أم الخصيب

تستيقظ مع أولى شذرات الغبش، وبكثير من الحب والحرص تمد يد العون لحبوبتها (اسم الجدة عند العراقيين) وهي تعد الريوق (الفطور) للجهّال (للصغار). القيمر(القشطة) الطازج يغلي على نار حانية في الجدر (القدر)، الكاهي (نوع من المعجنات العراقية) يَشرب الشيرة (القطر) بتأن، واستكانة الشاي المشبعة بالسكر تنفث لهيب حرارتها. يجتمع أهل البيت على السماط المفروش في الحوش تحت أفياء شجرة السدرة، وتتنافس الأيادي على
2015-08-06

عاصم ترحيني

كاتب من لبنان


شارك
جسر جيكور في أبي الخصيب/العراق

تستيقظ مع أولى شذرات الغبش، وبكثير من الحب والحرص تمد يد العون لحبوبتها (اسم الجدة عند العراقيين) وهي تعد الريوق (الفطور) للجهّال (للصغار). القيمر(القشطة) الطازج يغلي على نار حانية في الجدر (القدر)، الكاهي (نوع من المعجنات العراقية) يَشرب الشيرة (القطر) بتأن، واستكانة الشاي المشبعة بالسكر تنفث لهيب حرارتها. يجتمع أهل البيت على السماط المفروش في الحوش تحت أفياء شجرة السدرة، وتتنافس الأيادي على اللقمة الأكبر. قد يقاطع الفطور أحد الجيرة للحظات فيجبره الجمع على الانضمام حتى قبل أن يُفصح عن حاجته.
شُح القوت في بيت ضج بساكنيه أجبرها على العمل، تمضي على ظهر الستوتة (عربة خفيفة تشبه التوك توك) إلى قلب البصرة النابض، "العشار"، تثبّت العباءة على رأسها وتوري ظهرها لمنزل طيني صغير تكدست فيه أفواه جائعة.
على طريق الارتحال اليومي، يضيق الأفق وتتبدل المعالم، تُودِّع حقول النخيل والجواميس المسترخية قرب المياه إلى عالم مزدحم بالطابوك (الحجر القرميدي الأحمر أو الأصفر الذي يستخدم في البناء) والسيارات والباعة والعمال. تنتقي حاجيات البيت بحرص، وتنهرالبائع المتذاكي وهو يدس حبة "الطماطة" المهترئة في العَلاكَة (الكيس) بعد أن رفض السماح لها بانتقائها كعرف متَّبع في سوق الخضارين، وتستسلم لتوسلات الصبي فتسلّمه مشترياتها لينقلها بالعربانة (عربة).
تلقي التحية على العجوز الشمّرية القادمة من الزبير والتي افترشت الركن في سوق السمك، وتعاين سمكة البني المعروضة والتي ستشويها اليوم للغداء. تُراجع اللائحة وتمضي لسوق العطارين لتبتاع حاجيات "المسكَوف": بعض من اللمندوزي (حامض الليمون) والتمر هندي وعدة مرق الطرشانة (المشمش المجفف) والعالوكَة (الخوخ الأسود المجفف) والكشمش (الزبيب) واللوز. يَسُوقها السيل البشري إلى سوق المغايز، تعاين الألبسة المعروضة ولا تشتهي، فهي وَضّبت أحلامها في علب النسيان منذ زمن. تكتفي بكأس عصير رمان بارد وقطعة صغيرة من الخرّيط (حلوى موسمية من منطقة الأهوار تستخرج من قصب البردي) التي رفض البائع أخذ ثمنها.
الفتاة السمراء لم تنعم حتى بطفولة عادية كأترابها، لم تله على ضفاف النهر الهادر وسط حقول النخيل، لم تبلل عطشها بحلاوة نهر الخوز والعصيدة التي تشتهر بها أبو الخصيب. بل اقتلعها القدر وفقر الحال عنوة من كرسي الدراسة ليرميها في حضن رجل يكبرها بعقود. لكنها، كما قليل من النساء اللواتي ولدن بأجنحة كواسر، كسرت سجن الزواج المُدبَّر، وحلقت في فضاء الحرية باكراً. واليوم، ها هي تقف متعالية سامقة، مثل نخلة بَرْحية وسط اليباس والركام، تروي ذكرياتها بكثير من الغفران والكبرياء.
تمضي أوقات فراغها في مراقبة شاشة الهاتف بانتظار رسالة ما، أو تتفقد الرزنامة، تنزع أوراقها الواحدة تلو الأخرى، وتعد الأيام بلهفة. فأهل الشاب البغدادي المتطوع في الجيش الذين التقتهم في عرس أحد الأقارب، قد تقدموا لخطوبتها، وحددوا وأهلها موعد الزفاف بعد شهرين.
صبية أبي الخصيب "الشيعية" الريفية، ستتزوج الشاب البغدادي "السني"، وستنتقل من ضفاف أبي الخصيب إلى سحر بغداد وجمالها، لتجاور خصباً عراقياً آخر.
ترتسم الابتسامة على وجهها المتعب عند سؤالي عن طقوس ليلة الزواج. تفنِّد تفاصيل الحنة والفستان الأبيض المطرز، وتتفاخر بالحلي التي ابتاعتها وزوجها المستقبلي من سوق الذهب، والتي صاغها الصابئي العجوز، وفرقة الخشّابة النسائية التي ستعزف ليلة العرس.
في جعبة صديقتي الصابرة على الظلم والفاقة والإرغام الكثير من الحكايا، تتكتم عن القاسي منها، وتترك لبريق الأمل المشع من عينيها العسليتين وبشرتها السمراء المكتنزة، التي لوحتها المرارات حتى غدت حلاوات، البوح بالواعد منها.
ستتزوج صديقتي الشاب الذي اختارته واختارها، وسيولد من اجتماعهما، من اختلافهما، عراق جديد، عراق يحاول أن يبني لأجياله القادمة ذاكرة نقية، شفافة، انتفضت على الفتنة والقتل والظلم والحروب والحصار، عراق يحاول لملمة أشياعه المشتتة وأجزائه المبعثرة.
* كاتب من لبنان يعيش في البصرة ــ العراق

 

للكاتب نفسه

عمارة كروغسون... فلينسبرغ

أكمل كل منّا ذكرياته، متنقلين ما بين مساقط رؤوسنا وأفئدتنا، شمال الجليل وجنوبه. هو يحدثني عن شاطئ حيفا وحي الألمانية، والمعارك اليومية ضد الاحتلال والماشتاب والمستعربين والمتعبرنين والتهويد والعنصرية، وأنا...

يسقط كل شيء

يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه: يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية...