فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل البري حين يمكن. وقد نبعت هذه الرؤية من اعتبارات اجتماعية داخلية في إسرائيل. ولإسرائيل ميّزات تؤهّلها لإرشاد عقائد الحرب في عصرنا، فهي أحدث تجربة استعمارية في زماننا.
2022-01-06

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
| fr
سليمان منصور - فلسطين

منظومة حقوق الإنسان الدولية مساحة وسط تُوازِن بين سيادة الدول وقيم إنسانية تحمي الحقوق الطبيعية للأفراد والمجتمعات من إجحاف هذه السيادة. أو ربما الأدق أن نقول أنها مساحة وسط تُوازِن بين، من جهة، سعي السلطات للهيمنة ومراكمة الثروة من خلال العدوانية "الشرعية" المنفلتة على المجتمعات داخل وخارج حدود السيادة، ومن جهةٍ أخرى قيم تحفظ حياة الإنسان وحقوقه الأساسية بالأمن، والحركة، والغذاء، والتعليم، وغيرها في ظل عدوانية السلطة.

في مساحة الوسط هذه، نتحمّل نحن الفلسطينيون - كما عموم المجموعات المستضعفة - خسارة وخيمة مقابل الأمل بأن نحظى بحمايةٍ دولية ما من بشاعات الاحتلال. هناك، تُهمّش قناعاتنا وتُشوّه سيرتنا التاريخية إلى حدٍ بعيد لكي نصوغ أنفسنا بما يلائم التعريفات الدولية لماهية الاحتلال أو الأصلانية أو التهجير أو غيرها من التعريفات القانونية التي نأمل أن تحمينا. نخضع للغةٍ ليست لغتنا، ونُعيد تعريف أنفسنا وفق تلك المعاجم. نتفادى المطالبة بحقوقنا التاريخية الجذرية، ونُمنع من التعبير عن مشاعر ومواقف الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا، مثل رفض الاعتراف بإسرائيل أو تأييد المقاومة المسلحة.

لكن ما الذي نفعله عندما يثبت أن مساحة الوسط هذه هشّة تماماً وأن المنظومة الحقوقية عاجزة تماماً عن توفير أي حماية كانت، ليس للمستضعَفين فقط، إنما حتى لنفسها ومؤسساتها وموظفيها؟ ما منطق العمل في مساحة التوازن هذه حين يتغيّر العالم وتتخلخل التوازنات بين طرفي المعادلة، وتستفحل في الدول سياسات هيمنة رأسمالية تطغى بشكلٍ شبه مطلق على أي طرحٍ قيمي، وتعزل إرادة المجتمعات، حتى في الدول الديمقراطية، عن القرار السياسي أكثر فأكثر – خاصةً بما يتعلّق بالشؤون الخارجية؟

مقالات ذات صلة

في هذه الحالة، يُصبح "انسحاب" إسرائيل من هذه المساحة سهلاً. ولا يُقصد هنا بالضرورة الانسحاب الرسمي من الهيئات، إنما تجاهلها ورفض التعاون معها ومهاجمتها والاستخفاف بشأنها. تتراجع إسرائيل من هذه المساحة إلى المجال السلطوي بوقاحة، فتمد تحالفاتها الواسعة بين أنظمة ملكية ودكتاتوريات وحكومات يمينية (منها المقرّب للنازيين الجدد)، وحكومات دول كُبرى. وتُغذّي إسرائيل هذه الشبكة بخبرات قمعية وتكنولوجيا عسكرية ونظم تجسس وتسليح، وإمكانيّات تأثيرٍ واسعة في كل دول العالم. لكن ما الذي نفعل نحن مقابل هذا الانسحاب الإسرائيلي؟ وكيف نقرأ الواقع عندما نبقى لاعبين وحيدين في المضمار دون أي قوة ضغط أو تأثيرٍ فعلي؟

تتغيّر منظومة حقوق الإنسان كما يتغيّر كل شيء حولنا. يتآكل ارتباطها بالفعلي، ويتلاشى تأثيرها على الظروف المادية التي يعيشها المضطهَدون في العالم، في مقابل تضخّم أثرها التعبيري وحضور لغتها في بيئة ثقافية اجتماعية اتّسعت خلال عقدين ماضيين، بفعل ثورةٍ معلوماتية وأنماط اتصال وإعلام جديدة.

شهدنا في الأشهر الأخيرة حدثين مختلفين ومنفصلين في دوائر منظومة حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، كلاهما مرتبط بتخلخلٍ في هذه المساحة الحقوقية الدولية. أولهما القرار الإسرائيلي بتعريف ست منظمات حقوقية واجتماعية مركزية فلسطينية كمنظمات إرهابية: مؤسسة الضمير، مؤسسة الحق، مركز بيسان، الحركة الدولية للدفاع عن الأطفال، اتحاد لجان العمل الزراعي، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية. وهو ما يعني حظر عمل المؤسسات ومنع تمويلها ومصادرته، وفتح الإمكانية القانونية لاعتقال ومحاكمة كل من يعمل فيها ومعها أو يزوّدها بأي خدمات، وغير ذلك من إجراءات قمعية.

أما الحدث الآخر فهو ظهور المناضل المقدسي محمد الكرد على منصة الأمم المتّحدة في خطابٍ استثنائي من حيث مضمونه السياسي أولاً، ولهجته الحادة الساخرة من "المجتمع الدولي" ثانياً.

يعكس الحدث الأول فشل المنظومة الدولية بتوفير أي حماية للمجال الحقوقي الفلسطيني، بينما يعبّر الآخر عن رفضٍ فلسطيني علني للخطاب الحقوقي التقليدي الخاضع لإملاءات السياسة الدولية. وعلى الرغم من الاختلافات بين الحدثين وأثرهما الفعلي، إلا أنهما يجتمعان في مقام مشترك: أنهما وليدا تغيّر جذري يشهده العالم كله، وليس فلسطين فقط، في مكانة عقد حقوق الإنسان الدولية ومنظومتها التي عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية.

حدثان مفصليّان، يُلحّان علينا للتفكير بمسارات جديدة في العمل الحقوقي والنضالي في فلسطين. مع هذا، وكما في كلّ مرحلةٍ مفصلية، نجد من يحاول أن يتجاهل المتغيّرات الكبيرة ويواصل تكرار المحاولات ذاتها والحفاظ على الأطر القائمة كما نعرفها. مع أن المطلوب، دون أدنى شك، أن نحدّق بعالمٍ جديد يتشكّل أمامنا، ونخلق فيه أدوات جديدة تُواصل العمل الهام الذي أنجزه المشهد الحقوقي حتى اليوم.

عام الانسحاب

يشكّل حظر المنظمات الستة ذروة في مسلسل إسرائيلي متواصل لملاحقة العمل الأهلي في فلسطين وخنق نشاطه ونشطاءه. باستهدافها لمؤسسات مركزية وحيوية في عمل ودينامية المنظومة الحقوقية الدولية، ترفع إسرائيل أصبعاً وسطى في وجه تلك المنظومة. فهذه كُبرى المؤسسات الحقوقية في المنطقة، ربطتها علاقات وطيدة بكل مجالات ما يُسمّى بالمجتمع الدولي، بل حتى أنها سدّت فراغاً هائلاً خلّفته السلطة الفلسطينية. وصلت المؤسسات الى علاقات جديّة مع الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتّحدة، التقى ممثلوها ببرلمانيين وسفراء ووزراء خارجية ومشرِّعين في العالم الغربي، وقدّموا تقاريرهم الدورية والخاصة للمحاكم الدولية ولجان التحقيق ومجلس حقوق الإنسان وسائر المجالس والهيئات المختصة، واعتُمِدوا كمصادر معرفية موثوقة في كلّ العالم.

انهيار الحماية لمؤسسات بهذا المستوى مرتبط بتبدّل المنهجية الإسرائيلية في التعامل مع المنظومة الحقوقية. فقد "نضج" موقفٌ إسرائيلي يتنازل عن استخدام هذا الحقل الحقوقي للحفاظ على صورة ديمقراطية وإنسانية ترسمها إسرائيل لنفسها. في نيسان/ابريل 2021 أعلنت إسرائيل بشكلٍ واضحٍ أنها ترفض التعاون مع محكمة لاهاي، ولا ترى صلاحية للمحكمة للنظر في شبهات جرائم الحرب ضد فلسطين. وليس هذا الرفض العلني الأول للتعاطي مع المنظومة الحقوقية، ولعلّ المثال الأبرز رفض التعاون مع لجنة غولدستون للتحقيق بعدوان 2009 على قطاع غزّة. مَنعت إسرائيل دخول لجان تحقيق وخبراء من الأمم المتحدة ومن منظمة العفو الدولية ومن "هيومن رايتس ووتش" أكثر من مرّة، وعرقلت حركتهم في غزّة والضفة الغربية. هذا غير استهداف منشآت لوكالات الأمم المتّحدة (كالأونروا مثلاً) بالقصف، أو تخريب وهدم منشآت أقيمت بأموال أوروبية أو أموال الأمم المتحدة في الأغوار وفي جنوب الخليل وغيرها. وحتى على الصعيد القانوني، فقد ضربت إسرائيل بعرض الحائط كل التعريفات والمفاهيم القانونية المنصوصة في معاهدة جنيف الرابعة وغيرها من القرارات والمواثيق. تنصّلت من التعريفات المتّبعة للنصوص القانونية وأوّلتها على مقاس الاحتلال (غزّة مثلًا، ليست محتلّة بتعريفهم لأنهم انسحبوا منها!). هذا سوى ما يُطبّق على الأرض من انتهاكات علنية، مثل سياسة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، وما تفرضه من نقل قسري وهندسة ديمغرافية من خلال السيطرة على السجل السكاني. أو ما نشهده من إعدامات ميدانية دون محاكمة بتصريحات علنية تدعو لهذه الإعدامات من رؤساء حكومة ووزراء، علاوةً على تعليمات عسكرية جديدة علنية بإطلاق النار على المتظاهرين إن قذفوا الحجارة، حتّى وإن لم يشكّلوا أي خطرٍ، حتّى وإن كانوا في حالة هروب. صحيح أن كل هذه الممارسات تنتهجها إسرائيل منذ نشأتها، إلا أنّها باتت أكثر وقاحةً وأقل اكتراثاً بتبريرها قانونياً.

يعبّر هذا التحوّل عن تبدّل مصادر الشرعية التي يعتمد عليها النظام الصهيوني. منذ النكبة، لعب اعتراف الأمم المتحدة بدولة الاحتلال دوراً مركزياً في السرديّة والذاكرة الجماعية الصهيونية، وانخرطت إسرائيل في كافة هيئات الأمم المتحدة. لاحقًا، لا سيما بعد احتلال 1967، سعت للحفاظ على وهم الديمقراطية المتنوّرة كمصدر للشرعية في العالم ("الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"!) فصاغت إدارة الاحتلال وفق منظومة قانونية دقيقة تحميها أمام القوانين الدولية. إلا أن هذه السردية الصهيونية لم تعد ما كانت عليه في السابق...

في عالمٍ انكشفت فيه هشاشة الديمقراطيات والحكومات أمام قوة رأس المال، وسُحق فيه القيمي لصالح النجاعة الرابحة، تغيّرت سردية إسرائيل من كذبة "الديمقراطية المتنورة" إلى خطاب يعتمد على "حاجة" العالم إلى إسرائيل كفاعل تكنولوجي ورأسمالي وعسكري محوري في شبكة علاقات سلطويّة حول العالم.

أمام هذا "الانسحاب" الإسرائيلي من المنظومة الحقوقية، يعبّر خطاب محمد الكرد على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة عن إمكانية فلسطينية مضادّة. يجاهر برفض المنظومة القائمة ويرجع منها إلى مجالٍ قيمي حقوقي جذري وتاريخي لا هوادة فيه. عبّر الكرد بالأساس عن انعدام الثقة الفلسطينية بالمجتمع الدولي ومؤسساته. سخر من الثرثرة الدولية التي لا تحرِّك بالبطش الإسرائيلي ساكنًا. لم يستجد منّةً، وقال بصريح العبارة أنّ الفلسطينيين لا يعلّقون أي أملٍ على أي حكومةٍ في العالم. وأن الأمل بنضال الشعب الفلسطيني، ونضالات شعوبٍ تحتج وتنتفض ضد حكوماتها للضغط على إسرائيل. قدّم خطاباً يحيّد فيه، إلى حدٍ بعيد، مفاهيم حقوقية تقليدية تتأسس عليها المواثيق الدولية. حتّى أنّه اعتبر تعريفات مثل "الأبرتهايد" و"التمييز العنصري" استهانةً ببشاعة الاستعمار الصهيوني لفلسطين. عاد في خطابه إلى النكبة باعتبارها بُنية وحدثاً مستمراً، ولم يتطرّق إلى إسرائيل بوصفها دولة شرعيّة إنما نظاماً استعمارياً يتأسس على أيديولوجيا صهيونية عنصرية. تحدّث ضد التفاوض، ووضع النضال الشعبي الفلسطيني والأممي في المركز، مشدداً على مقاطعة إسرائيل وملاحقة مجرميها.

ليست هذه طبعاً مواقف مستجدّة في الرأي العام الفلسطيني، لكنّ الجديد نشوء ظروف جديدة سمحت بالتعبير الجلي عن هذا الموقف بعد أن كانت هذه المنابر مُحتكرة إما بيد ممثلي السلطة الفلسطينية، وإما بيد المؤسسات الحقوقية المهنية التي – على الرغم من عملها المؤتمن، بخلاف السلطة - تظلّ في نهاية المطاف جزءاً خاضعاً للمنظومة الدولية ولسقف خطابها ومفاهيمها. ويُضاف على كل هذه "الظروف الجديدة" المرتبطة بتحوّلات عالمية، وضعٌ فلسطينيٌ جديدٌ ناشئٌ إثر انتفاضة الوحدة في أيّار /مايو 2021 وما حملته من خطاب سياسي.

منظومة تتغيّر وتوازن يتخلخل

تتغيّر منظومة حقوق الإنسان كما يتغيّر كل شيء حولنا. يتآكل ارتباطها بالفعلي، ويتلاشى تأثيرها على الظروف المادية التي يعيشها المضطهَدون في العالم، في مقابل تضخّم أثرها التعبيري وحضور لغتها في بيئة ثقافية اجتماعية اتّسعت خلال عقدين ماضيين، بفعل ثورةٍ معلوماتية وأنماط اتصال وإعلام جديدة. تَشكّل المجال الحقوقي في العالم كقطاع تشغيلي ومساحة اقتصادية توفّر معيشة لطبقات اجتماعية متوسطة تقدّم أبنائها وبناتها في حقولٍ معرفية فكرية. يُعنى السواد الأعظم من هذا القطاع الحقوقي بنشاطات كالبحث والتوثيق، المرافعة القانونية داخل الأنظمة القمعية، أو المرافعة الدولية ضمن مؤسسات المجتمع الدولي. تُبذل موارد هائلة على برامج تهدف "لرفع الوعي" والنشر الإعلامي وحملات المناصرة، ومن ضمن ذلك تلعب دوراً واسعاً في التدريب والتعليم للتشجيع على الاندماج –غالباً - في المنظومة ذاتها التي تعيد إنتاج نفسها.

شهدنا مؤخراً حدثين مختلفين ومنفصلين في دوائر منظومة حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، كلاهما مرتبط بتخلخلٍ في هذه المساحة الحقوقية الدولية. أولهما القرار الإسرائيلي بتعريف ست منظمات حقوقية واجتماعية مركزية فلسطينية كمنظمات إرهابية. وثانيهما هو ظهور المناضل المقدسي محمد الكرد على منصة الأمم المتحدة في خطابٍ استثنائي من حيث مضمونه السياسي أولاً، ولهجته الحادة الساخرة من "المجتمع الدولي" ثانياً.

تبدّلت مصادر الشرعية التي يعتمد عليها النظام الصهيوني. منذ النكبة، لعب اعتراف الأمم المتحدة بدولة الاحتلال دوراً مركزياً في السردية والذاكرة الجماعية الصهيونية، وانخرطت إسرائيل في كافة هيئات الأمم المتحدة. لاحقاً، لا سيما بعد احتلال 1967، سعت للحفاظ على وهم الديمقراطية المتنوّرة كمصدر للشرعية في العالم ("الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"!) فصاغت إدارة الاحتلال وفق منظومة قانونية دقيقة تحميها أمام القوانين الدولية. 

تتقاطع المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والثقافية والقانونية مع بعضها البعض ضمن هذا المجال، ومع آلاف من "ذوي الاختصاص" المتفرّقين المساهمين في المجال. كلّهم يدوِّرون موارد مالية ضمن الطبقات الاجتماعية ذاتها في فلسطين وخارجها. لكن الأهم هو أن هذا القطاع الذي تأسس مالياً على سياسات ريع حكومية غربية بالأساس، بدأت مصادر تمويله تتخذ أشكالاً مختلفة. مع الوقت، بدأ عالم المنظمات الحقوقية يعتمد أكثر فأكثر على الـ"Philantropy" المتعاظم – أي تبرّع رؤوس الأموال للمؤسسات غير الربحية. وقد شهدنا في العقدين الأخيرين تضخّماً هائلاً في هذا المجال، حيث إنّ ثلاثة أرباع المنظمات الإحسانية تلك حول العالم (هناك 260 ألف منظمة!) تأسست آخر عشرين سنة. وبالطبع فإن 95 في المئة من هذه المنظمات المانحة تأتي من أوروبا والولايات المتّحدة حيث تُشجّع الدول الأثرياء على التبرع كبديل عن دفع الضرائب.

تبدّل البُنية المالية لهذا القطاع، تماماً كما تضخّم حضوره الخطابي من خلال أدوات وأنماط الإعلام الجديد، هي نتاج لبُنى اقتصادية وسياسية واجتماعية جديدة نشهدها في عصرنا، تغيّرت فيها مكانة الدولة القومية. ومع أنماط جديدة من تكنولوجيا المراقبة والسيطرة التي اتاحها السوق الحُر، بلغت هيمنة الشركات العُظمى العابرة للحدود حالةً تدفع العالم نحو "أناركيّة رأسماليّة" [1] تختفي فيها الدولة لصالح الشركات الخاصة. وأن تتجاوز الخصخصة مجالات كالصناعة أو الصحة أو الإعلام (وهو ما بات عادياً في كل العالم)، وتتوغّل في مجالات كالأمن (أي أن ينسحب عمل الشركات الأمنية الخاصة في الحروب على العمل الشرطي المحلي)، والقضاء (استبدال المحاكم والقانون ب"شركات تسوية النزاعات")، والدبلوماسية (استبدالها بشركات "الدبلوماسية الخاصة") وغيرها الكثير. وينسحب على ذلك الاستثمار "الفلنتروبي" (أو "الاحساني") محل دولة الرفاه الاجتماعي مثلاً، وعلاقته بالمنظمات غير الحكومية التي حلّت محل الدولة في معالجة القضايا الحارقة، لا سيما مع انسحاب شرائح اجتماعية واسعة من العمل السياسي التقليدي المعني بتغيير سياسات الدول من قلب حكوماتها وبرلماناتها.

عصر "الدرونز"

في كانون الاول/ ديسمبر 2021، كشفت "نيويورك تايمز" ملفّات تثبت أن الطائرات الأمريكية المسيّرة (drones) قتلت آلاف المدنيين في سوريا والعراق وأفغانستان، دون رقيبٍ أو محاسبة من أيّ نوع. باتت هذه الطائرات رمزاً للحروب الامبريالية في القرن الواحد والعشرين، ورمزاً لانتهاك حقوق الإنسان حول العالم. وعلى الرغم من أنّه يبدو موضوعاً بعيداً عن قضية هذا المقال، إلا أنه يُمكن أن نرى بهذه الطائرات أيقونة تُلخّص وتكثّف تغييرات العالم التي نحاول وصفها. فهذه الطائرات ليست أيقونة عسكرية فحسب، إنما تمثّل توجّهات سياسية واجتماعية في الدول الغربية تؤدّي إلى خلخلة منظومة حقوق الإنسان الدولية وتُقوّض إمكانيات التأثير على الأنظمة المعتدية.

ولعل هذه الطائرات، بقُدرتها على تحييد جنود الجيوش القومية، تذكّر أيضاً بخصخصة الحروب على يد الشركات الأمنية الخاصة التي ازدهرت منذ التسعينيات الفائتة، وذلك إثر سقوط الاتحاد السوفييتي وتقلّص الجيوش بخروج نحو 8.5 مليون عسكري من جيوش الدول إلى "القطاع الخاص (بين 1989 و2001). ودخلت خصخصة الحروب مرحلتها الذهبية مع بداية القرن الواحد والعشرين أيضاً، بعقد أول اتفاقية علنية للجيش الأمريكي مع شركة "Blackwater".

تمثّل الطائرات المسيّرة، كما شركات المرتزقة، سعياً لتقليص عدد الجنود المنخرطين في القتال الميداني. ليس سعياً عسكرياً فحسب، إنما توجهاً لإبعاد الشعوب الغربية عن أهوال الحرب، وتخفيف الأعباء الاجتماعية الناجمة عن حروب تخوضها للسيطرة على الشعوب الضعيفة ومواردها. تُعفى المجتمعات الغربية من خسائر بشرية تجبرها على مراجعة أخلاقية، وبالتالي معارضة العدوان، وتُصبح ساحة الحرب مسرحاً بعيداً لا تلمسه مجتمعات الدول المعتدية، ولا يخل باستقرار نظامها الاقتصادي. تُصبح معارضة الحرب شأناً معنوياً وخطابياً (وفي الفضاء الافتراضي غالباً) منزوع الفاعلية والأثر المادي. على سبيل المثال، وعلى الرغم من توغّل العمليات الأوروبية والأمريكية على امتداد المنطقة، فإن الأثر الأقوى لهذه الحروب على المجتمعات الغربيّة ليس في عدد الخسائر البشرية، إنما في موجات اللجوء. وهي أزمة تهدد باختلالات اجتماعية (على مستوى الاندماج الثقافي) واقتصادية (على مستوى التحكّم الديمغرافي باللجوء وفق احتياجات السوق الغربية). والملفت هنا مثلاً أن الخطاب السياسي المتنوّر الذي تولّد من نتائج هذه الحرب – الخطاب السائد والفاعل في أوروبا والولايات المتّحدة، والذي تغذّيه آلاف المؤسسات بأموال حكومية و"فلنتروبيّة"- بات خطاب الترحيب باللاجئين والسعي لاندماجهم في المجتمعات الغربية بهدوء، وليس خطاباً مناهضاً للحرب يضغط على الحكومات لوقفها.

تجربة إدارة استعمارٍ وحشي في رقعة جغرافية صغيرة جداً، ووسط مجتمعات كثيفة ومتشابكة يسهل انتقال الأثر السياسي فيما بينها، تبدو "مفيدة" جداً لحروب عصرنا.

ليس غريباً أن تلعب إسرائيل دوراً محورياً في هذه الأيقونة، وعموماً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فقد اعتمدت مثل هذه المفاهيم في حروبها السريعة، بعد حرب 1967: الارتكاز على سلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، والامتناع عن التوغّل البري كلما أمكنها ذلك. وقد نبعت هذه الرؤية من اعتبارات اجتماعية داخلية في إسرائيل. وبالعموم، فلإسرائيل ميّزات تؤهّلها لإرشاد عقائد الحرب في عصرنا. فهي أحدث وأشمل تجربةٍ استعمارية في زماننا، ومجتمعها الاستيطاني المؤلف من كل مهاجري العالم يجعلها أقرب لشكل المجتمعات الأمريكية والأوروبية الآخذة بالتغيّر، وهي توظّف علاقات مجتمعها الاستيطاني الممتدّة في بلدانه الأصلية بشكلٍ ناجع (من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وصولاً إلى علاقات الصهاينة مغاربة الأصول مع المخزن). إلى جانب كل هذا، فإن تجربة إدارة استعمارٍ وحشي في رقعة جغرافية صغيرة جداً، ووسط مجتمعات كثيفة ومتشابكة يسهل انتقال الأثر السياسي فيما بينها، تبدو "مفيدة" جداً لحروب عصرنا التي تُخاض بفضاءٍ بلغت فيه العولمة أعلى إمكانياتها، وتسارعت فيه قنوات الاتصال والصلات بين المجتمعات مهما ابتعدت ساحة الحرب جغرافياً. لكنّ هذه الميّزات كلّها لا تبقى معلّقة في الهواء، إنما تشكّل بُنية عسكرية وتكنولوجية إسرائيلية ترفد الدول المعنية.

أسرلة العالم

مركزية إسرائيل في هذا العالم المتغيّر تمتد لجوانب أخرى كثيرة تُغري السلطات: من برامج التجسس، مثلما رأينا في قضية "بيغاسوس" وشركة NSO الإسرائيلية (التي استُخدمت، بالمناسبة، للتجسس على شخصيات من المنظمات الحقوقية الفلسطينية!)، إلى بيع أسلحة وتدريبات شرطيّة على تكتيكات القمع، ونظم مراقبة شاملة، وتمييز وجوه، ورصد للانترنت وغيرها.  هذه كلها مجالات ترتكز إليها "شرعية" وجود إسرائيل في العالم اليوم، وتسمح لها بالانسحاب التام من أي منظومةٍ قيمية كانت. ترفض إسرائيل في هذا العصر المشاركة بكل مساحةٍ تقيّد وحشيّتها مادياً، أو تشكّل أي أثرٍ فعلي عليها، وهذا تماماً ما تفعله بعدائها المتصاعد للمنظومة الدولية، والذي تَسارع بشكلٍ ملحوظ بعد تقديم ملفّات جرائم الحرب أمام محكمة لاهاي.

أما ما تحتاجه إسرائيل من تلميع وفرض لسرديّتها في المجال الخطابي المعنوي المتضخم حول العالم، فيُمكن إحرازه بأدوات أخرى لا تتطلب خضوعاً لهيئات ومحاكم دولية، ولا تتطلّب حذراً زائداً في الممارسات العسكرية على الأرض، ولا بتشريعاتها وقوانينها المكتوبة. لتحقيق أهداف خطابية ودعائية، تبني إسرائيل مجالاً مؤسساتياً متكاملاً منفصلاً عن المنظومة الحقوقية الدولية ومناهضاً لها داخل الأرض المحتلّة وفي العالم كلّه. مؤسسات تصدر التقارير والأبحاث والحملات الإعلامية، وتترافع وتناصر وتضغط. يعملون في مراقبة الإعلام والتجسس على المنظّمات الحقوقية ورشق اتهامات الإرهاب ومعاداة السامية في كل حدب وصوب، تتجنّد "الفلنتروبيا" الصهيونية لهذا المجال المؤسساتي، وتشتبك علاقات الشركات الخاصة بهذه المنظمات، فتُفرض في كل العالم قوانين تُجرّم حركة المقاطعة وتجرّم نقد الصهيونية، وتُمارس ملاحقة في الجامعات ضد الطلاب والمحاضرين، وضغط على المؤسسات الصحافية والأكاديمية، وتجنيد للمجال الثقافي الغربي لتبييض وجه إسرائيل. وتتجنّد (وتُوظّف) شركات لنشر الخطاب الصهيوني في وسائل التواصل الاجتماعي، مقابل شركات أخرى وجهات حكومية تعمل مع شركات كبرى مثل فيسبوك وغوغل بأعلى مستويات التنسيق لقمع المحتوى الفلسطيني على الانترنت.

في عالمٍ انكشفت فيه هشاشة الديمقراطيات والحكومات أمام قوة رأس المال، وسُحق فيه القيمي لصالح النجاعة الرابحة، تغيّرت سردية إسرائيل من كذبة "الديمقراطية المتنورة" إلى خطاب يعتمد على "حاجة" العالم إلى إسرائيل كفاعل تكنولوجي ورأسمالي وعسكري محوري في شبكة علاقات سلطويّة حول العالم. 

لتحقيق أهداف خطابية ودعائية، تبني إسرائيل مجالاً مؤسساتياً متكاملاً منفصلاً عن المنظومة الحقوقية الدولية ومناهضاً لها داخل الأرض المحتلة وفي العالم كله. مؤسسات تصدر التقارير والأبحاث والحملات الإعلامية، وتترافع وتناصر وتضغط. يعملون في مراقبة الإعلام والتجسس على المنظمات الحقوقية ورشق اتهامات الإرهاب ومعاداة السامية في كل حدب وصوب.

في هذه الحالة، يصبح من الطبيعي أيضاً أن تكون منظمات "غير حكومية" من هذا المجال الصهيوني – مثل "NGO Monitor" أو "UN Watch" وغيرها - بمثابة رأس حربة في ملاحقة المنظمات الفلسطينية الحقوقية وتقويض المجال الحقوقي في فلسطين.

نهايةً

تحت ظل الطائرات المسيّرة، في عصر التغيّرات الهائلة في التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، أُفرِغت المنظومة الحقوقيّة من فاعليتها أكثر من أي وقتٍ مضى، وتقلّصت إمكانيات التغيير الفعلي على الأرض، وانحصر العمل في المساحات المعرفية والتعبيرية. وهذا بعملية مشابهة لكل ما يحدث في عالمنا اليوم: تضخّم مساحات التعبير المعنوي وتقلّص مساحات التأثير الفعلي. هكذا وصلنا إلى انهيار حماية المؤسسات الفلسطينية. وفي مواجهة كل هذا، تبدو الخيارات المطروحة هشّة. مع نهاية العام، أطلقت المؤسسات الفلسطينية الستّة المحظورة حملة مرافعة دولية وإعلامية ضد القرار الإسرائيلي، إلى جانب الجهود المبذولة في المرافعة داخل المجال الحقوقي والقانوني. ومع أهميّة وصدق المجهود المبذول، إلا أنّه قاصر عن مواجهة أزمة أعمق، ولا زال يعالج مسألة المؤسسات الستّة في سياقٍ فلسطيني محدود، بدل قراءة السياق العالمي الذي يغيّر المنظومة الحقوقية الدولية ككل، ودور إسرائيل في هذا السياق. لعل مثل هذه القراءة تعود لتبني أجوبةً على حاجات وأسئلة مستقبل نضالنا. 

______________

  1- تيار من الليبرالية يعتبر وجود الدولة غير ضروري ولا شرعي. 

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...

لحظة الممكن في فلسطين

مجد كيّال 2021-05-11

هذه هي لحظة المُمكن. اللحظة التي تدعونا لنقف على أقدامنا وننسج مرحلةً نحو الحريّة، في مواجهة سواد ذلٍ عظيم شهدناه في العقد الأخير.