يرتاد حوش بيتي في البصرة عدد من البزازين (قطط باللهجة العراقية) الصغيرة، تلعب وتلهو تحت نظر أمها، تتدثر بظلال شجرة اليوكالبتوس من شمس البصرة الحارقة. تستيقظ البزازين مع بزوغ الفجر، تقفز، تموء وتتعارك وتقلق سكينة أهل الحيّ. تتنقل برشاقة فوق أسوار البيوت، ساخرة ممن رفعوها، كأنها تقول لهم إن بناء الأسوار لا يمنح القلقين الأمان، بل يقيد حركتهم، نظرهم وسمعهم.. فالبيوت المسورة تشبه السجون، وهيهات أن يشعر السجين بالأمان والسكينة.
عبثاً أحاول كل يوم أن أتجنّب غزو البزازين للمطبخ، تنتشر في مساحته الضيقة، تقضم بسرعة كل ما يقع تحت نظرها وأنفها، أو تعيث خراباً في حاوية النفايات أمام المنزل. وتذهب توسلاتي في إقناع عاملة النظافة العراقية بطردها سدى. تأمرني، وأنا أحمل عصاي وأهم بطردها، بوجوب التعامل مع كل المخلوقات المتطفلة برأفة.
في البصرة، لا تبصر ظلاً لبيت. البيوت كلها مختبئة خلف الأسوار، ظلالها تنعكس على نفسها، لا تعرف تمددا ولا تداخلا. يروي البصراويون أن مدينتهم كانت أشبه براحة الكف، مساحة مفتوحة على التعارف والتواصل والتلاقي، لكن الحروب والفتن قطّعت أوصالها، قسمتها إلى غيتوات طائفية، ووقعت ضحية للعنف والتعصب والأحقاد والديكتاتوريات المستجدة. حتى في أوقات الاستقرار النسبي لا تعدو كونها مفترقات طرق لأصحاب السيطرة ومسببي الفقر والزحمة والخلافات والفتن.
أحاديث البصراويين عن أيام الرحمة والألفة والسلم يشوبها خجل إنساني، وغالبا ما تكون مجبولة بالحزن. الحزن العراقي مقيم، بينما الفرح عابر سبيل، هكذا تتم إجابة السائلين عن أسباب هذا الشجن المعشعش في أصواتهم، وذكرياتهم، في أغانيهم وقصائدهم ومواويلهم الشعبية.
وذاكرة البصراوي التصويرية مفتوحة دائما على مشاهد الدماء. صور الشهداء منتشرة في كل مكان، ولكل بصراوي حكاية عن قريب أو صديق قضى تحت التعذيب أو في انفجار أو مواجهة مسلحة أو تهجير، أو عثر عليه بعد سنوات طويلة رميما في مقبرة جماعية.
الهموم الفردية عند البصراوي لا تنفصل عن الهم الجماعي. ففي الوقت الذي يبحث الواحد منهم عن خلاصه الفردي، لا يهمل البحث عن وطن، عن دولة بمقدورها أن تبقي حضنها واسعاً لاحتواء التنوع الديني والاثني والقومي، ومحاسبة وإقصاء من استوطن المنابر، مروجاً للتقسيم والفصل والقطع مع الماضي والحاضر والمستقبل.
الحركة في البصرة بركة، رغم الجمود المخيّم على فضاءاتها. فما تبقّى من المقاهي الشعبية ما زال متمسكا بأصالته كنوع من التعويض عن ضياع هوية المدينة، يوم كانت محفلا ثقافيا وعلمياً وتاريخياً. المقاهي مجالس للنقاش والحوار، يرتادها مثقفون وكتّاب وشعراء وصحافيون، وآخرون يُحسنون الاستماع. وعلى وقع قرقعة استكانات الشاي المهدّر، المشبع بالشَكَر (السكر) والحامض (النومي بصرة)، يتنافس الشعراء على إلقاء قصائد شعبية، من أبوذي دارمي، وزهيري، وعاميات مظفر النواب وإيهاب المالكي. ويتحول كل مقهى إلى نموذج مصغّر عن ساحة القشلة البغدادية، التي يؤمها العراقيون كل يوم جمعة، بعد جولة في شارع المتنبي وسوق السراي ومقهى الشاهبندر.
في البصرة، الصحراء الوحيدة في العراق التي تغسل قدميها المياهُ المالحة، لا تحتاج إلى الكثير من الملح لتصبح واحدا من أهلها. العشرة هنا غير مشروطة إلا بالطيبة، وبعض الحكايات التي تكور كتلة قاسية في أقصى حلقك، هي الغصة.
في البصرة التي يمشي فيها الجوع من بيت إلى بيت، حتى "حين يعشب الثرى"، لا يبخل أهلها في تقاسم القليل مما يملكونه من طعام معك، مع ابن السبيل، وحتى مع البزازين.
ما بين نظرة العاملة العراقية إلى البزازين المتحلقة في المطبخ، مرددة بانفعال على مسمعي قول حبوبتها (جدتها) "اللي شاف ضيم الحصار ما يحرم مخلوق من الزاد"، ومحاولتي التخلص من تطفلها اليومي على مطبخي بالعصا، وقد استملك الرعب أواصر البزازين.. يتسع المشهد الانساني فجأة وتتكثف تفاصيله.
نساء يبكين، أطفال مذعورون، وجيوش تحمل العصي وتنهال بها على ما تبقى من أمان في نفوسهم. أوطان تتحول إلى ساحات حرب وشعوب ترتحل من شتات إلى آخر، من موت إلى موت، من ديكتاتورية وطنية أو قومية إلى أخرى دينية متطرفة. يتسع المشهد أكثر فأكثر. ثقب أسود يفغر فاه، يبتلع كل شيء، تنسل منه رايات وملالي وصلبان وبزات عسكرية وسيجار ونفط وفندق بخمسة نجوم ومراكز دراسات وخبراء ومؤتمرات ومفاوضات.
أقف في المطبخ متجمدا، ألقي عصاي جانبا، أفتح بابه المطل على الحديقة، أنادي على البزازين التي فرت مذعورة. تدخل، تأكل وتشرب، تبعثر القمامة، ثم تنسحب بهدوء. أما أنا فأتمدد على الأريكة، أحاول أن أحلم ببيت وحياة عادية ووطن نعيش فيه مثل هذه البزازين، بكثير من الألفة والسلام، وبلا عصي ولا جوع ولا حصار!