خلال جولة المفاوضات الأخيرة في سويسرا بين أطراف الصراع اليمني، حضرت مدينة تعز كأحد العناوين الرئيسية للمحادثات التي تفجّر الخلاف حولها، حيث استخدم ممثلو الحوثيين وصالح طلب رفع الحصار عنها كورقة للمساومة، على الرغم من إنكارهم العلني للحصار، وذلك في استثمار منهم للضغط الذي يترتب على السعودية وعلى حكومة هادي من بقاء المأساة الإنسانية فيها، مما يفصح عن حساسية منخفضة للغاية لما يؤدي له هذا الحصار والتنكيل اليومي بالمدنيين من جرح عميق في مستقبل العلاقات بين اليمنيين، وبما يُفاقم من التداعيات المختلفة للصراع الواسع الذي دشّن عقب آذار/ مارس 2015، حين بدأ مقاتلو هذا الطرف وعرباتهم المسلحة بالتدفق نزولاً من العاصمة صنعاء إلى المحافظات المختلفة، من دون انتباه إلى الحساسيات والتصدعات التي يثيرها بين اليمنيين اندفاعهم العنيف، بينما تزدهر التعريفات الطائفية والمناطقية.
لماذا تعز مهمة في مسار الصراع
تصاعدت المأساة الإنسانية في المدينة المحاصَرة مع انتهاء جولة التفاوض من دون أي نتائج، بالتزامن مع ارتفاع صوت المنظمات الإنسانية الدولية التي تحذّر من كارثية ما يحدث. وعلى الرغم من كون "التحالف العربي" وحكومة هادي قد أعلنا منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر عن عملية "نصر الحالمة" لتحرير تعز، إلا أنّ النتائج الفعلية لهذه العمليات العسكرية على الأرض عكست فشلاً ذريعاً، ولم يغيّر من حقائق الأوضاع الميدانية على مختلف جبهات هذه المحافظة. ويُضاف إلى هذا الفشل ما يبدو استثماراً سياسياً انتهازياً لهذه الكارثة الإنسانية من قبل "التحالف"، وذلك بتسويقها لإدانة جرائم الحوثيين على المستوى الدولي، بما يوفره هذا من حرف للانتباه وتغطية على الجرائم التي ترتكب من قبل قوات التحالف نفسها، وبما يمنحه من تعزيز لشرعية حملته العسكرية في اليمن من دون أن يعني ذلك تحركه الجاد لرفع المعاناة عن تعز وسكانها.
بالتأكيد فإنّ تقدير مكانة تعز الرمزية يتجاور مع امتيازات الجغرافيا والمكان، حيث هناك رأسمال سياسي كبير لهذه المحافظة ذات الدور البارز في التاريخ الحديث لليمن، والسيطرة عليها من قبل أي طرف يوفر له الاعتداد باعتبارات الوزن الذي هي عليه، وهو ما يدفع الحوثيين مثلاً للقتال بضراوة في هذه المحافظة على الرغم من الاستنزاف الكبير الذي ترتب على ذلك بالنسبة لهم.
وحدود محافظة تعز التي تمتدّ حتى باب المندب تمنحها مكانة استراتيجية مهمة، ويدرك الحوثيّون وصالح أنّ السيطرة عليها ستضعهم على تماس مع مصالح دولية تمرّ من خلال هذا الخط الملاحي الدولي بالغ الأهمية، ولذلك دور كبير في استماتتهم للحفاظ عليه، حيث سيعني نزع سلطتهم عن تعز بعد خساراتهم للجنوب ومأرب الغنية بالموارد النفطية، تحوّلهم إلى سلطة معزولة ومنبوذة في المناطق الجبلية شمال اليمن، وهي مناطق فقيرة الامتيازات على صعيد الموارد والمكان.
تعز تقرّر مستقبل اليمن
إضافة لذلك فإنّ أي خطط لمستقبل اليمن لا يمكن وضعها قيد التنفيذ إلا بحسم المعركة في تعز وتقرير موقعها في السيناريوات المختلفة. فتحرير هذه المحافظة من يد الحوثيين وصالح سيضمها للمحافظات الجنوبية، بما يُزيل الملمح التقسيمي لوضع اليمن الآن نتيجة لما تبدو عليه حدود سيطرة الطرفين على الأرض، حيث يتماسّ الاثنان حالياً على الحدود الشطرية السابقة.
والسيطرة على تعز من طرف "التحالف" والحكومة يُسقط من يد الحوثيين وصالح إمكانية الذهاب للحديث باسم تمثيل الشمال كلياً كجغرافيا سياسية تشكل الجمهورية العربية اليمنية، ويضرب بالمقابل فرص استعادة الجنوب السياسي على قاعدة حدود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بالنسبة لأي طرف يضع ذلك في اعتباره.
ولذلك كله فإنّ أحد تفسيرات عدم حسم معركة تعز، يتصل بعدم وضوح خطط القوى الأساسية في الصراع، فهل سيذهب "التحالف العربي" مثلاً لدعم خيارات تقسيم اليمن ودعم استعادة دولة في الجنوب؟ وبالمقابل هل سيذهب الحوثيون لحكم دولة في الشمال مسقطين الجنوب من خياراتهم سواء بصفقة إقليمية أو بفرض حقائق على الأرض؟ كل تلك هي احتمالات وسيناريوات غير محسومة، ولكنها تضيء على تفسيرات متردّدة تحاول فهم ما الذي يدور حول معركة تعز.
ولأسباب مختلفة، تبدو تلك المعركة معقدة ومهمة للغاية، وقد يتحول مسار الصراع في اليمن في حال استطاع التحالف حسمها، فقوات الحوثيين وصالح على الرغم من وضعها الدفاعي والإنهاك الذي تعاني منه، إلا أنّها استطاعت استثمار الهوية الجبلية لجغرافيا الصراع في تعز بشكل يعطل تفوق سلاح التحالف، ويجعل من حرب العصابات والكمائن استراتيجية ناجحة لإيقاع الخسائر وجعل أيّ تقدّم للقوات عملية مكلفة للغاية. إضافة لذلك تبدو التناقضات السياسية بين أطراف المقاومة عنصراً أساسياً في تفسير الفشل العسكري في تعز. فعلى الرغم من تمكّن "المقاومة الشعبية" من تحرير المدينة من قوات الحوثيين وصالح في وقت سابق، إلا أنّها لم تستطع إنجاز أي فرق بعد ذلك، وظلّ هؤلاء الأخيرون يستطيعون توجيه ضربات وإسقاط مناطق في محيط المدينة وريفها بالتزامن مع احتفاظهم بالسيطرة على مداخلها والبلدات الأساسية فيها، باستثناء مدينة التربة التي تُعتَبر المدينة الثانية في المحافظة.
تناقضات المقاومة
يُشكل المقاتلون السلفيون ومقاتلو حزب الإصلاح العنصر الأساسي لـ "المقاومة الشعبية" داخل مدينة تعز، بالإضافة إلى مجموعات شبابية من أبناء المدينة. ويغلب الانتماء القبلي وأيضاً الانتماء إلى الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري على هوية المقاومين في أرياف المدينة، وخصوصاً في جبل صبر ووادي الضباب والحجرية. وضمن هذا التنوع في الهويات والانتماءات، تستيقظ التناقضات السياسية والشخصية والإيديولوجية، إضافة إلى خلافات يحركها كما يبدو التطلع لاستحقاقات ما بعد تحرير تعز، حيث ستلعب هوية الطرف الذي سيسيطر على الأرض دوراً حاسماً في توفير السلطة له في المحافظة لاحقاً.
وتتغذّى هذه التناقضات أيضاً على محركات خارجية، فالموقف الإماراتي المعلَن من حزب الإصلاح ("الإخوان المسلمون") يفسّر نسبياً شح الدعم الذي يقدّمه "التحالف" هنا، فأبرز قادة "المقاومة الشعبية" في المدينة هو الشيخ حمود المخلافي المحسوب على "حزب الإصلاح الإسلامي". بالمقابل يذهب ما يأتي من دعم نحو أبو العباس القائد السلفي الأبرز في تعز والذي يتنافس ضمنياً مع المخلافي على السيطرة في المدينة.
هذه الصراعات الضمنية لا توفر بالتأكيد تفسيراً كلياً للموقف، لأن التعقيدات السياسية التي تتصل بموقع المحافظة في وسط الجغرافيا اليمنية، وكونها نقطة الوصل بين الشمال والجنوب هي أيضاً أحد التفسيرات المحتملة له.
تبعات انسداد أفق السلام
إن انسداد آفاق التسوية السياسية في اليمن يعزز دورة العنف الذي تشهده تعز ويفاقم من عائد ذلك على المدنيين فيها. وما دام المسار الأممي لوضع أطراف الصراع في جولة مفاوضات جديدة لم يحرز أي تقدّم يُذكَر، فذلك يعني أنّ الوضع سيزداد تعقيداً في اليمن، بالترافق مع التداعيات الصاخبة للتدهور في العلاقات بين السعودية وإيران، حيث اختبارات القوة بين الطرفين ستتنفس في نقاط تماسهما في اليمن وسوريا.. ليعني كل ذلك أن فرص السلام الهشّة ستختنق في تداعيات هذا الاستقطاب الإقليمي الحادّ.