أكدت عملية شاطئ سوسة المريعة، التي ذهب ضحيتها 39 سائحا، والتي نفذت بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط من عملية متحف باردو في العاصمة، تصاعد خطر العنف الجهادي في تونس. بيد انها كشفت في الآن نفسه فشلاً رسمياً في التعاطي معه، لم تفلح في التغطية عليه اصوات "خبراء" و "محللين" سيطروا على المشهد الإعلامي، فراح بعضهم يوجه الاتهام لقوى خارجية متربصة بتونس وحداثتها الأسطورية، والبعض الآخر ينادي بضرورة مقايضة التونسيين حريتهم بأمنهم، اعتبارا للوضع الحرج الذي تعيشه البلاد.
في غمرة الصدمة التي أحدثها الهجوم، ردت السلطات التونسية بجملة من الإجراءات كان من أهمها إعلان حالة الطوارئ لمدة شهر قابل للتمديد، (مدد فعلا منذ أيام لثلاثة أشهر)، وحجر السفر بدون تصريح أبوي على الشباب الذين هم دون الـ35، والتعجيل في بناء جدار عازل على الحدود الجنوبية مع ليبيا، وغلق مساجد صُنفت "خارج السيطرة". كما جرى أيضاً اقتراح قانون "المصالحة الوطنية" الذي ينص على إيقاف الملاحقات ضد الموظفين العموميين ومن يوازيهم بخصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام قبل الثورة!
لا جديد، لا بدائل؟
في جوهرها، لا تحمل "الحرب على الإرهاب" في نسختها الرسمية بعد سوسة، جديدا، بل هي تعمِّق الخيارين الوحيدين الجاري العمل بهما منذ تصنيف "أنصار الشريعة" كمنظمة إرهابية في آب/أغسطس 2013: المقاربة الأمنية من جهة وشرعنة إعادة إدماج نخب الدولة العميقة من جهة أخرى.
المفارقة، برغم وقع الصدمة، تكمن في خفوت أو حتى غياب الأصوات الحاملة لبدائل من خارج هذه المقاربة. تَعطّل الرؤية في هذا الصدد يحيل في جوهره إلى الاستخدامات السياسوية التي أتاحها ويبيحها "الملف السلفي" في خضم الاستقطابات المحمومة وسيولة موازين القوى بين أبرز الفاعلين من بين السياسيين. وهو يتغذى في الآن نفسه من قصور عام في فهم الظاهرة السلفية الجهادية عبر الترويج لسردية استنكفت عناء السيسيولوجيا والجغرافيا الاجتماعية والسياسة، مختزِلة الظاهرة في كائنات مارقة دخيلة على ثقافة تونس المتسامحة، يحركها غلو ديني عماده التوحش ونشر الموت.
ليس المقصود هنا الاستهانة بالتداعيات الكارثية لهذا العنف "الجهادي"، بل التنويه بضرورة إحكام توصيفه حتى لا يكون مستقبلنا مفتوحا على احتمالات أشد عنفا وضراوة. ولن يستقيم ذلك بدون استقراء المقومات الاجتماعية الداخلية للحراك الجهادي، وفهم ديناميته، و "هيكل الفرص المتاحة" لانتشاره، والعلاقة الطردية بين الايديولوجيا وبيئته المحيطة.
جيل ثالث واستنتاجات أخرى
هنا بشكل مختصر، بعض الاستنتاجات البحثية التي ترسم إجابات:
1- السلفية في تونس، كما في باقي المنطقة، "سلفيات"، وان احتكمت كلها الى العودة إلى أصل متخيَّل، فإنها حالة مركبة وغير متجانسة يحكمها تنوع الارتباطات الإقليمية والمرجعيات المشيخية والتأطير الشرعي ودرجة التنظم والموقف من العمل السياسي والدولة والعنف.. ولا يمكن اختصارها بالتيار "الجهادي". إدراك هذا التنوع لا يعني إصدار أحكام قيمية أو معيارية حول إيجابية او سلبية هذا الفصيل أو ذاك، بل الوقوف على تمايز يجب ان يحكم أداء السلطات حيالها وينظِّم موقعها في الفضاء العام.
2- بعيدا عن كل نظريات المؤامرة الفضفاضة الرائجة في تونس، فان التيار الجهادي اليوم، وبرغم أهمية السياقات التاريخية والإقليمية التي طبعت ظهوره ثم صعوده في اعقاب الاجتياح الأمريكي للعراق أولا، وفي آتون الارتداد الدموي للثورات في سوريا وليبيا واليمن بعدها، هو مع ذلك إفراز داخلي، حكَم نموه وتموقعاته نسق الصراع السياسي وآليات إدارته وأشكال الهيمنة والعنف المادي والمعنوي الكامن في العلاقات الاجتماعية التي تُشكّله. وتنطبق هذه الملاحظة بالخصوص على الجيل الثالث من الجهاديين الذي لم تطأ قدماه أفغانستان ولم يلتحق بالجهاد في أعقاب "11 سبتمبر". منفذو عملية سوسة وباردو يجمعهم صغر السن، وهو قاسم مشترك للسواد الأعظم من الشباب الجهادي التونسي اليوم. ثلاثتهم ولدوا في سنوات التسعينيات ونشأوا في تونس تحت نظام بن علي، ثم اكتشفوا السياسة في خضم الحراك الثوري الذي أطاح به. اعتنقوا السلفية بسرعة، وباشروا الفعل خلال "المرحلة الانتقالية". وعليه، فان الظاهرة اليوم هي بامتياز ظاهرة شبابية تستهوي بالأساس الفئة العمرية 18-24 سنة، دون تمييز جندري (كما تشير نتائج بحثنا في حيين شعبيين في العاصمة تونس). أي أنها تستدعي تعاطف كلا الجنسين من تلك الشريحة العمرية التي أثنت النخب في اعقاب 2010 على زخمها، لكنها سرعان ما أقصتها من العملية السياسية، ولم تعبأ الحكومات المتعاقبة بإقناعها بجدوى الديموقراطية التمثيلية في تغيير واقعها وتحقيق انتظاراتها وإعطائها الأمل في المستقبل.
3- على عكس ما يروج له، فان الفرضية القائمة على أساس أن الدين في نسخته المتشددة هو المحرك المفصلي للتجذر السلفي لا تصمد كثيراً أمام نتائج أي عمل ميداني. أولاً، لأن المحركات كثيرة وليس هناك سببية عقائدية أحادية حاسمة في شرح الحوافز الدافعة لاعتناق الجهاد. فالدراسات الميدانية التي وقفت على المسارات الاجتماعية لبعض الشباب الجهادي من فرنسا أو من السعودية على سبيل المثال، وصلت الى استنتاجات تفند هذا الادعاء وترجّح كفة العوامل الاجتماعية والسياسية. ثانياً، لأن النتائج البحثية النادرة في تونس التي اعتمدت على بروتوكول بحثي سوسيولوجي حقيقي تشير إلى أن الفئة الشبابية الأكثر تعاطفا مع تنظيم أنصار الشريعة المحظور والمصنف إرهابي، هي الأقل تديناً وممارسة دينية. وما يكشفه البحث هو أن تعاطف شباب الاحياء الشعبية مع السلفية الجهادية مرده التماهي مع الجهاديين على أساس انهم "أبناء نفس الحومة"، أي على أساس منحدراتهم الاجتماعية الفقيرة وانتمائهم في الغالب إلى مناطق ترزح تحت وقع التهميش، كما الحال بالنسبة لمنفذي عمليتي باردو وسوسة القادمين ثلاثتهم من جهات فقيرة. فالشعور في صفوف الشباب المهمش بوحدة المعاناة من ضيم البطالة وانسداد أفق التشغيل، وحملات "الرافل" (الهجمات البوليسية)، وفساد الإدارة، ولامبالاة رجالات السياسة.. تمنح بعض الشرعية للسجل التعبوي الجهادي الرافض للدولة وعاقد العزم علِى الإطاحة بها. هؤلاء فقدوا الامل في التفات مؤسسات دولتهم إليهم، بعد ان خاب ظنهم في ثورة اعتقدوا لبرهة أنها ستكسبهم مواطَنتهم السياسية والاجتماعية المسلوبة.
4- شكلت المساجد الخارجة عن سيطرة السلطة في تونس منذ أكثر من ثلاث سنوات أحد المداخل الرئيسة في الجدل القائم حول "محاربة الإرهاب"، فتعددت الأرقام بشانها وتلاحقت الإعلانات عن غلقها. لا شك ان المساجد التي هجرها الأئمة المنصَّبون من قبل نظام بن علي في أعقاب سقوطه، والذين كانوا يضطلعون بتأطير ومراقبة الفضاء الديني، قد أفسح المجال للتيار السلفي، بما فيه ذاك الجهادي، لاستعمالها كمنابر للدعوة والاستقطاب. لكن هاجس المساجد لا يجب ان يحجب الرؤية. والحال أنه حتى بالرجوع إلى الروايات الرسمية، فقد أعيد إحكام السيطرة على سوادها. المؤشرات الميدانية العديدة تفيد بأن ساحات الاستقطاب للجهادية متعددة، ومنها ــ وهو ما يُسكت عنه اليوم ــ السجون التي تضم 50 في المئة أكثر من طاقة استيعابها، والتي تفيد تقارير كثيرة عن تردي الأوضاع فيها، وتطالعنا شهادات مختلفة عن معاناة نزلائها من الشباب والنقمة التي تتركها فيهم هذه التجربة، حيال المؤسسة السجنية والبوليسية والتي دفعت البعض منهم للانخراط في الجهاد. ولعل المثال الأبرز في ذلك هو مغني الراب المعروف ايمينو الذي سافر الي سوريا في اعقاب تجربة سجنية مريرة على خلفية قانون 52 المُجرِّم لاستهلاك الحشيش.
تنامي السلفية أكد في جانب منه تحاليل الكاتب الراحل حسام تمام الذي كان تنبأ منذ منتصف 2000 بأن هذه الظاهرة ستكون "سيدة الزمن القادم" في منطقتنا. لن نضع حدا لهذا "الزمن" بالقوانين الاستثنائية السالبة للحريات، ولا بإباحة التعذيب ولا بتشييد الأسوار حولنا. فلن ينسلخ الشباب عن الجهادية ما لم يقتنعوا أن في أوطانهم ما يستحق الحياة، وأن الحرية والكرامة والشغل ليست مجرد أحلام.