لطالما كانت أكبر مخاوف المملكة العربية السعودية قيام حكم ديموقراطي عادل في الجارة اليمنية، مما سينعكس إيجاباً على اقتصاد هذه الدولة الثرية بمخزونها الثقافي والبشري والطبيعي، وسيضر بالدور المحوري للمملكة في الخليج العربي والعمق الإسلامي والدولي. هي التي أدخلت إلى اليمن ما عرف بـ "جامعة الإيمان" والداعية المتطرف الزنداني، وتغذي بالمال والمقاتلين تنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، ودعمت غزو الرئيس السابق صالح لجنوب اليمن للقضاء على الحكم الاشتراكي في 1994، وخاضت معه حروب صعدة الست على الحوثيين، إضافة الى التدخل السياسي عبر آل الأحمر و "التجمع اليمني للإصلاح" أي الإخوان المسلمين وضمان ولاء القبائل عبر شراء ذمم زعمائها.
بعد انقلاب الحوثيين الميليشياوي وعودة علي عبد الله صالح إلى المشهد السياسي والعسكري، تدخلت السعودية لحماية ما أسمته شرعية هادي. واليوم تستهدف "عاصفة الحزم" المرافق الحيوية والبنية التحتية والمعامل في اليمن لتعيده "20 عاماً إلى الوراء" تجذيراً لتبعيته الاقتصادية والسياسية. فبعد تدمير المطارات العسكرية والمدنية تم تدمير مصنع الوطنية للاسمنت في محافظة لحج ثم قصف مصنع يماني للزبادي في الحديدة.
مقابل هذا العدوان الجوي تتقدم ميليشيات الحوثيين باتجاه مدينة عدن المحاصرة، مدعومة بدبابات وقوات علي عبد الله صالح، وتخوض معارك عنيفة مع اللجان الشعبية وقد برز إسم اللواء ضبعان التابع لصالح بعد مجازر لحج والضالع وجبل حديد ومعركة خورمكسر. وتتهافت الأخبار والتقارير عن شح في المواد الغذائية والادوية، خاصة بعد منع دخول الصليب الأحمر الدولي الى مناطق الاشتباك، وعن تعرض البيوت والادارات العامة للنهب والسلب واستخدام المدنيين كدروع بشرية.
اما صنعاء التي ما فتئ أهلها يطالبون بنقل المعسكرات الى خارجها، فهي تدك يومياً من قبل قوات التحالف التي قصفت مخيما للنازحين في المزرق ذهب ضحيته 45 نازحا، علماً انه في اليمن آلاف من النازحين نتيجة حروب سبقت "عاصفة الحزم"، في حين يتمركز المقاتلون بدفاعاتهم البدائية على سطوح المنازل معرِضين أهلها للخطر بحجة الدفاع عنهم. أما على الحدود الشمالية، وتحديداً في محافظة صعدة، فتعتيم إعلامي غريب في ظل توافد الأخبار عن مواجهات واستهداف للمدنيين العزل من قبل الجيش السعودي المرابض على الحدود.
المتابع للشأن اليمني يدرك ان عمق الأزمة يمتد أجيالاً لا أشهراً، وان المستجد الوحيد اليوم هو بروز المعطى الإيراني في الأزمة الحالية. المسؤول بالدرجة الاولى عن هذه الفوضى العبثية هو أولاً الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي كوّن وسلّح وحرّك عبر سِني حكمه ميليشيات اليمن، تارة لابتزاز واشنطن في حربه المزعومة مع الإرهاب، أو لضرب الزيدية بالسلفية وبالعكس تارةً اخرى، ووظف الاسلام السياسي لضرب الجنوب بحجة محاربة الماركسية. واليوم ينهك اليمن بحرب عبثية يتقاتل فقراء واطفال صعدة مع باقي إخوانهم اليمنيين المظلومين على فتات دولة.
ويتحمل كل من المجتمع الدولي والامم المتحدة مسؤوليتهما أيضاً، وبشكل خاص مبعوث الامم المتحدة جمال بن عمر، الذي أسهم هو والنخبة السياسية اليمنية بإجهاض المخاض الثوري عام 2011، وما تلاه من حوار وطني كان أشبه بمسرحية تتقاسمها أحزاب اختارت ألا تمثل طموح الشعب اليمني الذي استبدلته بإسقاطات البرامج الدولية وسطوة البنك الدولي على السياسة والاقتصاد اليمنيين.
وتجاهل الكل، من الداخل والخارج، للتحذيرات من التشظي والتسلح وغياب الهوية الوطنية الجامعة والبحث عن الحلول الآنية، كان من ابرز تداعياته الانقلاب الميليشيوي الذي حول الحوثيين من جماعة تتشارك الظلم وإخوانها اليمنيين إلى جماعة عصبوية عنفية حاصرت مؤسسات الدولة وتنهك ما تبقى من المؤسسة الأمنية.
أمام هول هذا المشهد اليمني المفتوح على احتمالات خطيرة، وبعيداً عن شاشات التلفزة وأروقة السياسة والحروب بالوكالة، يوجد في اليمن شعب تلاعب الخراب بأحلامه وطموحه وثورته، وأصوات يمنية حقيقية وعادية تطالب اليوم بوقف هذا الاقتتال والتدمير المنهجي للمؤسسات المؤسِس لشرخ اجتماعي وأحقاد شخصية وعامة، ستنفجر لاحقاً على شكل حروب ومواجهات مسلحة، حتى بعد عقد التسويات السياسية.. فهذه الأخيرة لا تعاين الشرخ والحزن والغضب الذي سيلازم النفوس في ظل غياب عدالة انتقالية.