جاء في تقرير صادر عن يونيسيف قبل أسبوع، أنّ مليوني طفل لن يلتحقوا بالمدارس هذا العام في العراق، وأنّ 1.2 مليون سينضمون إليهم العام المقبل، وأنّ 14 ألف معلّم عراقيّ صاروا نازحين. ما مصير هؤلاء الأطفال في الفترة الراهنة وفي المستقبل؟ الحاضر لا يبدو مبشراً، مع ما يرد من معلومات عن تجنيد داعش من جهة وقوات الحشد الشعبي من جهة أخرى لأطفالٍ في صفوفهما. الصحف العالمية تتحدّث عن أطفالٍ في عمر السادسة يلتحقون بداعش بدل أن يلتحقوا بالمدارس، وعن تجنيد ميليشيات الحشد الشعبي المتعددة لأطفالٍ تتراوح أعمارهم بين 15 و18 عاماً (على أساس أنهم "شباب"!). بالطبع لن ينضمّ مليونا طفلٍ إلى أحد طرفي الصفوف المتحاربة لكنّ الحال الذي يعيشه العراق يجعل من الصورة قاتمةً جدّاً في بلدٍ كان يخصّص 620 دولارا للتلميذ الواحد قبل اندلاع حرب الثماني سنوات مع إيران، لتصل هذه المخصّصات إلى 47 دولارا بين عامي 1985 و2003، قبل أن نصل اليوم إلى ألاّ يرد اسم العراق في المؤشرات الخاصة بمستويات التعليم في العالم.
.. استحْضَر تقرير يونيسيف أمامي محمّد والأستاذ وضّاح. فقد قضيت سنواتي الدراسية الخمس الأولى في مدرسة "الوحدة العربية" بمدينة البريقة الليبية. الوحدة العربيّة تجسّدت هناك حقّاً، فقد كان بين التلامذة، إلى جانب الليبيين، جزائريون وصوماليون وسودانيون وتونسيون وجيبوتيون. لكنّني احتجت بعض الوقت كي أعرف أنّ هناك عراقيّين أيضاً. البداية كانت مع معلّم اللغة العربيّة الأستاذ وضّاح الّذي جعلني بأسلوبه الشّيق ولفظه الجميل أحبّ اللّغة وأقترب منها أكثر، لكنّ الأستاذ لم يكن يتحدّث عن العراق وعن الحصار الذي كان على الأرجح سبب وجوده في ليبيا. معرفتي بأمر الحصار جاءت من محمّد الذي قدم مع عائلته، عام 1997 على ما أعتقد، لينضمّ إلى صفّنا ويشاركني المقعد. بدا الصّبيّ ذكيّاً وحزيناً في آن. ذكاؤه جعله يدخل على خطّ المنافسة معي ومع إيمان، السودانية، في الحصول على أعلى العلامات، أمّا حزنه فقد فهمت شيئاً منه عندما راح يتحدّث عن جنودٍ مدجّجين بالأسلحة يجوبون طرقات بغداد متفحّصين أيّ شيء يمرّون به ــ حتّى قصاصات الورق الصغيرة ــ بحثاً عن شيءٍ لم يكن من سبيلٍ لعقلينا الطفلين إلى معرفته.
.. هذا الحاضر، فماذا عن المستقبل؟ الجانب المتفائل يقول إنّ أمراً ما سيحدث ويوقف كلّ هذا الخراب، وأنّ أطفال العراق لن يتحدّثوا لزملائهم لاحقاً عن الجنود وعن أنواع الأسلحة كما كان محمّد يفعل، وأنّ ما قاله ممثل يونيسيف في العراق في تعليقه على التقرير الأخير من أنّ "الصراع في العراق يضع جيلاً كاملاً على المحكّ" لن يكون نبوءة صادقة. لكنْ؟.. سأكتفي بالجانب المتفائل.