي الكثافة السكانية المرتفعة ونسب البطالة العالية في صفوف الشباب من حاملي الشهادات الجامعية خاصة، أهمية رمزية في خريطة الجغرافيا السياسية التونسية. فهما شكلا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي إحدى أهم الحاضنات الشعبية لحركة النهضة الإسلامية في تونس الكبرٍى، فآويا أولى أنويتها الدعوية وشهدا بدايات مظاهر نشاطها في المساجد. وفي خضم استفحال سياسات الخصخصة في سنوات التسعينيات من القرن الفائت، وتجذر النهج القمعي الاستئصالي الذي جوبهت به الحركة الإسلامية، عرف الحيّان تعزيزاً لآليات التأطير السلطوي لنظام بن علي التي تجمع بين الضبط والإكراه البوليسي وبين حشد الولاء والرقابة الاجتماعية عبر شبكات المحسوبية التي كانت تشرف عليها هياكل الحزب الحاكم ولجان الأحياء المعاضدة لها.
ماذا تغير في حياة شباب هذين الحيين بعد أربع سنوات على سقوط نظام بن علي؟ هل تحققت انتظاراتهم؟ الإجابة، من دون تشويق مفتعل، هي بالطبع لا. إذ إن 90 في المئة منهم يعتبرون أن وضعهم لم يتحسن. بل ما يناهز نصف هؤلاء يجزمون بأن ظروفهم الحياتية قد تقهقرت، كما يسود بينهم الإحساس بالخيبة، والخذلان من قبل الحكومات المتعاقبة، وهو ما يفسر عزوف غالبيتهم عن النشاط الحزبي والجمعياتي، وعدم ثقتهم بالسياسيين بمختلف مشاربهم.
هذا الإحساس بالإحباط تعززه قوة الحراك الثوري الذي انخرط فيه شباب حي التضامن ودوار هشير منذ الأيام الأولى لانتفاضة 2011، والذي تكلل بانتصارات سريعة وفارقة، إذ، في غضون بضعة أيام من المواجهات العنيفة مع قوات الامن والتي ذهب ضحيتها عدد الشباب بين قتيل وجريح، اختفت الشرطة من الحيين، وأحرقت أو أفرغت كل المقارّ الرسمية المجسِّدة لنظام الاستبداد، وانبعثت لجان قاعدية لحماية الثورة وتسيير بعض المرافق المحلية، انخرط ضمنها كثير من الشباب.
هذا الزخم الثوري الذي تبعه انهيار سريع للنظام القديم في الحيين وبروز حالة من ازدواجية السلطة بين أشكال جنينية من الإدارة المحلية الشعبية وسلطة مركزية مهتزة غذَّى كل الآمال لدى الشباب الفقير والمهمش، وفتح بالنسبة له الباب على مصراعيه أمام آفاق رحبة من التغيير وتحقيق المطالب. لكن الأمل سرعان ما تضاءل ثم اضمحل لدى شرائح واسعة منهم على وقع تناسي وعود المترشِحين في انتخابات المجلس التأسيسي بالتشغيل والتنمية، وإعادتهم الاعتبار للسياسات القديمة في التعامل وإن تغيرت بعض الوجوه الساهرة عليها.
فالشباب يعزون تدهور أوضاعهم أو عدم تحسنها الى غلاء المعيشة وتفشي البطالة في صفوفهم، علاوة عن استمرار علاقاتهم المتوترة مع الدولة بفعل استفحال الفساد، وتواصل استبعادهم واحتقارهم من قبل مراكز أخذ القرار، وعدم تحسن معاملتهم من قبل القوات الأمنية داخل مناطق إقامتهم وخارجها.
سمات رئيسية للعملية السياسية الجارية
حيّا التضامن ودوار هيشر يختزلان سمتين أساسيتين تطبعان العملية السياسية في تونس. تتعلق الأولى بالتهميش التصاعدي للقوى الاجتماعية التي لعبت دورا رئيسيا في الحراك الثوري، خصوصا في المناطق المحرومة. وعليه فإن مأسسة التحولات السياسية وإرساء الديموقراطية التمثيلية قد ترافق مع إخراج "الطبقات الخطيرة" من حلبة الفعل السياسي والاجتماعي، الى حدٍ وصل الى تجريم بعض من أشكال نضالها (كمحاكمة شباب شاركوا أو اتهموا بالمشاركة في حرق مراكزالشرطة في خضم الحراك) على مذبح تسويات سياسية فوقية حكمتها "إعادة تدوير" جزء من النخب القديمة في السلطة وإشراك معارضي الأمس الذين قبلوا التطبيع مع الدولة العميقة و/ أو غضوا الطرْف عن تفعيل العدالة الانتقالية. وقد برز ذلك بالخصوص إبان الانتخابات التشريعية الأخيرة التي شهدت عزوفاً لدى الشباب وكما أيضا لدى سكان المناطق التي دشنت حراك كانون الاول/ديسمبر 2010 مثل منطقة سيدي بوزيد.
السمة الثانية هي أن هذه العملية السياسية، وإن عززت منسوب الحريات، موفرة بذلك بعضاً من شروط المواطَنة السياسية، إلا أنها أبقت على السواد الأعظم من المواطنين خارج سياق المواطَنة الاجتماعية والاقتصادية، أي خارج دائرة التمتع بالحقوق الجوهرية الضامنة لأمنهم الاجتماعي ولقدرتهم الحقيقية على الفعل السياسي. كما ان تبني دستور جديد وتنظيم انتخابات ديموقراطية لم يحدثا تغييرات تذكر في بنية المصالح الاقتصادية والاجتماعية النافذة في البلد، بل لم ينجحا حتى في فرض آليات رقابة شفافة على أداء الدولة في مجال سياستها الاقتصادية، مثل الجباية ونظام القروض وحوكمة الموارد الطبيعية من ماء وفوسفات وبترول.
السلفيةُ مفسَّرة
نمو السلفية في صفوف شباب من دوار هيشر والتضامن في أعقاب الثورة، وانحدار شعبية حركة النهضة فيهما كما دلت عليه نتائج الانتخابات الأخيرة، إلى جانب عودة النمط القديم في إدارة السكان، هو تكثيف للديناميات الجارية في تونس. ويدل في أساسه على أن الفجوة بين سقف الحقوق السياسية المتاحة بمقابل انحسار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، يمثل التحدي الأهم لاستمرار هذه الحريات في تونس. لان عجز التحالف الحاكم عن احتواء الحراك المطلبي بإجراء إصلاحات تخفف من الاحتقان الاجتماعي وتوسع من قاعدته الاجتماعية، كما عدم تبلور بدائل تقطع مع منوال اقتصادي كرّس العطب وأقصى فئات واسعة من السكان، يمكن أن يؤدي إلى إعادة إحكام القبضة الأمنية وتزايد تنامي التعاطف مع الخيارات الراديكالية الجهادية التي لن تفلح السياسات الأمنية في اقتلاعها.