أعلنت الفصائل الفلسطينية بقطاع غزة، في 21 مايو/أيار 2021 التوصل إلى وقف إطلاق النار بعد عدوان عسكري إسرائيلي استمر لمدة 11 يوماً ضد القطاع الساحلي المحاصر. وبدأت مفاوضات غير مباشرة برعاية مصر لتثبيت التهدئة وبدء إعادة الإعمار وتبادل الأسرى. علماً أنّ الفصائل بغزة تتفاوض مع "إسرائيل" بالنهج ذاك ذاته منذ 13 عاماً، فهل تحقق المفاوضات الحالية انجازاً لغزة؟
أنتج انتهاء العدوان العسكري الواسع والمكثّف ضد قطاع غزة عام 2008 أوّل هدنة متفق عليها بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة و"إسرائيل"، بعد عدّة محاولات فاشلة بدأت منذ الانسحاب الإسرائيلي عام 2005. وجرى استثمار مفاوضات "تثبيت وقف إطلاق النار" كإطار للتفاوض غير المباشر بين الفصائل وجيش الاحتلال حول قضايا أخرى ترتبط بتخفيف الحصار عن غزة المفروض منذ 2006، وتبادل الأسرى.
منعت "إسرائيل" إدخال المواد اللازمة لإعادة إعمار ما دمرته خلال عدوانها ضد غزة عام 2014 وفق آلية دولية ترعاها الأمم المتحدة، وثبّتت قائمة "المواد مزدوجة الاستخدام"، وتشمل نحو 400 سلعة محددة وفق "اعتبارات أمنية". أعاق ذلك أيّ حلول فعلية لآثار العدوان العسكري، بالإضافة إلى أنه أرسى قواعد عدوان اقتصادي يستمر مع غياب هدير الطائرات الحربية عن سماء غزة.
وأرسى إطار التفاوض عبر "تثبيت وقف إطلاق النار" قواعده كنموذج للمفاوضات غير المباشرة بين فصائل المقاومة بغزة والاحتلال الإسرائيلي لاحقًا، خاصة أنه أثبت نجاعته في تثبيت "هدنة" استمرت لسنوات في أعقاب العدوانات العسكرية الإسرائيلية التالية ضد غزة في الأعوام 2012، 2014، 2021، وقبلها في إنجاز صفقة تبادل الأسرى عام 2011.
وظهرت نجاعة هذا الإطار بعد عدوان 2014، فقد صمدت الهدنة لمدّة تجاوزت 7 سنوات، وهي المدّة الأطول على الاطلاق دون تصعيد عسكري إسرائيلي ضد غزة منذ أن بسطت "حركة المقاومة الإسلامية" ("حماس") سلطتها. إلا أن االوقائع تُظهر أنّ الهدنة تلك تسببت بآثار كارثية على النشاط الاقتصادي في القطاع الساحلي المحاصر، ما هي إلا مواصلة لعدوان اقتصادي يتخفى تحت بطء الوتيرة.
منذ أنّ ضرب الجيش الإسرائيلي حصاراً عسكرياً مشدداً على غزة، تسجل مؤشرات حركة النشاط الاقتصادي تراجعاً مستمراً. أي أن الحصار يعمل كما هو مطلوب منه أن يعمل. على سبيل المثال: ظّل معدّل البطالة يرتفع بشكل مستمر على مدار 15 عاماً، باستثناء الفترة بين عامي 2009 – 2013، لظهور مفاجأة كسر الحصار عبر أنفاق تجارية امتدت من جنوب مدينة رفح الفلسطينية إلى مصر، عابرة للحدود، فحركت الاقتصاد.
أرسى إطار التفاوض عبر "تثبيت وقف إطلاق النار" قواعده كنموذج للمفاوضات غير المباشرة بين فصائل المقاومة بغزة والاحتلال الإسرائيلي، خاصة أنه أثبت نجاعته في تثبيت "هدنة" استمرت لسنوات في أعقاب العدوانات العسكرية الإسرائيلية التالية ضد غزة في الأعوام 2012، 2014، 2021، وقبلها في إنجاز صفقة تبادل الأسرى عام 2011.
شكّل ظهور الأنفاق التجارية حدثاً استثنائياً لحركة الاقتصاد في قطاع غزة، خاصة عندما اتسعت دائرةُ الأصناف المُهرّبة لتصل إلى بضائع كبيرة الحجم نسبياً كالمركبات رباعية الدفع. وشغلت الأنفاق بطريقة مباشرة كادراً بشرياً قدّره اتحاد العمال بغزة بنحو 120 ألف عامل (1)؛ فانخفضت نسبة البطالة في عام 2011 إلى 28.7 في المئة، وهو أدنى مستوى لها منذ بدء الحصار. فيما أدى إغلاق تلك الانفاق عام 2013 إلى ارتفاع البطالة بنسبة 15.2 في المئة كما أظهرت الأرقام في العام التالي، وهو ارتفاع قياسي.
غزة: حرب ليست ككل الحروب
20-05-2021
شهادتان من غزة
07-06-2021
والمؤكد أنه على مدار سنوات التصعيد والتهدئة، فأكبر انجاز حققته الفصائل بغزة في المفاوضات غير المباشرة مع "إسرائيل" هو صفقة "تبادل الأسرى" عام 2011. وليست مصادفة أنه تزامن مع الوضع الاقتصادي الأفضل في قطاع غزة، إذ سجل ذلك العام انخفاضاً غير مسبوق في معدل البطالة منذ عام 2005. وفي العام 2011 وصل نشاط الأنفاق إلى ذروته، وترجمت غزة لأول مرة الزمن لصالحها، في القطاعات الاقتصادية كافة التي ارتفع انتاجها، وانعكس استقراراً اجتماعياً (2) عزز صمود الغزيين، وتحوّل عامل الزمن على طاولة المفاوضات غير المباشرة في القاهرة لصالح الطرف الفلسطيني، فسارعت "إسرائيل" الى "إغلاق الزمن" وتوقيع الصفقة (3).
اشتد حصار غزة مرة أخرى. ومنذ عدوان عام 2014 وعاد مؤشر البطالة للارتفاع، باستثناء انخفاضٍ طفيفٍ عام 2015 بسبب نشاط عملية التوظيف إثر التوقعات المستقبلية المتفائلة بخطوات إعادة إعمار القطاع التي بدأ المجتمع الدولي بحشد الدعم المالي لها، وكذلك الوعود بإنهاء الحصار وإعادة فتح معبر رفح (4). سرعات ما تبددت تلك التوقعات، وعاد مستوى التشاؤم للارتفاع، ولاحت في الأفق الخشية من تكرار سيناريو ما بعد العدوان على غزة عام 2008، حيث بقيت عملية إعادة الإعمار عالقة لأعوام، بسبب رفض "إسرائيل" إدخال مواد البناء اللازمة (5).
ليس من المحتمل بطبيعة الحال تكرار كسر الحصار بواسطة سيناريو 2009- 2013 ذاته، لأنّ الزمن لا يعود إلى الوراء، ولأن الإقليم تغيّر...
ازدادت الصورة قتامة، بعدما صاغ منسق عملية السلام للشرق الأوسط روبرت سيري مخاوف "إسرائيل" من إدخال المواد اللازمة لإعادة إعمار ما دمرته خلال عدوانها ضد غزة عام 2014 على شكل آلية دولية ترعاها الأمم المتحدة، لإدارة توريد الاسمنت المسلح وقائمة "المواد مزدوجة الاستخدام" وتشمل نحو 400 سلعة حددتها حكومة الاحتلال وفق "اعتبارات أمنية"، إلا أنّها أعاقت جوهرياً أيّ حلول فعلية لآثار العدوان العسكري، بالإضافة إلى أنها أرست قواعد عدوان اقتصادي يستمر مع غياب هدير الطائرات الحربية عن سماء غزة، ويفاقم معاناة سكانها.
وإذا ما نظرنا إلى أثر هذا العدوان الصامت على معدل البطالة في قطاع غزة، نلاحظ أنه يرتفع بشكل متواصل منذ عام 2014، حتى وصل ذروته عام 2018. وعلى الرغم من أنه انخفض قليلاً عام 2019 إلا أنّ ذلك يبدو بفعل تطبيق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني معايير "البطالة المنقحة" التي طورتها "منظمة العمل الدولية" مؤخراً للحصول على نتائج أكثر دقة. وحتى "المؤشر الأكثر دقة" عاود الى الارتفاع في العام التالي لتطبيقه، وهو ما يشير بوضوح أن مشكلة البطالة بغزة جوهرية تتفاقم بشكل كارثي مع الوقت.
غزّة: عقاب على مجرد الوجود
06-08-2014
تثبت تجربة 2011 أنّ تحويل الزمن لصالح اقتصاد غزة يفتح المجال أمام تحقيق انجاز ملموس في مفاوضات المقاومة مع "إسرائيل". وليس من المحتمل بطبيعة الحال تكرار كسر الحصار بسيناريو 2009- 2013 ذاته، لأنّ الزمن لا يعود إلى الوراء، والإقليم تغير. إلا أنّ الرهان يبقى على تبني السلطات الحاكمة في قطاع غزة سياسات اقتصادية رشيدة تسخّر الموارد المحدودة وتستثمرها بفعالية لإعادة تشغيل الاقتصاد، مستفيدة من رأس المال البشري بطريقة تنعكس ايجاباً على المجتمع في حال رغبت بتحقق انجاز في مفاوضاتها غير المباشرة مع "إسرائيل".
1) أصحاب أنفاق بغزة: الحملة المصرية أغلقت أكثر من 80 في المئة من الأنفاق، وكالة الأناضول، 13 أيار/مايو 2013 https://bit.ly/3gPxPlg
2) ارتفع معدلات الزواج من 10 - 12ألف حالة زواج إلى 117- 20 ألفاً. وانخفضت معدلات الطلاق من 12 في المئة، إلى نحو الـ 7 في المئة بحسب تصريحات لنائب رئيس الوزراء ووزير المالية في حكومة غزة آنذاك، شكري الظاظا الذي توقع ناتجاً سنوياً وطنياً يصل الى 3 مليار دولار خلال العام. موقع وزارة المالية بغزة، 14 تشرين أول/ أكتوبر 2011 https://bit.ly/3oSTKwj
3) بالطبع لم يكن تحويل الزمن لصالح الطرف الفلسطيني بمفاوضات "غزة" مع "إسرائيل" غير المباشرة في القاهرة بسبب كسر الحصار الاقتصادي فحسب، وإنما شكل نجاح الفصائل بغزة الاحتفاظ بالجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط ما يقارب الـ5 سنوات، ورفع قدرتها العسكرية عاملان مهمان ما زالا يلعبان لصالحها، فهي تحتفظ الآن على الأقل بأسيرين إسرائيليين. وأظهرت خلال تصديها للعدوان عام 2021 تطورًا ملموسًا في قدراتها العسكرية مقارنة بعام 2014.
4) مؤشر سلطة النقد لدورة الأعمال – تشرين أول 2014، موقع سلطة النقد الفلسطينية، 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2014 https://bit.ly/3sN44qT
5) إعلان نتائج مؤشر سلطة النقد لدورة الأعمال – تشرين ثاني 2014، موقع سلطة النقد الفلسطينية، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 https://bit.ly/3HW2ZmO