في شهر أيلول/ سبتمبر العام الماضي دخل شاب إسرائيلي الى قطاع غزّة قادماً من مدينة عسقلان القريبة حيث تسكن عائلته في الأبنية المتداعية المخصصة لفقراء اليهود، وتحديدا منهم الفلاشا أو السود الإثيوبيين. تجاوز أبراهام منغيستو الأسلاك الشائكة المجهزة بأحدث التقنيات لإحكام الحصار على القطاع ومنها كاميرات مراقبة سجلت مرور الشاب. بقيت القصّة محجوبة عن الإعلام الإسرائيلي عشرة أشهر حتى برز مؤخراً خبر اختفاء إسرائيليَّيْن في غزة أحدهما من أصول عربية بدوية بقي اسمه مجهولاً بينما الآخر إثيوبي. سارع نتنياهو فور انتشار قصة أبراهام في الصحف إلى اتّهام حماس بالوقوف وراء حادثة "الاختطاف" بينما اعتبر الرئيس رؤوفين ريفلين الأمر حالةً إنسانيّة وتمنى على من يحتجزون الشاب أن يعاملوه معاملة لائقة وأن يعيدوه سالماً، لأنه "لا أهمية استراتيجية أو تكتيكية له بنظر إسرائيل": أسود وفقير، وليس جندياً، وفوق ذلك يعاني من اضطرابات نفسية! ردود الأفعال الاضطرارية هذه تبدو لينة، نبرتها لا تشبه أبداً تلك التهديديّة التي استخدمت في حالة كلّ من جلعاد شاليط وشاؤول أرون مثلاً. بل قال المسؤولون الإسرائيليون تبريرا لسكوتهم المديد، أو عدم اكتراثهم، إن منغيستو والآخر البدوي، دخلا غزّة بإرادتهما..
إسرائيل التي كانت في الأصل مجرد "فكرة"، كان واحداً من شروط تحقّقها إقناع يهود العالم بأنّ أرض الميعاد تنتظرهم ليعودوا إليها ويبنوا جنتهم على الأرض.. لكلّ من الكتل اليهودية التي انجذبت الى الفكرة فاتجهت الى "أرض الميعاد"، أو اضطرت إلى الهجرة إلى إسرائيل، أحلامه وأسبابه. الاسم العبري لهذه الهجرات هو "عليا" أي الصّعود، وقد بدأت "عليا الإثيوبيين" الحقيقية متأخرة. فبعدما قررّت "وزارة الاستيعاب" الإسرائيلية عام 1973 أن لا داعي لتقديم يد العون للفلاشا لكونهم لا يمتون بأي صلة لشكل الدولة الإسرائيلية، وقف الحاخام أوفاديا يوسف في وجه هذا القرار وقاد حملة أدت في النهاية إلى جعل الحكومة تشمل يهود إثيوبيا في قانون العودة الذي يسمح لأيّ شخص يكون أحد أبويه أو أحد أجداده يهوديا أن "يعود" إلى إسرائيل. في البداية كان الفلاشا يأتون إلى إسرائيل عبر طرق التهريب التي تمر بمخيمات في السودان، لكنّ في عام 1984 قرر الإسرائيليون إطلاق حملة "عملية موسى" التي مكنت الموساد من التوصل لاتفاق مع مسؤولين سودانيين على نقل اليهود من المخيمات بالطائرات، ليصل إلى إسرائيل سبعة عشر ألفاً منهم بين عامي 1980 و1989، وفي العقد التالي تضاعف هذا العدد ليصل إلى أربعين ألفاً تقريباً. ولم يكن الدافع وراء التغيير دينيا، بل تتقاطع هذه الفترة مع قرار إسرائيلي باستقطاب كتل بشرية مع تجاوز التدقيق في "النقاء اليهودي"، حتى قيل إن الروس أغلبهم أرثوذوكس وانهم "يهود وظيفيون"...
إسرائيل على أية حال لم تكن أبداً جنة للإثيوبيين، فالتمييز ضدهم بدأ منذ وصولهم ولم يتوقف حتّى الآن. هم يعيشون في أفقر الأحياء وتبلغ نسب من هم تحت خط الفقر بينهم خمسين بالمئة بينما النسبة الوطنية العامة هي 16 في المئة تقريبا، ونسب الانتحار بينهم هي الأعلى في إسرائيل. هذه المعاناة يصوّرها فيلم "عشْ وكُنْ" للفرنسي الأرمني رادو ميهايلنيو، عبر قصّة طفلٍ إثيوبي مسيحي تدفع المجاعة أمّه إلى جعله ينضمّ إلى اليهود المهاجرين فيتلقى مساعدة من امرأة يهودية للوصول إلى إسرائيل حيث يصير اسمه شلومو وتتبناه بعد موت هذه المرأة عائلة من أصول فرنسية ليبدأ صراع الهويات الذي يتمحور حول لون بشرته أكثر من دينه. الفيلم هوليوودي ذو نهاية سعيدة، لكنّ فكرتين تردان فيه تستحقان التفكر في ضوء قصة أبراهام مغنيستو. الأولى، هي أنّ تطبيق قانون العودة على الفلاشا استثنى قبيلة منهم كانت موالية للاتحاد السوفياتي فاضطر أبناء هذه القبيلة إلى مواصلة هجرتهم عبر الأساليب غير الشرعيّة ليموت نصفهم (4000 شخص) على الطريق. ما كان اسم تلك القبيلة؟ مغنيستو. الفكرة الثانية ترد في حوار بين شلومو ورجل دين من أصول إثيوبية اسمه قس أمهرا يقود حراكاً مناهضا للتمييز العنصري ضد الفلاشا. يشكو شلومو حيرته بين انتمائه لإسرائيل وانتمائه لإثيوبيا فيجيبه القس مستعيداً قصّة التيه التوراتية بأنّ عليه انتظار أربعين عاماً حتى يصل إلى جواب.
دخول أبراهام مغنيستو إلى غزّة حدث عام 2014، أي بعد أربعين عاماً على "عملية موسى"، وقد جاء في تقرير واشنطن بوست حول المسألة أنّ حقيبة وجدت في المكان الذي دخل منه الشاب إلى غزّة، وأنّها لم تكن تحوي أيّ شيء سوى نسخة من التوراة...