تبتسم لوجهها في انعكاس المرآة، تفرد جدائلها وتسرّح عنها تعب الأيام. في عمق الصورة تشع ألوان جسدها من مواسم الصبا حتى حصاد التعب، تتفحص ثناياه، ثنية ثنية، تطمئن إلى تقاسيم أنوثته، التي ورثتها عن أمها وجدتها ونساء عائلتها الأخريات اللواتي اشتهرن بمقارعة علامات التقدم في العمر، فلم تقرع الشيخوخة أبوابهن. تدندن، منتصرة على العمر والتعب والحرب، أعز الأغاني على قلبها: "جي مالي والي".
"الفاتية" التي حملتها في ذلك اليوم، على طريق الارتحال من العمارة إلى البصرة، هي صندوقها الأسود الذي تختزن فيه ذكرياتها وحليها وحاجياتها الصغيرة العزيزة التي تحرص يومياً على تفقدها وحمايتها.
تشد العَصّابة حول رأسها، وتبسط أطراف "شيلتها" على جبينها، وتلتحف عباءتها السوداء، فتبدو كنخلة تنامت سعفها وتطاولت حتى غطّت الجذع كما الرأس بالخضرة والثمار. تعقد حاجبيها على جبينها اللجين تحضراً لمعارك الصباح.
أم أحمد امرأة عراقية، وذلك يعادل الصبر والاعتياد على الفاقة، وكظم الغيظ، وتحمل الضيم. ودّعت زوجها مرغمة، متشائمة، يوم استدعوه لمعركة أم قصر في 2003 بدايات الاحتلال الأميركي للعراق، فعاد نعشاً ملفوفاً بالعلم العراقي. انتهت الحرب بالخسارة مثلما تنتهي حروب هذه البلاد دائما. سقط أبو أحمد شهيداً، كما سقطت النجوم من وسط علم بلاده، ثم لحق به أحمد وحيدها، بعد خمس سنوات، مقتولا في حرب جانبية لا تعرف أم أحمد اسمها ولا أسبابها. كل ما تعرفه أنها بعدهما، أصبحت مثل العراق متشظية، لكنها لم تجزع أو تستكين، بل لملمت جراحها وتعالت على جور الزمان والمكان، ورتقت ما تبقى في جعبتها من حب للحياة وعزيمة، وتجاسرت كما قريناتها فاقتطعت لها حيّزاً في السوق تبيع، تفاصل وتجادل، لتسد جوع أربعة بطون.
"متعذبة بدنياي يا بابا، جي مالي والي" هو الموال الذي لا بد أن يسمعه العابر نحو سوق السمّاكة في البصرة القديمة، فيدرك أنه أصبح على مقربة من ركن أم أحمد في قلب السوق، تختصر به أم أحمد عمراً من العتب والحسرة والألم لفراق أحمد وأبيه، تبثهما عبره شوقها وشكواها من جور الحياة وناسها، من تعب الجري اليومي خلف اللقمة الحلال، ووقاحة المتطفلين حول منزل تسكنه خمس إناث.
في السوق، تتحول أم أحمد ذئبة حتى لا يلتهمها الذئاب، تعاند حجي محمد الذي يكرر عادة تكويم فضلات الذبيحة أمام ركنها، فتشمر أكمامها، وتربط عباءتها حول خصرها، وتخرج عليه صارخة بأعلى صوتها، ترفع سبابتها وتهدد بالفصل (حكم عشائري)، تُخرّس المتطفلين أولا، وتبْعدهم عن المكان، ثم ترميه بعبارات السخرية من ضخامة رأسه وكرشه المنتفخ، فيهددها بشمر غترته وبعض الوعيد الذي لا تهابه، هي "العمايرشية" التي لا ينال من كرامتها موت ولا حياة، فيستكين الحجي ويتراجع ويرفع أكوامه واعداً ألاّ يكرر فعلته.
كل الأيام سواسية عند أم أحمد. اليوم مثل البارحة مثل الغد، ما دام حبل التعب لا ينقطع، فلا ميزة لنهار عن آخر. عندها، لا يقتصر تقليد "أم الحلس" و "أم الوسخ" على الأيام السابقة للعيد، فهي تحرص على غسل وكنس ركنها يوميا، قبل المباشرة بتحضير الوجبات للزبائن. تفرم البصل والبندورة والفلفل والثوم وتتفقد مخزون الملح والكركم والكاري والدارسين (القرفة) ثم تتفرغ لتجهيز العجين لخبز السَيّاح. تجمع دقيق الشلب (الرز) في آنية وتعجنه ثم تسكبه بيسراها على الصاج المدور، أما يمناها فتتفرغ لتحضير المخلمة (البيض والبصل والبندورة) أو الحميسة (البندورة المقلية) أو المحروق صبْعه (حساء الخبز والخضار). وجبات متواضعة اعتاد العراقيون على تناولها، منذ أيام سنين الحصار حتى عهد الديموقراطية والحرية التي لم تزد أحوالهم إلا أهوالا.
تتحلق الأفواه الجائعة حول مدخل الركن، فتفرض أم أحمد على الجميع الانتظام في طابور الانتظار، وتهدد المتجاوز بحرمانه من "ماعونه". فهنا ركن أم أحمد وليس دائرة حكومية، فلا محسوبية ولا مراتبية، الجوع يساوي بين الناس، كلهم واحد في طابورها.
ترفض أم أحمد توسلات بناتها الأربع لمساعدتها في عملها، كما اعتادت رفض كل الخطابة الذين حلوا خطّارا (ضيوفا) على ديارها لطلب إحدى بناتها، وإن كانوا من أعمامها (عشيرتها). ورغم ما يتطلبه عملها من تعب، تصر أم أحمد الأمية على أن تتابع بناتها تحصيلهن العلمي، وألاّ يفكّرن بالزواج كمهرب من الجوع. زهراء تجاوزت المرحلة الثانية في إدارة الأعمال. غدير طالبة متميزة في كلية الاقتصاد، ويوم حازت شهادة تقدير، هلهلت (زغردت) لها أم أحمد حتى جف لسانها، وذبحت، ووزعت "عقيقة" على فقراء الحي. التوأمان بنين وفاطمة آخر العنقود، الشبه بينهما هائل، لكن لكل منهما شخصية مختلفة تماما عن الأخرى، فاطمة مغامرة "نَغلة" كما تلقبها أمها، أحلامها أكبر من أحلام شخص لم ترَ عيناه أفقا أبعد من البصرة. بنين تذكرها بحبيب قلبها وأنيس عمرها أبو أحمد، أكثر بناتها شبهاً بوالدهن، حنونة مثله، لا تنام إلا بعد أن ترفع صورته عن الحائط تقبلها وتعيدها إلى مكانها.
تشرح أم أحمد كل هذا، وتطفر من عينيها دمعتان حارقتان كشمس هذه المدينة وعتماتها، وتدمدم.. آخر مرة رأيته فيها، كان يرتدي بدلة كاكية، ويحمل بندقية لا يعرف استعمالها، هو الفلاح الذي لم يتقن إلا لغة الزرع والري والحفر في التراب، نام تحت التراب باكراً، وتركني لبرد فراشي وأيامي.
مواضيع
لا ينال من كرامتها موت ولا حياة
مقالات من البصرة
"شنكَال"؟
لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...
سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"
لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...
بغداد وأشباحٌ أخرى
عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.
للكاتب نفسه
مراثي المدن
أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...
عمارة كروغسون... فلينسبرغ
أكمل كل منّا ذكرياته، متنقلين ما بين مساقط رؤوسنا وأفئدتنا، شمال الجليل وجنوبه. هو يحدثني عن شاطئ حيفا وحي الألمانية، والمعارك اليومية ضد الاحتلال والماشتاب والمستعربين والمتعبرنين والتهويد والعنصرية، وأنا...
يسقط كل شيء
يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه: يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية...