ما لا يتناوله الإعلام عن اليمن

ظل محمد يقلِّب وجوه الموتى في ثلاجات مستشفيات صنعاء لساعات قبل أن يعثر على وجه أخيه إبن الثلاث عشرة عاما بثلاجة مستشفى الكويت، ثم وبعدها بساعات، عثر على وجه أبيه في مستشفى الثورة. كان ذلك مساء الجمعة 20 آذار/ مارس الماضي. أما أخيه الآخر، فقد مرت ساعات إضافية قبل أن يعرف أنه كان يتلقى العلاج في أحد المشافي بسبب إصابته  الخطرة في الانفجار بأحد جوامع صنعاء أثناء صلاة الجمعة الذي أودى بوالده
2015-04-12

صادق عبد الحق

كاتب من اليمن


شارك

ظل محمد يقلِّب وجوه الموتى في ثلاجات مستشفيات صنعاء لساعات قبل أن يعثر على وجه أخيه إبن الثلاث عشرة عاما بثلاجة مستشفى الكويت، ثم وبعدها بساعات، عثر على وجه أبيه في مستشفى الثورة. كان ذلك مساء الجمعة 20 آذار/ مارس الماضي. أما أخيه الآخر، فقد مرت ساعات إضافية قبل أن يعرف أنه كان يتلقى العلاج في أحد المشافي بسبب إصابته  الخطرة في الانفجار بأحد جوامع صنعاء أثناء صلاة الجمعة الذي أودى بوالده وشقيقه الأصغر. وقد عانى أكثر من 140 جريحا جراء الحادث نفسه في مستشفيات صنعاء، العاجزة عن تقديم خدمات طبية مناسبة ولو بحدها الأدنى. ويلجأ آلاف اليمنيين كل عام للسفر إلى الخارج لتلقي العلاج.
لكن تلك لم تكن قصة جديرة باهتمام وسائل الإعلام. ما اهتم به مراسلو القنوات الفضائية هو توجيه أصابع الاتهام لهذا الطرف أو ذاك بالوقوف خلف الحادث الذي راح ضحيته 40 شخصاً إلى جانب والد محمد وأخيه، ومحاولة إيجاد خلفيات طائفية للمجرمين والضحايا على حد سواء. كما لم يهتم أحد لأكثر من 300 مصاب في دوامة الصراع المسلح جنوب البلاد، يقبعون حاليا في مستشفى الرازي بأبين، دون وجود الحد الأدنى من الإمكانيات لإنقاذ حياتهم... الكثيرون يهتمون بمصير المواقع التي أصيب هؤلاء فيها، ومعرفة من أصبح مسيطرا عليها من أطراف القتال. أما الناشط عاد نعمان فلم يقرأ أحد منشوره الحزين عن ذلك الطفل الذي كان يتردد عليه في المكتبة العامة يوميا، وأرداه بغمضة عين رصاص المتقاتلين في شوارع عدن.

بلاد في وضع بائس

قناة محلية وحيدة تناولت معاناة آلاف مرضى الفشل الكلوي في اليمن، وعدم تمكنهم من إجراء غسيل الكلى الضروري لبقائهم على قيد الحياة، جراء عدم صرف الحكومة للموازنة المخصصة للمستشفيات الحكومية منذ بداية العام، وهي أصلا قليلة العدد والإمكانيات. وخمس منها على وشك إيقاف خدماتها لهذا السبب (وكان هذا قبل بدء الحرب الجارية بأكثر من شهر). بالمقابل وفي أواخر مارس دعت "اللجنة الثورية" التي شكلها أنصار الله (الحوثيون) في 6 شباط/ فبراير الماضي، للتعبئة العامة في البلاد مع ما يعنيه ذلك وإن على الصعيد الاقتصادي فحسب، في بلد ارتفعت نسبة البطالة فيه إلى 60 في المئة جراء الأزمات المتوالية التي يمر بها منذ سنوات، وفي بلد يعاني فيه قرابة 15 مليونا من السكان (60 في المئة) من انعدام الأمن الغذائي، حتى قبل نشوب الحرب الحالية التي تدور على محورين، أحدهما جوي تقوده السعودية مع 9 دول أخرى بهدف إعادة السلطة التي انقلب عليها الحوثيون إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي - كما أعلن الناطق باسم التحالف - والآخر بري تخوضه جماعة أنصار الله (الحوثيون) وحلفاؤهم من الجيش للسيطرة على الجنوب بدعوى محاربة القاعدة - حسب الناطق باسم الجماعة.

لا استثناءات للموت

تعيش اليمن من دون حكومة منذ 22 كانون الثاني/يناير الماضي، بعد تقديم حكومة خالد بحاح استقالتها احتجاجا على قيام الحوثيين بالسيطرة على دار الرئاسة، كأمر واقع. وفي الساعات الأولى من يوم 26 آذار/ مارس الماضي، استيقظ سكان صنعاء على وقع ضربات طائرات اف16 لها ومدن أخرى، لكن ذلك لم يفلح في كبح جماح الحوثيين. وسقط في الجبهتين أكثر من 519 قتيلا و مئات الجرحى معظمهم من المدنيين، وتم تدمير معسكرات ومصانع وطرقات.. اليمن في أمس الحاجة إليها. ومن لم يمت في القتال يسقط في الضربات الخاطئة والرصاص الطائش والراجع الذي تخلفه المضادات الجوية. 
وبينما نزح الآلاف من صنعاء نتيجة القصف الجوي، نزحت أكثر من 800 أسرة من عدن ولحج نتيجة قصف الحوثيين لهما ومقاومة اللجان الشعبية التابعة لهادي والحراك الجنوبي، إلى جانب 800 ألف نازح في مناطق أخرى نتيجة الحروب الدائرة منذ سنوات. وفي بلد يعيش أكثر من نصف سكانه على دولار واحد أو أقل يوميا، فقد الآلاف عملهم نتيجة هذا الصراع وآخر موجة منهم كانت لموظفي الشركات النفطية والمنظمات التي غادرت البلاد، بما فيها الأمم المتحدة .

خدمات شبه معدومة

يحصل سكان صنعاء على أقل من 4 ساعات يوميا من الكهرباء، ويقوم معظمهم بشراء المياه من سيارات خاصة للانقطاع المتكرر لمشروع المياه الحكومية، بينما فقدت محطة كهرباء عدن أكثر من نصف قدرتها نتيجة الحرب هناك، مع انقطاع تام للمياه عن سكانها (قرابة مليون نسمة). وتكاد الخدمات الصحية تقتصر حاليا على ضحايا الحرب وبأدنى الإمكانيات وخاصة في عدن. وهناك أكثر من 5 آلاف يمني عالقون في مطارات العالم مع توقف الملاحة الجوية من وإلى اليمن منذ ثلاثة اسابيع، وأغلب هؤلاء مرضى سافروا لتلقي العلاج وليس للسياحة أو التجارة التي تشهد جمودا تاما. وهناك مئات الآلاف من طلاب المدارس لا يذهبون للدراسة التي توقفت خلال الفترة نفسها ولم تزل. وغادر كثير من الطلاب وأسرهم أماكن الصراع إلى مدن وقرى أكثر أمنا، حيث اضطر كثيرون منهم لبيع أثاث منازلهم لتوفير تكاليف النزوح والفرار من الموت.
طابور السيارات الذي ينتظر الحصول على وقود يمتد قرابة 5 كلم. أما كيس القمح وزن 50 كلغ فارتفع سعره في بعض المناطق إلى أكثر من الضعف خلال أيام (مما يعادل 20 دولار الى 45 دولار) مع العلم أن اليمنيين يحصلون على 85 في المئة من حاجتهم من القمح من الاستيراد من الخارج. وتوقفت مشاريع أغلب المنظمات المدنية المحلية نتيجة توقيف المانحين الدوليين لدعمهم المالي.  
وكراهية مؤسسة

ومع كل هذا، هناك أمور أشد خطورة على المدى المتوسط والبعيد تتمثل في شحنة الكراهية المنظمة على أساس طائفي ومناطقي التي تشهدها اليمن. فإذا كان مصطلح "شمالي/جنوبي" قد ظهر منذ سنوات، فإن مصطلح "سني/شيعي" لا زال طارئا لكنه يترسخ يوميا بفعل تفسير سلوكيات جماعات ضد أخرى بدوافع طائفية، وتحشيد قبائل للعمل المسلح بناء على هذه المعطيات التي تغذيها أطراف إقليمية ودولية إعلاميا، بالدعم المالي والسياسي لأطراف محلية. ويساعد على تحول هذه الأفكار إلى عقيدة قتال، الانتشار المرعب للسلاح في بلد فيه أكثر من ضعف عدد سكانه من قطع السلاح. فبعيدا عن السلاح الذي توزعه أطراف النزاع على أنصارها، تمَّ وبشكل غير مسبوق نهب كثير من المعسكرات ومخازن السلاح خلال الأسابيع الأخيرة. وحسب صحيفة "الشارع" المحلية، تم نهب 450 ألف قطعة سلاح من مخازن الجيش في جبل حديد بعدن بعد فرار حاميته، ويتم بيع الكلاشينكوف في شوارع عدن، بسعر يتراوح بين 100-250 دولارا، بعد أن كانت قيمته تصل إلى 2000 دولار في الأوقات السابقة.
ربما كانت المعاناة التي يتكبدها اليمنيون اليوم متوقعة، فالمقدمات التي شهدتها البلاد خلال نصف العقد الأخير من الصراع اوحت بها، كما ثلاثة عقود من سوء الإدارة. وهي تنذر بالمزيد من الموت قتلا وجوعا إن استمرت أطراف العمل السياسي المدنية والمسلحة في نهجها القائم، واستمرت الأطراف الإقليمية والدولية بالتدخل عبر القصف والحرب - مهما كانت المبررات والدوافع..  وذلك بدلا من العمل على خلق بيئة حوار سياسي جاد يُخرج البلاد من أزماتها وحروبها، وهي آخر ما يحتاجه بلد منهك اقتصاديا ومضطرب أمنيا.. ومؤسساته، الهشة أصلا، دمرت أو فككت.

 

 

مقالات من اليمن

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...