يسدل الليل ظلامه فوق بيوتات الأحياء الشرقية والغربية، بكل أوجاع أهلها، كأنه يدثّرها بالعتمة، وبغفوة نوم تحلم بها بعد يوم صاخب بالضجيج والعويل والدمار. تصمت أصوات القذائف ولعلعة الرصاص، ويختفي هدير الطائرات الحربية ودويّ البراميل المتفجرة. وكأنّ سماء المدينة تسترجع ألق نجومها، وصفاء ضوء قمرها الذي لا يستثني حياً شرقياً "معارضاً" (الفردوس، الكلاّسة، القصيلة، باب النيرب، الشعّار، كرم الجزماتي ...)، ولا حياً غربياً "مؤيداً" (العزيزية، الجميلية، السبيل، الموكامبو،الفرقان، الحمدانية...). يستريح المتحاربون بعد نهار طويل من الاقتتال، ونقل الجرحى إلى المشافي، ودفن الموتى في أقرب حديقة صغيرة أو ساحة مهجورة. كما يصمت طنين برامج المحطات الفضائية العربية ونشرات أخبارها، وكل تنظيراتها وتحليلاتها السياسية حول الصراع على سوريا.
في ليل حلب تغيب كل الشتائم البذيئة، وألفاظ التخوين والعمالة، وكل الصور المروّعة والتسجيلات المرئية التي تملأ مواقع الفيسبوك واليوتيوب، فيتناسى المتحاربون وهم يًغالبون النعاس، هموم تقييم نتائج المعارك اليومية التي لم تُحسم لأيّ طرف، وإحصاء من فُقد أو خُطف أو مات، ومعرفة من تقدّم داخل حارة أو تراجع داخل زقاق، ومن أُصيب داخل بيته أو في مكان عمله... وأيضاً إحصاء الذخيرة، وتجهيز لوائح ما يلزم من سلاح وعتاد.
ومع تلك الهدنة الليلية غير المعلنة، بلا أيّ مبادرات منتظرة من مبعوثي الأمم المتحدة، وبلا أيّ اتفاق روسي أمريكي متوقّع، يحنّ المتحاربون إلى سهريّات ليالي مدينتهم الصاخبة، التي كانت لا تعرف النوم قبل اقتحام كتائب "لواء التوحيد" المسلّحة، في تموز/يوليو 2012 للأحياء الشرقية، وبداية أفول بريق المظاهرات السلمية وشعاراتها المطالبة بالحرية والتغيير. فيسترجعون ذكريات سهرة عشاء رجالية وأكلة كباب في مطاعم "بستان كل آب"، أو نُزهة صيفية عائلية إلى "أوتوستراد المحلّق" كل ليلة خميس أو السماح لزوجاتهم وبناتهم بالذهاب وحدهنّ ليلاً لحضور حفلة عرس نسائي في الصالة الماسية في "نادي السبيل العائلي"، والعودة عند الفجر، أو لقاءات سمر مع شلّة أصدقاء ولعب الورق والنرد وتدخين أركيلة مُعسّل بنكهة التفاح في "مقهى العطّار" أو في "مقهى الخيزران" أمام القلعة. كما يسارعون إلى غسل بدلاتهم العسكرية، بمختلف ألوانها وأحدث موضاتها من الأزياء الحربية، التي صارت تتشابه مع ألبسة المتحاربين في ليبيا واليمن والعراق، وفي أفغانستان أيضاً. يغسلونها بصابون الغار، فرائحته المسكونة بزمنهم الضائع تمنحهم شيئاً من الحنين. وحول صينية العشاء مع برّاد الشاي ورائحة القرفة التي تفوح منه، يطمئنون على عوائلهم وجيرانهم، وهم يفقدونهم بالعشرات كل يوم، فيترحمون على من مات، ويشدّون من عزيمة من بقي حيّاً في تلك الحرب الطويلة.
ليل حلب سيّد الموقف لكلّ المتحاربين، يُصمِتهم ويُروّضهم. يحنون بمرارة إلى سماع أذان العشاء أو أذان الفجر من "الجامع الأموي" الذي تقاتلوا داخل حرمه، وهم يتبادلون التهم بمن حطّم مئذنته التاريخية وأشعل النيران فيه. صمت الليل يمنحهم فسحة استراحة مؤقتة، وكأنّ المدينة تتوحّد في العتمة لساعات قليلة، فلم يعد يرى حجم الدمار الذي لحق بإرث مدينتهم التاريخي، وباقتصادها الغني وببنيتها التحتية.
ينامون
في تموز/يوليو 2014 استعاد الجيش السوري المدينة الصناعية التي تقع في قرية الشيخ نجّار (شمال شرق حلب)، وقد تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً أنّ رئيس غرفة صناعة حلب ذكر على صفحته (فيسبوك) أنه "بعد زيارة الحكومة للمدينة الصناعية، في تموز/يوليو 2015، تضاعفت حالات السرقة المُمنهجة من قبل بعض اللصوص المعروفين.. لقد وصلنا لحد قد نضطر فيه تحت ضغط الأخوة الصناعيين للطلب رسمياً من الحكومة بالسماح لمستثمريها بإخراج خطوط إنتاجهم لمناطق أخرى في حلب أو غيرها ضمن البلاد حفاظاً على ما تبقى فيها، فالمدينة الصناعية تحتاج إلى حكومة تقدّرها، وتعمل على حمايتها وتشغيلها، ولا نفهم كيف تُهمل بهذا الشكل، وهي بإمكانها تأمين 30ألف فرصة عمل، وتستطيع بمفردها تثبيت أسعار صرف القطع الأجنبي".
وأكدّ "أبو بكر الحلبي" أحد موظفي الهيئة الشرعية "أنّ المحاكم الشرعية بحلب وإدلب وريفهما قد بدأت في الخامس من أيلول/سبتمبر 2015 بتداول العملة التركية بدلاً من العملة السورية في جميع محاكم الهيئات الشرعية، وما تتضمنه من رسوم ودعاوى ومشتريات ومبيعات وغرامات وكفالات ورواتب موظفين، وذلك بهدف الإسهام في إضعاف النظام وانهياره الاقتصادي". وأضاف منوهاً أنه "سيتم تداول العملة التركية مؤقتاً في الشمال السوري الخاضع لسيطرة مقاتلي المعارضة حتى إسقاط النظام، وإصدار عملة وطنية جديدة، وذلك للحفاظ على أموال المدنيين بسبب انهيار العملة السورية، وطباعة النظام لأوراق نقدية جديدة، ولتحقيق الاستقرار بأسعار المواد وترشيد استثمارها".
وبحضور حشد من الفعاليات الرسمية والدينية والسياحية، أقامت مديرية السياحة في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 2015 احتفالية بعنوان "حلب الأصالة، ماض عريق، وأمل بمستقبل مشرق"، في فندق "شهباء حلب" الذي يقع في المناطق الآمنة. وتضمنت الاحتفالية التي أقيمت بمناسبة "يوم السياحة العالمي" تكريم إحدى عشر منشأة سياحية تقديراً لتميّزها ولجهودها في مجال العمل السياحي، كما تضمنت افتتاح معرض المأكولات التي يشتهر بها المطبخ الحلبي (كبة صاجية، منسف خروف، يبرق، كباب...). وأكّد معاون وزير السياحة "أنّ القطاع السياحي تعرّض لأضرار كبيرة جرّاء الأعمال الإرهابية التي استهدفت المنشآت الاقتصادية والصناعية والبنية التحتية، وتدمير الأسواق القديمة والجوامع والكنائس والدور التراثية التي تشكل جزءاً مهماً من التراث الإنساني".
متظاهرو جبهة النصرة
في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2015، خرجت مظاهرة مسلّحة بالسيارات والمقاتلين، اقتحمت حيّ "بستان القصر" أحد أشهر الأحياء الشرقية المعارضة، وقد حمل المتظاهرون رايات جبهة النصرة )"تنظيم القاعدة في بلاد الشام")، وقاموا بإطلاق النار بالهواء في الحيّ، وهم يهتفون " حيّوا النصرة والجولاني"، كما قاموا بإزالة كتابات على الجدران ضد جبهة النصرة: "سوريا حرة والنصرة تطلع برا"، " تسقط جبهة النصرة طز بالجولاني..."، واستبدلوها بعبارات تشتم العلمانية.
الليل وآخره
ينام المتحاربون فيما تبقى لهم من زوايا بيوتهم المتهدّمة وأطلال حاراتهم، بعد أن يعطوا تعليماتهم العسكرية لكل ّالقنّاصين والمسلحين المناوبين عند خطوط التماس والحواجز. وكل هاجسهم أن تنشف بدلاتهم العسكرية عند الصباح ليُعاودوا الاقتتال، وليستلموا ما يصلهم من أسلحة جديدة. ما أروع ليل حلب عندما ينامون، ويندسون في الفراش قرب بنادقهم وزوجاتهم. فأحلامهم لم تعد تشغل بال الأموات في قبورهم، ولا بال الأحياء الذين لا يزالون متشبثين بالبقاء، ولا بال الذين غادروا لاجئين للغرب.. يا ليتهم يبقون نياماً.