على طول الطريق إلى عملي في تلك المدينة الصغيرة التي تقع في جنوب محافظتي، أطالع مشهداً متكرراً صار معتاداً، ففيما نقبع في السيارة مغلِقين كل نوافذها اتقاءً لزمهرير كانون الثاني/ يناير، متدثرين بأثقل ملابسنا، تدرج على الطريق بسرعة خاطفة سيارات نصف نقل تحمل على سطحها عشرات الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السابعة والخامسة عشر. بنينٌ وبنات يجلسون متواجهين على ظهر السيارة وسورها. تأخذ أجسادهم وضع الانحناء اختصاراً لمساحة الجسد، ملتحفين بأردية بالية في مجملها، لكنهم يحرصون على تغطية رؤوسهم ووجوههم في محاولة تبدو يائسة لدفع الصقيع في تلك الساعة المبكرة. تحاول أجسادهم الغضة مقاومة اندفاع الهواء البارد إلى نحوهم، أحد أكثر المشاهد ألماً كي تبدأ بها يومك. ألمٌ لا يفارق من يرى ذلك على الرغم من توالي المشهد بشكل شبه يومي... ومعه الخجل لمن يقبع داخل السيارة ينعم بالدفء، بينما يكابد هؤلاء الأطفال هذه المعاناة الصعبة. تكون نهاية الرحلة حيث توجد تلك المزارع الشاسعة المتاخمة للظهير الصحراوي في جنوب المحافظة، تلك التي يملكها رجال أعمال فاحشو الثراء، يخرج إنتاج مزارعهم المميز للغاية كي يعرف طريقه للتصدير.
واحدةٌ من تلك السيارات في طريق آخر سقطت في العاشر من كانون الثاني/ يناير أثناء عبورها فوق معدية لاجتياز "الرَيّاح" ( فرع جانبي كبير من نهر النيل) البحيري بامتداد فرع رشيد بقرية القطا، في الجهة الفاصلة بين منطقتي منشأة القناطر بالجيزة وأشمون بالمنوفية. سقطت وهي تحمل على ظهرها 22 طفلاً يعملون في إحدى مزارع الدواجن أثناء عودتهم إلى منازلهم، فغرق 9 منهم على الفور، انتشلت جثامينهم لدفنها، واستمرت محاولات قوات الإنقاذ لانتشال جثة آخر ضحية، وهي لطفلة تدعى شروق، أفلت شمسها مبكراً للغاية. وأُنقذ الآخرون فور سقوط المعدية بواسطة الأهالي، وبعض فرق الإنقاذ التي وصلت إلى مكان الحادث.
«بِلْية»: أكثر من مليوني طفل عامل في مصر
07-01-2015
"المدارس مبتعلمش والدنيا مدرسة"!
11-06-2015
مشهد الأهالي وهم يقفون بانتظار خروج الجثث هو الهزيمة الكاملة والألم الكامل بغير نقصان. مشهد متكرر، وقد اعتاده المصريون! ألم يكن ما حدث مفاجئاً وصادماً؟ لم يكن كذلك بالقطع! فقد قالت دراسة أجرتها كلية الحقوق بالتعاون مع كلية الآداب جامعة المنوفية (1)، إن "هؤلاء الأطفال يتم استغلالهم في العمل بالمزارع حيث يشحنوا في سيارات النقل فجراً إلى المزارع بالمناطق الصحراوية التي تبعد مئات الكيلومترات عن المنوفية، مما يؤدي إلى إصابتهم بالنزلات الشعبية والأمراض الصدرية، بالإضافة إلى وقوع العشرات من الحوادث التي تتكرر شهرياً، ويروح ضحيتها المئات من الأطفال"!
وطبقاً لنتيجة مسح عمالة الأطفال الذي أجراه "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" (2) بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، رصد التقرير الظروف التي تحيط بالأطفال في أماكن عملهم، وكان أبرزها التعرض للأتربة والأدخنة والتعب الشديد. وقال الأطفال الذين تم بحثهم إن بعض المخاطر التي يتعرضون لها هي الانحناء لفترة طويلة والبرودة أو الحرارة الشديدة، فضلاً عن التعرض للمواد الخطرة كتلك الكيماوية والمبيدات والأصباغ، وعدم توافر دورة مياه والتعامل مع معدات خطرة.
مشهد الأهالي وهم يقفون بانتظار انتشال الجثث هو الهزيمة الكاملة والألم الكامل بغير نقصان. مشهد اعتاده المصريون! ألم يكن ما حدث مفاجئاً وصادماً؟ لم يكن كذلك بالقطع! فهو يتكرر كل يوم تقريباً.
بلغ عدد هؤلاء الأطفال طبقاً للإحصائيات الرسمية لـ"الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" و"البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال"، 1.6 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين الـ 12 و17 عاماً يمثلون 9.3 في المئة من الأطفال في مصر، "أي طفل من كل 10 أطفال" مدفوع إلى العمل (3)، وهم تضاعفوا في السنوات الأخيرة نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، والذي فاقمته جائحة كورونا التي تركت الملايين من الأسر المصرية تحت مقصلة الفقر.
والمثير للألم بشكل فاجع أن عمل هؤلاء الأطفال لا يؤدي إلى دفع الفقر عن تلك الأسر بقدر ما يفاقمه، لأن تسرّب أغلب هؤلاء الأطفال من مراحل التعليم المختلفة يهدر فرصهم في تلقي تعليم جيد، يؤهلهم للعمل بشكل لائق وكريم فيما بعد.
يشير الرئيس السابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أبو بكر الجندي، أن نسبة الإناث من الأطفال العاملين تصل إلى 21 في المئة من إجمالي عمالة الأطفال، لافتاً إلى تركز تلك العمالة في ريف الوجه القبلي بنسبة 42.7 في المئة، بينما تصل النسبة في ريف الوجه البحري إلى 40.8 في المئة. كما أشار إلى أن 87.4 في المئة من الأطفال العاملين يمنحون أجورهم لأولياء أمورهم (4).
في حالة كتلك هل سيكون من الملائم أن نذكر أن المادة (80) من الدستور المصري تنص على "التزام الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري، وكذلك المادة (89) التي تحظّر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للإنسان، وغيرها من أشكال الاتجار بالبشر.
بلغ عدد الأطفال - العمال طبقاً للإحصائيات الرسمية لـ"الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" و"البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال"، 1.6 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين الـ 12 و17 عاماً، يمثلون 9.3 في المئة من الأطفال في مصر، "أي طفل من كل 10 أطفال" مدفوع إلى العمل، وهم تضاعفوا في السنوات الأخيرة نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، والذي فاقمته جائحة كورونا التي تركت الملايين من الأسر المصرية تحت مقصلة الفقر.
قبل هذا الحادث بعام تقريباً، خرج أحد المذيعين (5) في التلفزيون المصري كي يغسل يد الدولة من دم هؤلاء الأطفال، ويلقي كرة النار في وجوه الأهالي، فقال "يعني للأسف الشديد وأنا بقول هذا الكلام ومتزعلوش مني. في الريف وفي الصعيد فيه نسبة كبيرة جداً بيخلفوا أولاد وبنات مش عشان يصرفوا عليهم ولا عشان يدخلوهم التعليم ويتعلموا ويكبروا ويتوظفوا أو يبقى عندهم فرص عمل..لا.. ده بيخلفوهم عشان العيال دي هي اللي تصرف على الأب والأم".
قامت الدنيا ساعتها ولم تقعد (6)، واضطرت السلطات التي يتكلم المذيع باسمها أن توقفه عن العمل... ذرّاً للرماد في العيون .
ربما يكون المذيع ساعتها قد قال نصف الحقيقة، لكنه كشأن كل الحوار، أخفى الجزء الأهم من القصة، وتعمّد ألا يسأل السؤال الصحيح وهو: ما الذي يضطر هؤلاء الآباء إلى الدفع بأبنائهم إلى شفير الهاوية، والموافقة على عملهم في تلك الظروف المأساوية، وحرمانهم من فرصهم المستحقة في التعليم والحياة؟
هكذا أفرغت المدينة سذاجتها في وجه أهل الريف
07-10-2021
والسؤال الأكثر ألماً: كيف تدهورت أحوال الفلاحين المصريين إلى هذا الحد المحزن؟ للدرجة التي تجعلنا نقارن بين ما كان عليه الفلاح في منتصف خمسينيات القرن الماضي عندما استطاع بفضل ما تملّكه من أفدنة قليلة أن يتمكن من تعليم أولاده وإلحاقهم بالجامعات، التي كانت قبل ذلك مقتصرةً على القادرين من أبناء الميسورين، وأن تتغير بذا خريطة القرية المصرية ووضعها الاجتماعي والثقافي، حتى إننا قلما نجد عالماً فذّاً، أو أديباً موسوعياً، أو ناقداً كبيراً إلا وقد خرج من تلك البيئة ولا يزال ممتناً لها حتى الآن. أن نقارن بين كل هذا، وبين ما آل إليه وضع الفلاح والقرية بعد أن غسلت الدولة يدها من كل شيء، وتركته يكابد عوزه وفقره وحده... ويدفن أولاده وحده.
1) نشرت جريدة الأهرام مقتطفات منها في عددها الصادر في 12 كانون الثاني/ ديسمبر 2015
2) "المصري اليوم" 14 / 7 / 2011 : https://bit.ly/3FHDZh6
3) "البوابة" 11 حزيران/ يونيو 2021
4) "المصري اليوم" المرجع المذكور سابقاً
5) برنامج "آخر النهار"، قناة النهار، المذيع تامر أمين
6) https://bit.ly/3A7iYvr