أزهري وزيراً للثقافة في مصر

في مصر، المجال المعرفيّ بشكله الحكومي، أفرزته اجتهادات كثيرة من أجيال متعاقبة حتى وصل في النهاية إلى صورته الحاليّة، من حيث تسميّة الهيئات والوزارات المنوط بها تقديم السلعة المعرفيّة المدعومة من قبل الدولة للمواطنين. ولعل أكثر تلك الهيئات هي وزارة الثقافة بقطاعاتها المختلفة، من هيئة الكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، ودار الأوبرا المصريّة، ومركز الإبداع الفنّي، وقطاعات مسارح الدولة المختلفة.. إلى
2015-05-07

مايكل عادل

باحث من مصر


شارك

في مصر، المجال المعرفيّ بشكله الحكومي، أفرزته اجتهادات كثيرة من أجيال متعاقبة حتى وصل في النهاية إلى صورته الحاليّة، من حيث تسميّة الهيئات والوزارات المنوط بها تقديم السلعة المعرفيّة المدعومة من قبل الدولة للمواطنين. ولعل أكثر تلك الهيئات هي وزارة الثقافة بقطاعاتها المختلفة، من هيئة الكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، ودار الأوبرا المصريّة، ومركز الإبداع الفنّي، وقطاعات مسارح الدولة المختلفة.. إلى آخر هذه الشبكة المتداخلة من الهيئات.
 

المراحل التأسيسيّة

مرّت هيئات وزارة الثقافة المصريّة بعدّة مراحل كي تصبح كياناً موحّداً بميزانيّة موحّدة. فقد كان لوزارة المعارف العموميّة ("التربية والتعليم حالياً") قبل ثورة يوليو 1952، النصيب الأكبر من الدور المنوط بوزارة الثقافة بشكلها الحالي.
وفي أعقاب يوليو، تأسست وزارة الإرشاد القومي التي أنجبت وزارة الثقافة في ما بعد، ولعل أبرز مؤسسي تلك المنظومة هو الدكتور ثروت عكاشة، الذي تولّى الوزارة منذ عام 1958 حتى عام 1961، ثم تولاها مرّة أخرى عام 1966.
وكان لعكاشة اليد العليا في هيكلة وتأسيس الهيئات المختلفة للوزارة بأعرافها والقوانين المنظمة لعملها حتى يومنا هذا. وهو أيضاً شهد تطوّراتها المختلفة منذ تأسست وحتى وفاته عام 2012.
الوزارة على مر العصور والأنظمة المتتالية كانت ـ إلى جانب دورها التقليدي - أبرز مؤشرات الإرادة السياسية العليا على الوعي القومي المرجو من قبَل السلطة الحاكمة. ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، جاء ثروت عكاشة، ذلك العسكري المنضبط المثقف الذي عمل لمدة عشر سنوات في اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة "فينيسيا" الإيطاليّة، وتقلّد عدة مناصب دوليّة في مجال الثقافة والفنون.
ولذلك توفرت في عكاشة التفاصيل التي تعبّر عن الوجهة الثقافية لنظام عبد الناصر من كل الجوانب.
وكذلك في عهد أنور السادات، كان كل من تقلّد المنصب مطابقاً للإرادة المرحليّة للحاكم. فعلى سبيل المثال جاء في مرحلة "كامب ديفيد" على رأس وزارتي الثقافة والإعلام الدكتور عبد المنعم الصاوي، صاحب الخلفيّة الدينيّة المحافظة المطابقة بشدة لرؤية السادات، وهي تلك النزعة التي أرادت السلطة آنذاك أن تغمر بها المجتمع والأنشطة العامة لتكبيل الحركات التحررية اليسارية المناهضة للتطبيع وسياسات الانفتاح الاقتصادي التي كانت البلاد مقبلة عليها.
أما في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، فلم يكن الأمر بعيداً عن شخصيته السياسيّة المقاومة للتغيير والمناهضة للتجديد. فقد تقلّد منصب وزير الثقافة الفنان فاروق حسني منذ عام 1987 وحتى قيام ثورة 25 يناير 2011. فالثورة كما أطاحت مبارك العنيد فقد أطاحت أيضاً وزير ثقافته الذي لم يتغيّر لما يقرب من ربع قرن من الزمان. في أعقاب ثورة يناير، تغيّر على قيادة وزارة الثقافة عدد كبير من الأسماء، مما يبرز تخبّط الإرادة السياسيّة خلال عاميّ 2011 و2012.
 

الوزارة عقب ثورة يناير

ربما كان الحدث الأبرز على الساحة الثقافية عقب ثورة يناير هو احتجاج المثقفين والفنانين المصريين عام 2013 على تعيين الدكتور علاء عبد العزيز، الموالي لجماعة الإخوان المسلمين، في منصب وزير الثقافة. وخلال تلك الاحتجاجات، تم احتلال مقر الوزارة من قبل الفنانين والمثقفين الشباب لأكثر من عشرين يوماً، قاوموا خلالها الحشد الإخواني ضد اعتصامهم، الذي استمر إلى أن سقط نظام الإخوان في3 تموز/ يوليو عام 2013.
ومنذ ذلك اليوم، عادت وزارة الثقافة إلى عملها بشكل طبيعي، ولم تشهد تطوراً ملحوظاً. إلى أن بدأ الدكتور جابر عصفور الوزير السابق في عملية تحجيم جهاز الرقابة على المصنفات الفنيّة، وتصريحه في عدة مناسبات بأنه يرفض وجود أي رقابة دينية أو أخلاقية على أي مادة فنيّة. وكان ذلك في أعقاب تدخل الأزهر الشريف في رفض عرض فيلم "نوح". ووسط ترحيب عدد كبير من صانعي الفن والأدب، جاء قرار مفاجئ بتعديل وزاري محدود شمل إقالة عصفور من منصبه وتعيين الدكتور عبد الواحد النبوي عبد الواحد خلفاً له.
 

الوزير الأزهري

جاء تعيين النبوي مفاجئاً للجميع، وربما صادماً، لسببين رئيسيين. السبب الأول والأبسط هو كونه وزيراً من خارج منظومة الوزارة وهيئاتها، وعلى وجه التحديد، فهو من خارج الأسماء المرشّحة بقوّة من الداخل لتولّي الحقيبة الوزاريّة، تلك الأسماء التي لن يكون مفاجئاً أن يتم تعيين أحدها خلفاً لعصفور، مثل الدكتورة إيناس عبد الدايم رئيسة دار الأوبرا المصريّة، والدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب.
أمّا السبب الثاني فهو كونه أزهرياً، أتى من المؤسسة الرسميّة المسؤولة عن تطبيق وتشريع الأحكام الدينيّة في الدولة. وغرابة هذا الأمر لا تكمن فقط في أن الوزير الشاب الذي عمل في تدريس التاريخ في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، قد جاء في حقبة تعلن الدولة فيها الحرب على الرجعية فكراً وتطبيقاً، فهنا يمكن التماس العذر ـ على مضض - أن الدولة تريد أن تقدم نموذجاً متنوّراً أتى من مؤسسة دينيّة رسميّة.
ولكن الغرابة تكمن في أن النبوي قد جاء مباشرة عقب خلاف سلفه مع مؤسسة الأزهر لرفضه تدخلها في تقييم الأعمال الفنيّة، معتمداً على التصريحات الرسميّة المتعاقبة من القيادة السياسية في مجاليّ حرية الإبداع وتحرير الخطاب الديني، الأمر الذي كان كفيلاً بتوفير الغطاء السياسي لأي تحرّك إيجابي في مجال التخلص من الرقابة الدينية على أي منتج ثقافي وفنّي في البلاد...
الأمر الآخر هو ذلك التناقض الشديد بين التصريحات الرسميّة في مجالات الحريّات والخطاب الديني، وبين التطبيق على أرض الواقع، إذ أصبح الوزير المسؤول عن شتى الأمور الثقافية والفنيّة الصادرة عن الدولة، له خلفيّة دينيّة مؤسسيّة في هذه الحقبة تحديداً.
والدكتور النبوي هو المدير السابق لدار الوثائق المصريّة، وقد جاء على رأس مشروع ضخم لجمع الوثائق التاريخيّة وتحويلها إلى ملفّات إلكترونية وحفظها. وقد واجه المشروع عدّة عقبات خلال الثورة وفترة حكم محمد مرسي لمصر، حيث تمت إقالة النبوي من منصبه وقتها، فتوجه للعمل بالتدريس في دولة قطر.
ومنذ توليه الحقيبة الوزارية، قام النبوي بعدة إجراءات سريعة تضمنت رفع ميزانية الوزارة لأكثر من ملياريّ جنيه مصريّ، وتخصيص نسبة محددة ليتم إنفاقها على إنتاج أفلام الطفل، ومراعاة قطاعات الوزارة المعنية بفنون الطفل عموماً لتحصل على أكبر دعم ممكن من تلك الميزانية.
بالإضافة إلى عدة تصريحات أدلى بها بشأن عجز جهاز السينما عن استغلال الميزانية الموجهة له لإنتاج المزيد من الأعمال الفنيّة، فلم يتم استغلال الـ 20 مليون جنيه بالكامل في العملية الإنتاجية (استخدم 12 مليوناً فقط)، موضحاً بشكل غير مباشر حال الجهاز محل الصراع بين الوزير السابق ومؤسسة الأزهر، وكأنه يريد أن يقول إن سقف الحريّة الذي أرادوا رفعه لم يسعفهم لاستغلال الميزانية كاملة لإنتاج المزيد من الأعمال.
ومن هذا الأداء خلال بداية تسلمه الوزارة، يتضح أن النبوي جاء ليصبح موظفاً، ربما أكثر نشاطاً أو وعياً بالشؤون الماليّة، ولديه معلومات وافية عن أنشطة الوزارة بالتفصيل، ولكنه لم يذكر مشروعاً واحداً في أي مجال، ولم يتحدث عن قضية حرية الفن والإبداع، حتى على سبيل طمأنة الشباب المبدعين الذين لطالما طالبوا بمزيد من الحرية في ما يقدمونه من أعمال.
 

المصالحة المؤسسيّة

تلك الجدليّة تمكّننا من تطبيق النظرية القائلة بأن من يتصدر المشهد الثقافي الرسمي، يمثل النموذج الذي تختاره الدولة للبُعد الفنّي والتثقيفي لإرادتها السياسية. ومن خلال ذلك يمكن أن نصل إلى احتماليّة واردة بأن يكون الشكل العام للثقافة المرجوّة من قبَل الدولة هي ثقافة التكنوقراط التي تقوم على جودة المنتج المقدّم قبل النظر إلى محتواه، أو بمعنى أدق، قبل النظر إلى تطوير محتواه.
أرادت القيادة السياسيّة الحاليّة أن يكون خلف عصفور رجل من داخل المؤسسة الدينية الرسميّة لكسر حالة الاحتقان بين المؤسستين، وفي الوقت نفسه أن لا تنفصل الحركة الثقافية الرسمية عن الخطاب الديني الرسمي ـ محل الجدال - والذي صرّح رئيس الجمهورية لأكثر من مرّة بوجود إرادة حقيقية لإعادة صياغته.
يمكن من هذه الزاوية رؤية الصورة الكاملة، على الأقل للمرحلة الحالية، في مجالين أصبحا متوازيين. فالدولة تريد توحيد المؤسسات، والأقوى دائماً والأكثر عناداً هو من يهيمن. ومن الواضح أن عمليّات الشد والجذب قد تم حسمها لمصلحة مؤسسة الأزهر ليبقى الوضع على ما هو عليه، ويبقى المحتوى كما هو، ولكن ربما بقدرات إداريّة أعلى، لتضمن البقاء بتلك المتلازمة (الدينية ـ الثقافية). ولكن الحسم الأخير ربما يكون هنا في يد جماعات المثقفين والفنّانين، بين احتماليّة فرض أطروحاتهم ذات السقف الأعلى من الحريّة، أو استمرار خضوعهم لقواعد اللعبة العُليا.

 

للكاتب نفسه

رياضة "قلب السترة": نموذج من مصر

مايكل عادل 2016-08-31

مالت الوجوه ألف مرّة ومرّة خلال سنوات قليلة، منذ قيام ثورة "يناير 2011". استدار البعض موجّهاً ظهره نحو أفكار تبنّاها منذ عقود، كما تخلّى الكثيرون عمّا اعتنقوا، ثم عادوا ثم...

دوائر "مالِك عدلي".. وأطفال الحديقة

مايكل عادل 2016-07-19

تستعدّ أسماء لإخباره بأن القضية قد حُكم فيها لصالح مصر، لصالح بطلان اتفاقية تسليم الجزر للمملكة، والوصول عبر الأدلة والوثائق إلى مصرية الأرض كما قال هو من قبل، ونال عقابه...