إنها فكرة قديمة قِدَم البشر، أن تعيش في بيئة ما، ثم تجد نفسك منفياً عن ثقافتها ومطروداً من سلوكها. كان أسلافنا الأوائل حين بدأوا التفكير بصناعة تجمعاتهم، وانشأوا مفهوم القبيلة المرؤوسة من قِبل كبير شأنٍ أو جثة، وضعوا دستوراً لهذا الانتماء، مبنياً على الولاء للمجموع، المادة الأولى والأخيرة فيه: لا وجود للفرد هنا، أنتَ في القبيلة. ولا استغراب في قوانين أسلافنا عندما نقرأ أنهم كانوا إذا كَبُرَ الطفلُ عندهم واشتد عوده، يرمون به في غابةٍ موحشةٍ ومعه رمحٌ أو قوس، طالبين منه التعايش مع حقيقة الوجود بالطريقة التي يكتشفها هو دون مساعدة أحد. من ينجح في البقاء يبقى، ومن يخفق لا مكان له مع المجموع. يُطردُ أو يُنفى، فليس هناك وقتٌ ومتسعٌ للتنميةِ في قوانينِ النجاة القديمة.
رحلة التنفير المكثّفة
لم تختف سمات التنفير والاستبعاد من طبائع البشر. فعلى طول انحناء كوكب الأرض وما يضمه من بلاد، وخصوصاً بعد نشأة البلاد بصورة حديثة تحت مسمى "الدول الوطنية"، نتلمس هذه السمات من خلال ما نشاهده في أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية، بل يذهب الأمر أبعد من ذلك، السماتُ حاضرة في أستراليا وأوروبا وحتى أمريكا، - دول العالم الأول كما يُصطلح عليها في الاجتماع الجغرافي- يحدث أن نلاحظ فيها جيوباً طاردة ومستبعدة، حيث أن السياسة، كما تصنع قيم الحرية والعدالة، تأتي لتصنع قيم التنفير والطرد. لم تعد تلك البلدان كما كانت من قبل، أرض للفرص والأحلام، فسياسات الطرد والتنفير فيها تدعو بوضوح لحظر الهجرة وطرد اللاجئين وتفريق الأسر واضطهاد الآخر.
لقد نجوت!
15-07-2021
فكيف الأمر في بلدٍ كالعراق؟ سؤال يلحُّ عليَّ مذ غادرت البلاد بعد أفول "نجم تشرين" منتصف 2020. أنا، أحد المواطنين الذين عاشوا في أنظمة حكمت العراق، كانت وما زالت تدفع بكل رجالاتها وماكنات التطبيل لها، بكل منصات التبرير التي أُنفق عليها من أموال الشعب العراقي، باتجاه بث خطاب التنفير من كل شيء.
ماذا يعني أن يكون لك وطنٌ لا تملك فيه حفرةٌ تضمك؟ هذا بالضبط ما جال في خاطر آلآف الجثث العراقية قبل موتها، وهي تهمُّ بالصعود الى "قوارب الموت" التي قادتهم باغتراب كليّ لمقابر تركيا واليونان، بمنظر هو الأكثر سوريالية في القرن الواحد والعشرين.
منذ 2003 ولغاية اليوم، عشت في بلدٍ ينفّرُ أهله مرةً بحروب أهلية طاحنة تسحب من سكانها ذاكرتهم ليفرّوا إلى بلدان أخرى، ويصنعوا هناك ما يسمى بـ "الذاكرة البديلة"، ومرةً ثانية بمشهد درامي واضح، حيث تأتي يدُ السلطة، لتزرع فسائل كراهية الذاكرة برؤوس العراقيين فيكرهوا بلدهم، ويعيشوا فيه نافرين من كل شيء يذكرهم بهويتهم، ويجبرهم على البقاء فيه، حيث لا مفر.
لسان الأرقام
الحديث عن الدول المنفّرة والطاردة ليس حديثاً عاطفياً يُراد به إعلان الأسى وتسوّل التضامن من سكان العالم، إنه حديثٌ ذو مشكلة مركبة، تُفتِّت البشر حول العالم لتجعل منهم قطع متناثرة بين الجغرافيا، وتهشّم في ذات الوقت معنى أن يكون للكائن البشري ذاكرةٌ يعيش فيها ولأجلها، فيكون مثل الشبح، موجود ككلمة في اللغة، لا يمكن إدراكه بصرياً مهما حاول محضّروه استحضاره.
إنها مشكلة لا يمكن وضعها في إطار عاطفي فقط، بل يمكننا أن نكتب عنها منطلقين مما نشعر كنافرين من أوطاننا. وعندما تهدأ جذوة المشاعر هذه، ونبدأ بالتعمق فيها عن طريق تفكيكها والوصول لجذورها، نجد لسان الأرقام قد اندلق معلناً ما لا يسرُ الكائن البشري الباحث عن مُستقر. في بحثٍ يقوم به أحدنا عن هجرة العراقيين والعرب في القرن العشرين والقرن الذي تلاه، تتقافز في أعيننا دراسات تشير إلى أن 54 في المئة من الطلاب العرب الذين يهاجرون لمواصلة دراساتهم الجامعية فى الغرب يرفضون العودة إلى بلدانهم الأصلية.
إحصائية صدرت سنة 2004، وجدت أن عدد الأساتذة الجامعيين العرب المهاجرين يقدر بـ 284 ألفاً في مجال العلوم الهندسية والتطبيقية، و179 ألفاً في مجال العلوم الحيوية والزراعية، و152 ألفا في مجال العلوم التجريبية والعلوم الصحيحة، و136 ألفا في مجال العلوم الإدارية.
بالنسبة لي، لا أشعر بحاجة للطيران. أنا أريد المشي في شارع الكرادة وسط بغداد، وآكل "اللبلبي" (الحمص المسلوق)، وأدخن سيجارة مع صديق وأعود بعدها لبيتي.. فأنا بغداديٌّ يحب بغداد، وهذا يكفي كحجة للامتناع عن أن أكون طيراً.
أرقامٌ تنمو وتكبر كل سنة كأنها قدرٌ يصرُّ على العيش معنا كالأمراض المزمنة، ويزدادُ تباعاً كلما تقدم الزمن، ونسأل: لماذا يا ترى يصدر "مؤشر هجرة الأدمغة" عن البنك الدولي ليقول إن الدول العربية الثماني، والمتضمنة مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن وتونس والمغرب والجزائر، تتصدر طليعة البلدان الطاردة للعقول المبدِعة؟ ما الذي يجعل الوطن العربي يسهم بنحو 31 في المئة من مجموع الكفاءات والعقول التي تهاجر من البلدان النامية نحو الأقطار الغربية؟ كيف أصبح 50 في المئة من الأطباء و23 في المئة من المهندسين و15 في المئة من العلماء العرب يفضلون الهجرة على البقاء فى بلدان منشئهم؟ هل من الصائب أن نشاهد الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا وهي تستقطب عقولاً تمثل 75 في المئة من العقول العربية الإبداعية المهاجرة، دون أن نقول "لماذا"؟
فزعٌ للأراضي البعيدة
العراقُ، لم يوفر لي - منذ أن تشكّل وعييّ عنه - غير طريقين لم أرَ ثالثاً لهما إلى الآن: الغربة، أو الاغتراب. الغربةُ التي تتسلل كسلسلة على يدي، فتحركها نحو جواز السفر تهيأةً للهروب وإعادة تشكيل جغرافية جديدة بحثاً عن ذاكرة لي، أقل رضوضاً وخدوشاً من ذاكرة العراق.. أو خيار آخر، اغتراب يريده مني بلدي في صباح كل يوم: تعال يا ولد، طوّع سايكولوجيتك لتتمرس عيش الخراب والتطبيع معه. لا حل ثالث يظهر في القدر، فزعٌ للأراضي البعيدة، أو البقاء في أرضك المنفّرة وإشغال روحك بكل ما يساعد على تخفيف الألم من تدخين وصلاة وشرب كحول وجزع.
54 في المئة من الطلاب العرب الذين يهاجرون لمواصلة دراساتهم الجامعية فى الغرب يرفضون العودة إلى بلدانهم الأصلية.
لا وجود لمغريات البقاء. عمليات المحو قائمة عليك، مهيأ أنت للتغييب والاختفاء في أي لحظة، ولا جدوى من المقاومة. هذا ما قاله لي العراق منذ ولدتُ بين اللون الخاكي لحزب البعث حتى لحظة سماعي صوت أكف "الملتحين المتختّمين باليمين" وهي تلطم الصدور بكاءً على الحسين ابن علي في عراق ما بعد 2003. وكأن الطرد والاستبعاد أصبح "اللازمة" الوحيدة التي تستطيع النخب السياسية العراقية المتعاقبة توريثها لرعاياها، وما عليهم - أي الرعايا - الّا الاستعداد لحزم حقائبهم، وتجميع ذاكراتهم في "شوالات" متخيلة للبدء من جديد في مكان ما. لازمةٌ عراقية يبدو أنها لن تنتهي.
طيور لا تعرف أشباهها
أنا أحب داروين، معلّمٌ جليل جعل من الحياة مكاناً أكثر فهماً، ونظرية التطور بالانتخاب الطبيعي أحد أهم النظريات التي تُذهل أحدنا حين يتعرف عليها، تلك التي تقول إننا، كموجودات في هذا العالم، ننتمي بطريقة ما لبعضنا البعض، نتشابه على نحو ساحر حين إمعان النظر والتعمق في مكنوناتنا. زرافة تشبه حصاناً، وفيلٌ قريبٌ بتكوينه من تكوين الفأر، هذا ما اكتشفه داروين في رحلة حياته الشيّقة، ولكن أهم ما اطلع عليه في رحلته مع النظرية، ملاحظات "غالاباغوس" ولحظة اكتشاف الاغتراب.
أدرك داروين في "غالاباغوس" - وهي جزيرة تقع جنوب القارة الأمريكية - شكل الاغتراب المكاني المسنود بالزمن، الذي ينتظر كل الكائنات عند هطول الكوارث. القصة بدأت من صنف طيور نادرٍ يعيش في الجزيرة التي ضربها زلزال، فانقسمت لنصفين، ومع هذا الانقسام اضطر سرب من هذه الطيور للعيش بعيداً عن المجموعة، وبمرور الزمن، أصبح هذا السرب غير قادر على الانتماء للنصف الآخر من المجموعة. لاحظ داروين أن العوامل المناخية المختلفة وانعدام التواصل بين الفريقين غيّرت هذه الطيور جينياً من حيث الشكل وطرق التواصل، إلى درجة أن التلاقح الجيني بين الفريق الأول والثاني أصبح مستحيلاً.
يقول "مؤشر هجرة الأدمغة" الصادر عن البنك الدولي، إن الدول العربية الثماني، والمتضمنة مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن وتونس والمغرب والجزائر، تتصدر طليعة البلدان الطاردة للعقول المبدِعة، وإن الوطن العربي يسهم بنحو 31 في المئة من مجموع الكفاءات والعقول التي تهاجر من البلدان النامية نحو الأقطار الغربية.
"التكيّف"، بهذه الكلمة، وصف داروين الظاهرة، حيث إن الكائنات، بما فيها البشر، تسعى إلى البقاء على قيد الحياة. ومع تغير ظروف عيشها تضطر هي نفسها إلى تغيير نمط اندماجها مع محيطها بتغيير شكلها، سلوكها، وحتى موسم تزاوجها. لكن في النهاية، يقول داروين "لا يمكن أبدا أن تعود هذه السلالة إلى ما كانت عليه في السابق". هذا هو الاغتراب المكاني المسنود بالزمن، المكوِّن لإحساس الغربة التي تجعل المرء مغيّباً في أروقة الحياة التي يطمح أن ينجو فيها ومن خلالها. وهنا، يقدح في رأسي سؤالٌ آخر يضاف لأخوته: هل ما ننتظره كعراقيين هو أن نكون طيوراً تعيش في جزيرة العراق المضروبة بالزلازل، فننشطر لعشرات الأسراب ثم يمضي الزمن فلا نقوى على معرفة من نحن ومن أين جئنا وماذا نفعل؟ بالنسبة لي، لا أشعر بحاجة للطيران، أنا أريد المشي في شارع الكرادة وسط بغداد، وآكل "البليلة" وهي الحمص المسلوق، وأدخن سيجارة مع صديق وأعود بعدها لبيتي.. فأنا بغداديٌّ يحب بغداد، وهذا يكفي كحجة الامتناع عن أن أكون طيراً.
أولئك المدفونون أهلي
ماذا يعني أن يكون لك وطنٌ لا تملك فيه حفرةٌ تضمك؟ هذا بالضبط ما جال في خاطر آلاف الجثث العراقية قبل موتها وهي تهمُّ بالصعود الى "قوارب الموت"، التي قادتهم باغتراب كليّ لمقابر تركيا واليونان بمنظر هو الأكثر سوريالية في القرن الواحد والعشرين.
قبل مقابر الغرباء هذه، كان لنا أهلٌ ضمهم التراب السوري، رقدوا هناك وحيدين كما كانوا في حيواتهم، لا يُرشُّ لهم ماء الورد ولا يشتعل البخور بقربهم. انتقلوا للمنافي حاملين معهم خيوطاً تمتد من قلوبهم حيث رقدوا، إلى بيوتهم المتروكة في ليلٍ بعثي أو نهار ميليشياوي، أولئك أهلي، يشبهونني كثيراً، وعلى الرغم من وقع الزلازل الكثيرة التي المّت بهم، فثمة صوت يخرج من قبور موتاهم وأفواه الناجين منهم، اسمعه قائلاً: رغم النفي والطرد والتنفير الذي عشنا فيه، إلّا أننا لم ننسَ ما كُنّاه، "عراقيون لا طيور". نحاول قدر استطاعتنا مقاومة الطرد والاستبعاد الذي نلناه من أوطاننا، محاولين الرجوع إليها وعيشها وترتيب حياة أقل تنفيراً وطرداً في رحابها.