سينما مدينة حلب

تحفل ذاكرة الحلبيين بذكريات عامرة عن صالات السينما في سبعينيات القرن الماضي، التي يقع معظمها في قلب شوارع ذائعة الصيت أشهرها شارع شكري القوتلي، وشارع بارون. بل درجت العادة أن يُعرف الشارع باسم السينما التي تقع فيه، مثل شارع سينما أوغاريت الذي كان حافلاً بالحركة والحيوية، إذ تنتشر فيه أحد فروع المصرف التجاري السوري وعيادات الأطباء ومتاجر الألبسة بماركاتها المحلية ومقهى "القصر" الشهير، ملتقى مثقفي المدينة في تلك المرحلة.
وعلى الرغم من إنشاء "المؤسسة العامة للسينما" عام 1963، وهي السنة التي استلم فيها حزب البعث السلطة، غير أنّ جميع الصالات كانت تتسابق في عرض أحدث إنتاجات السينما المصرية والسينما العالمية، للولع بالفن السابع، وربما ترفيهاً عن الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا بعد الاستقلال وجلاء المستعمر الفرنسي.
كانت عروض "المؤسسة العامة للسينما" شبه نادرة. ولعلّ ذلك يعود إلى قلّة أفلامها منذ إنتاج فيلمها الأول "سائق الشاحنة " عام 1967، أو لانصرافها إلى المشاركة بالمهرجانات الدولية، وحصد الجوائز وشهادات التقدير، والابتعاد عن تسويق أفلامها في عروض جماهيرية تملأ المدن والأرياف السورية كلها. وهكذا استمرت "المؤسسة العامة للسينما " مبتعدة عن الجمهور، مكتفية بنخبها ونقّادها الذين كانوا يعتقدون أنّ الجماهير تفهم السينما على الطريقة المصرية، وعلى الطريقة الاستهلاكية والسطحية، وأنها تحتاج لمن يرشدها، وأنه من الضروري تطبيق أهداف المؤسسة في "رفع المستوى الفني والخلقي والثقافي للشعب"، "وتوجيه الإنتاج السينمائي في خدمة الثقافة والعلم والقضايا القومية"... وكأنّ الجماهير، بكل إرث بلدها الفني منذ افتتاح سينما "كوزموغراف" بحلب عام 1914، ومنذ إنتاج أول فيلم سوري "المتهم البريء" عام 1928، تحتاج إلى رافعة ترفعها فنياً وخلقياُ وثقافياً.
ظلّ الجمهور الحلبي مغرماً برومانسيات السينما المصرية، وبنهاياتها السعيدة، ومعجباً بأفلامها الواقعية، وبأناقة نجومها، لذلك كانت الأمهات يسارعن إلى تقليد تسريحة فاتن حمامة في فيلم "أريد حلا"، وهنّ يحلمن بتغيير قانون الأحوال الشخصية بما ينصف المرأة، أو يسارعن إلى تقليد تسريحة سعاد حسني في فيلم "على من نطلق الرصاص"، وهنّ يحلمن بالعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد. كما كان الجمهور الحلبي يتسمّر أمام شاشة التلفزيون السوري الذي كان يعرض في سهرة كل ليلة خميس العديد من الأفلام المصرية. وليس من المستغرب أن يمتلك هذا الجمهور معلومات واسعة جداّ عن نجوم السينما المصرية، وعن أبرز مخرجيها وكتّاب سيناريوهاتها، وإضافة إلى ذلك ساهمت المجلات الفنية التي كانت تصل أسبوعياً من القاهرة ومن بيروت، في صقل ثقافة الجمهور الفنية الذي كان يتابع، أولاً بأول، إنتاجات السبعينيات.
وساهمت السينما المصرية في تلك المرحلة بدغدغة مشاعر مراهقي المدينة، فلم يعودوا يذهبون مع أهلهم بل تمرّدوا على هذا الطقس العائلي، وصاروا يختارون أفلامهم، في سينمات قاع المدينة بباب الفرج والشوارع المحيطة به، متجاوزين ضوابط العائلة ومواعظها حول العيب والحرام، وكان أشهرها "سينما ليلى" ، المعروفة بأفيشاتها المثيرة عند مراهقي المدينة والهاربين من المدارس. فقد كانت عناوين أفلام مطلع السبعينيات، "غابة من السيقان"، "حمّام الملاطيلي"، "ذكرى ليلة حب".. هي التي تشدّهم ليسترقوا النظر على مفاتن أجمل نجمات السينما المصرية، ساخرين من يافطة "للكبار فقط". كما ساهم القطاع السينمائي الخاص في إنتاج أفلام تجارية تحوي مشاهد ساخنة جداً، أبرزها فيلم "قطط شارع الحمرا". لكنّ هذا الشغف الجنسي سوف يقودهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، إلى التعرف على فيلم "الفهد" المأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه لحيدر حيدر، الذي قام ببطولته أديب قدّورة وإغراء. ومع هذا الفيلم سوف يُتابع الجمهور الحلبي بحثه عن أفلام "المديرية العامة للسينما"، ليس بسبب جرأة مشاهد الجنس والعري، بل لأنه عرّفهم على كل أشكال التمرّد والثورة ضد الظالمين والطغاة، فصارت شخصية بطل الفيلم، الثائر "شاهين"، أيقونة سورية. وعن طريقها أيضاً سوف يتعرّفون،عن قرب على القضية الفلسطينية، بعيداً عن الشعارات والخطب الرنّانة، فتلتصق بذاكرتهم أفلام أشهرها "المخدوعون" المأخوذ عن رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، وفيلم "كفرقاسم" وفيلم "الأبطال يولدون مرتين"، التي عرضتها صالات البلاد.
وطوال حقبة السبعينيات، كان الجمهور، من العائلات الحلبية ومن شباب المدينة على السواء، يُمارس طقسه السينمائي في المتعة والفرجة، فلم يقتصر على مشاهدة أفلام السينما المصرية ، بل شمل أيضاً جمهوراً واسعاً من عشّاق السينما الفرنسية، وأغلبهم من الطبقة الوسطى ومن طلبة قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب في جامعة حلب التي كانت تحفل بالأساتذة الفرنسيين، وبطلائع المتخرجين الحلبيين من جامعة السوربون. فقد كان التجمّع أمام شبّاك تذاكر "سينما الكندي " أو "سينما حلب" أو "سينما الزهراء" عندما يُعرض فيلمٌ فرنسيٌّ جديد، أو يُقام أسبوع للأفلام السينمائية الفرنسية، له نكهة حلبية مميزة يفوح منها اليوم عبق زمن جميل ولّى.
تزامن دخول أجهزة الفيديو في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والتي كانت تصل بالتهريب من الدول المجاورة مع بداية أفول بريق صالات السينما، وتراجع الطبقة الوسطى، وهجرة بعضها بعد الأحداث الدامية مع الأخوان المسلمين (1979-1982) بينما ذاب أو تلاشى من بقي منهم نتيجة الحصار الاقتصادي الذي فُرض على سوريا، وتداعيات انخفاض القوة الشرائية وارتفاع معدّلات التضخم. ومع أفلام الفيديو، استطاع الجمهور أن يفرض ذائقته الفنية داخل جدران بيته، وتوسعت مجالات خياراته، فكان الآباء والأمهات يسترجعون مشاهدة كلاسيكيات السينما العالمية ويتابعون الأفلام الجديدة. أما المراهقون فكان عصر الفيديو، بالدرجة الأولى، لمصلحتهم في أن يختلوا بأكثر من فيلم إباحي وأن ينوّعوا اختياراتهم من الأفلام البوليسية والوثائقية والرياضية . وأيضاً كان لمصلحة عشّاق الأفلام السياسية، الذين سوف يسارعون لمشاهدة قائمة طويلة من الأفلام العربية والأجنبية الممنوعة التي كانت تتوفر ايضا تهريباً ولكن بشكل يسير، أو تلك التي طالت بعض مشاهدها مقصات الرقابة.
لكن البحث عن أفلام "المديرية العامة للسينما" استمرّ، وهذه كان يحلو لها أن تحن على الجمهور الحلبي بعرض أحد أفلامها في "سينما الكندي". فكان ذلك يتحول إلى تظاهرة عشق سينمائية، كما حدث عند عرض فيلم "أحلام المدينة" لمحمد ملص في مطلع الثمانينيات، وفيلم "الكومبارس" لنبيل المالح (وبطولة بسام كوسا) في مطلع التسعينيات .
على الرغم من محاولات استرجاع جمهور السينما في بدايات هذا القرن من خلال تجديد بعض الصالات وتجهيزها بالتقنيات الحديثة، وتقديم التسهيلات باستيراد الأفلام والأجهزة الحديثة، غير أنّ الجمهور صار في مكان آخر إذ انتشرت الأقراص المدمجة (CD)، ثم الأقراص الرقمية (DVD). وترافق ذلك مع هجمة شباب المدينة على تعلّم اللغة الإنكليزية وانصرافهم إلى مشاهدة الأفلام الأميركية، لدرجة الإعجاب المطلق بكل ما تقدمه هوليوود، فصاروا يتابعون أشهر أفلام جوائز الأوسكار وكأنهم يخفون في أنفسهم حلماً دفيناً بالهجرة إلى أميركا. انتشرت الأفلام الأميركية على أنواعها، وصار بإمكان أي شخص اقتناء حلمه الأميركي بمبلغ زهيد جداً من عبّارة "السيديات" بحي الجميلية أو من محلات بيع الأفلام المقرصنة المنتشرة بكثرة في باب الفرج.
استمرت الأفلام المنتجة في سوريا حبيسة على جمهورها. وكم من المؤلم والمفرح في آن، أن نسمع في هذه الأيام عن ارتفاع في وتيرة إنتاجها، سواء من الأفلام الطويلة أو القصيرة، وعن خطواتها في "دعم سينما الشباب"، بينما صار أغلبنا محاصراً بالقتل داخل زوايا بيته، أو نازحاً خارج بلده، أو مشرداً تحت شمس حارقة، ينتظر موته، كما حدث في المشهد الأخير لرجال فيلمنا السوري، "المخدوعون".