نصف حياة: ما الذي تواجهه اليمنيّات إضافة إلى الحرب؟

النساء ضحايا مرتين للسياسة التي ينتهجها المجتمع، فلا تذهب الكثير من الفتيات إلى المدارس بسبب الاختلاط، ولأن الحكومة لم توفّر معلمات إناث لتغطية النقص، ولا تذهب النساء للتطبيب لأن الذكور يشترطون في حالات كثيرة طبيبةً أنثى للتداوي عندها. يُظهر هذا عقم التفكير وانفصامه: من أين ستأتي المعلمات والطبيبات إلخ، إن لم يكن يُراد للإناث أن يتعلمن من الأساس؟
نور بهجت - سوريا

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، حكمت محكمة حوثية بسجن الممثلة وعارضة الأزياء انتصار الحمادي - شابة في العشرين من عمرها - خمس سنوات بتهمة "ارتكاب فعل فاضح"، هو نشرها لصورها المهنية التي راعت.. الاحتشام! وبعدها بثلاثة أيام تمّ تفجير سيارة فيها الإعلامية الشابة رشا الحرازي التي كانت في طريقها مع زوجها لتلد طفلها. قبلهما، في 2018، ذُبحت سميحة الأسدي على يد شقيقها ابن الـ 19 عاماً في قلب قاعة المحكمة، وأمام أنظار من كان فيها، لأنها طلبت من القاضي تزويجها، كون أبيها وإخوتها يرفضون دونما سبب - وبالطبع كونها لا تستطيع تزويج نفسها - ثم في 2020 بُرِّء القاتل بحجة أنها كانت "جريمة شرف".

ومع هذا، فغالباً ما يتم التفاخر بالأعراف التقليدية/ القبلية التي تصون النساء، حيث التعرض للمرأة، سواء بالقتل أو التحرش، هو "عار أسود"، أي أسوأ أنواع العار، وديّة المرأة القتيلة خلال النزاع هو أربع ديات لا واحدة. العرف القبلي يمنح النساء إمكانية وقف النزاع، وحماية القاتل من الملاحقة إن التجأ إليه، إلى آخره من المميزات التي تتمتع بها المرأة اليمنية دون سواها. لكن، وبينما يستمر التغني بهذا الإرث، تظهر الحقائق على الأرض. حقائق تعكس الفجوة بين الواقع الذي تعيشه فعلياً النساء، وبين "الرواية" التي تحيط بهنّ.

العنف اللاحق باليمنيات لا يتلخص فقط بالقتل والتحرش وتصميم القوانين التي تحرم المرأة من إرادتها، بل هو أيضاً عنف لعل أغلبية مجتمعات العالم قد تجاوزته: من قبيل أن المرأة في درجة 45 في فصل الصيف، لا تستطيع الجلوس بجانب النافذة ولا بجانب البيت لتشتمّ الهواء. إن النساء لا يستطعن تحديد القنوات التلفزيونية التي سيشاهدنها، ولا لون الملابس التي سيرتدينها في الخارج، ولا الأمكنة التي سيذهبن إليها، ولا التخصصات التي سيدرسنها. عنف الصمت المفروض عليهنَّ، وعنف الاستخفاف بهنَّ وبحياتهنَّ، عنف الشوارع التي تجعل النساء كل يوم يكرهن أنهنَّ ولدن إناثاً، وعنف عدم وجود أي نوع من الحماية أو الالتجاء، عنف أنهنَّ في مرتبة دنيا وثانوية دوماً: تعليمياً وصحياً وتنموياً وحقوقياً الخ. لذا، حين يُصنَّف اليمن دائماً بأنه في ذيل العالم فيما يتعلق بالمرأة، لا يجوز اعتبار هذا مبالغة، بل طيفاً من حقيقة مرة.

والحديث هنا هو عن كل النساء في كل اليمن، حيث لا فروق كبيرة بين الريف والمدينة، صحيح أن المدينة أتاحت للنساء فرصاً أكبر، مثل التعليم والعمل والسفر وفرصةً لحرية ولو ضئيلة. لكن هذا لا يعني أن المدن أماكن أكثر "رحابة" للنساء، إذ يطال الانتهاك – وإن اختلفت أشكاله - النساء اليمنيات في كل مكان، وحتى في الجنوب الذي عَرف ذات يوم دولةً يسارية تحفظ للنساء حقوقهنَّ، وتمنحهن مساحة الحرية والتحرك، تراجعت تلك المكتسبات اليوم حتى كادت تختفي.

طرفة، شتيمة ثم حقيقة لا جدال فيها

هناك العديد من الأمثال والأقوال التي تصيغ الفعل الجمعي اليومي، وردةَ فعله تجاه النساء. تتغلغل هذه الأقوال والأمثال عميقاً في الذاكرة الجمعية، وتصبح محركاً أساسياً للثقافة الشعبية.

تعتبر المقولة ذات الأصل الديني "النساء ناقصات عقل ودين"، هي المرجعية التي تستند إليها الأقوال التي تنتقص من المرأة. فحين يتم الاستخفاف بكلام النساء، أو وصم كلام الرجال الذي لا معنى له بتوصيف "كلام نسوان"، دائماً ما يستند الجدل، أو إثبات مصداقية تلك المقولة بالعودة إلى المصدر الديني الذي يؤكد أن النساء ناقصات عقل أساساً، فمن أين لهنَّ الحكمة ليقلن قولاً مفيداً؟

وتطال مسألة الاستخفاف، ليس فقط بما تقوله أو تفكر به المرأة، بل أيضاً بحياتها، التي وفقاً للقانون تساوي نصف حياة رجل [1] رغم التفاخر اليومي بالعرف التقليدي الذي يمنحها أربع ديّات. وتسمع في الحوارات اليومية مقولات "هي إلاّ بنت، هي إلاّ مره". "إلاّ" هنا تعني "مجرد"، وترمز للصغر والخفة، حيث لا اعتبار يمكن أن يُمنح لهذا الكائن الثانوي والهامشي، وبالتالي أصبحت "مره" أبشع الشتائم التي يمكن أن تُطلق بحق رجل.

يتم التفاخر بالأعراف التقليدية/القبلية التي تصون النساء. فالتعرض للمرأة، سواء بالقتل أو التحرش، هو "عار أسود"، أي أسوأ أنواع العار، وديّة المرأة القتيلة خلال النزاع هو أربع ديات لا واحدة. العرف القبلي يمنح النساء إمكانية وقف النزاع، وحماية القاتل من الملاحقة، إلى آخره من المميزات. لكن، وبينما يستمر التغني بهذا الإرث، تظهر الحقائق على الأرض...

وعلى الرغم من أن الإناث هن موضع الشتم في كل الثقافات على ما يبدو، إلا أن السياق اليمني أضاف خصوصية من نوع آخر، حيث يَشتم بالإناث، ولكن يطلق عليهن بصراحة وبالمطلق تعبير "عار". أحدى أكثر الشتائم اليمنية تداولاً، هي "يلعن عارك"، أو "أنيك عارك". "عار" هنا تعود إلى الإناث قريبات الرجل بدون مواربة ولا تخفي، فهن عار في الباطن وأيضاً في الظاهر.

قوننة هامشية النساء والاحتكار الذكوري للقرارات المتعلقة بحياتهن

يتميز القانون اليمني بمواده المتعلقة بالمرأة بميزتين:

الأولى أنه مشى إلى الوراء عوضاً عن السير إلى الأمام فيما يتعلق بحقوق النساء، والثانية، أنه يحفل بقدر من المواد التمييزية والمدمرة للنساء، بلغة فضفاضة مموهة، حتى ليستغرب المطّلع عليه أن هذه مواد ما زالت تطبق في زماننا هذا.

من قانون الأحوال الشخصية، يمكن إحصاء 11 مادة أقل ما يقال عنها إنها تعامل المرأة ككائن "ناقص" عقل وناقص إرادة. المواد هي: 6، 7، 15، 16، 19، 20، 23، 40 بفقراتها الأربع، المادة 68، والفقرة الثالثة على سبيل المثال من 86، ثم المادة 127.

يبرع قانون الأحوال الشخصية في الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة لمسألة الزواج. ونبدأ من المادة 6 التي تنص على أن المرأة "تحل" للرجل شرعاً. هذه المعادلة أحادية الطرف تبدو في ظاهرها عادية، لكن السؤال لا يفتأ يخلق نفسه: تحلُّ "هي" وماذا عنه "هو"؟

يليها المادة 7، التي تشترط وجود "ذكر" في مجلس الزواج، والمادة 15 التي تشرّع زواج الصغيرة متى ما كانت "صالحة" للوطء، وهي المادة التي عادت إلى الوراء ولم تتقدم إلى الأمام، حيث كانت اليمن قد حددت سن الزواج بـ 15 عاماً في الشمال و16 عاماً في الجنوب. لكن بعد سيطرة الإسلاميين في التسعينيات الفائتة، تم تغيير القانون في 1999 وألغي اشتراط السن، ليصبح بذلك تزويج الصغيرات في أي سنٍ كان مشرعاً وفق القانون.

لا يتلخص العنف اللاحق باليمنيات بالقتل والتحرش والقوانين التي تحرم المرأة من إرادتها، بل هو أيضاً عنف "خاص": لا تستطيع الجلوس بجانب النافذة لتشتمّ الهواء في درجة 45 في فصل الصيف. لا يستطيع تحديد القنوات التلفزيونية التي ستشاهدها، ولا لون الملابس التي سيرتديها في الخارج، ولا التخصصات التي ستدرسها. عنف الصمت المفروض عليهنَّ، وعنف الاستخفاف بهنَّ وبحياتهنّ.َ

ثم المادة 16، التي حددت مصير المرأة فيما يتعلق بالتفاصيل الأخرى من حياتها. ينص القانون حرفياً على أن: وليّ عقد الزواج هو الأقرب فالأقرب على الترتيب، الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل، ثم الإخوة ، ثم أبناؤهم ، ثم الأعمام ، ثم أبناؤهم ، ثم أعمام الأب، ثم أبناؤهم ، ويقدم من تكون قرابته لأب وأم، وإذا تعدد من هم في درجة واحدة كانت الولاية لكل منهم، ويصح عقد من سبق منهم، ويبطل عقد من تأخروا إذا عقدوا لأكثر من شخص واحد في وقت واحد، وإذا أشكل ذلك بطل العقد". يمكن تقسيم هذه المادة إلى ثلاث كوارث منفصلة:

1. "الوليّ". إن اشتراط وجود "ولي" يهدم فكرة المواطنة المتساوية والحقوق المتساوية التي ينص عليها الدستور، حيث تقونن هذه المادة بشكل صريح عدم أهلية المرأة لأن تقرر من سيكون شريك حياتها.

2. لم يتم حصر ولاية الزواج بالنسبة للمرأة في أبيها، أو إخوتها، بل إن عدم أهليتها تتجاوز مسألة أولوية ذكور العائلة من الدرجة الأولى، فتسعى لإثبات أن المرأة غير قادرة بشكل عام على تقرير مصيرها، والذكور المحيطون بها هم الأقدر على ذلك.

3. الاستخفاف "القانوني" بالمرأة فيما يتعلق بالزواج، إذ يمكن أن يختلف الأولياء ويفسخ العقد، ويمكن أن يأتي أحدهم ليفسخ عقد الأول، ويمكن أن يسبق أحدهم الآخر فلا يستطيع الآخر فسخ ما قد تم!

لكن الأخطر من كل ما سبق، هو أن هذه المادة أتاحت للمجتمع أن يطبقها - مجتهداً- على كل ما يتعلق بالمرأة. فقد شهدت نساء من مناطق يمنية مختلفة عن معاملات تمييزية بحقهنَّ من دون أن يعرفن مصدرها القانوني. إحدى الأمهات مثلاً تقول إنها ذهبت لتسجيل ابنها في المدرسة، لكن المديرة رفضت ذلك، وطلبت منها إحضار "ولي الأمر"، وحيث كان "ولي الأمر" مهاجراً، طلبت منها إحضار هويته، لم تكتف تلك المديرة بشهادة الميلاد، وبالطبع لم تكتف بحضور الأم شخصياً، لأن الأم ليست "ولي أمر نفسها فكيف تكون ولي كائن آخر"؟[2].

في المستشفيات، لا تستطيع النساء إجراء عملية جراحية بدون توقيع ولي الأمر الذي يجب أن يكون ذكراً، وعند سؤالي لطبيبة نساء وولادة، عن كيف تتصرف إذا ما جاءتها حالة عسر ولادة، ويتطلب الأمر إجراء عملية قيصرية؟ أجابتني بأنهنَّ يطلبن دائماً توقيع الزوج، وإذا رفض الزوج فإنهنَّ لا يستطعن استقبال الأم وقد تموت، وبأن الأب أو الأخ قد يعوضان توقيع الزوج، لكن يجب عليهما توقيع ورقة تحمل المسؤولية أمام الزوج في حالة قاضى الزوج المستشفى. هذه الطبيبة نفسها تقول إن ولادتها في طفلها الأول تعسرت وأوشكت على الموت، وأن زوجها رفض توقيع التصريح بإجراء عملية قيصرية لها حتى هددته زميلاتها في العمل، وأخبرنه أن الطفل أيضاً سيموت، وليس الأم وحدها [3].

على الرغم من أن الإناث هن موضع الشتم في كل الثقافات، إلا أن السياق اليمني أضاف خصوصية من نوع آخر، حيث يَشتم بالإناث، ولكن يطلق عليهن بصراحة وبالمطلق تعبير "عار". أحدى أكثر الشتائم اليمنية تداولاً، هي "يلعن عاركَ"، أو "أنيك عاركَ". "عار" هنا تعود بدون مواربة ولا تخفي إلى الإناث قريبات الرجل، فهن عار في الباطن وأيضاً في الظاهر.

وينطبق هذا الأمر على أمور كثيرة، وأمثلة لا حد لها ولا حصر، منها فتح حساب بنكي لطفل، أو استخراج بطاقة شخصية أو جواز سفر، حيث لا تستطيع المرأة اليمنية استخراج هويتها إلا بحضور ولي أمر، ولا يهم إن كان قاصراً، المهم أن يكون ذكراً.

وعند البحث والسؤال عما إذا كانت هناك فقرات أو "ثغرات" قانونية تتيح ذلك، يجيب الدكتور محمد المخلافي وزير الشؤون القانونية سابقاً، أن كل ما سبق اجتهاد من المؤسسات السابق ذكرها، هذا الاجتهاد مبني على مادة الولاية في الزواج [4].

ولا يتعلق الأمر فقط بالزواج الذي ألغى حيازة المرأة لقرارها، واشترط عليها "امتثال أمره (الزوج) والقيام بعملها في بيت الزوجية" و"عدم الخروج من منزل الزوجية إلا بإذنه" [5]، لكن الطلاق يؤكد الأمر عينه، فيمكن من خلال المادة 68 أن يطلّق الرجل زوجته طلاقا "رجعياً" [6]، وأيضاً خلال فترة عدتها لا يجوز لها الخروج إلا بإذنه. لكن ليست مسألة الخروج هي المقلقة فحسب، بل يستطيع الزوج إعادتها إلى حالة الزواج بدون إعلامها بذلك، وقد تظل تحت الاعتقاد بأنها مطلقة لما شاء هو من الوقت.

لا تستطيع النساء إجراء عملية جراحية بدون توقيع ولي الأمر الذي يجب أن يكون ذكراً، وعند سؤالي لطبيبة نساء وولادة، عن كيف تتصرف إذا ما جاءتها حالة عسر ولادة، ويتطلب الأمر إجراء عملية قيصرية؟ أجابتني بأنهنَّ يطلبن دائماً توقيع الزوج، وإذا رفض الزوج فإنهنَّ لا يستطعن استقبال الأم وقد تموت.

هذه القوانين، لا توضح فقط مدى الإذلال الذي تتعرض له النساء، لكن أيضاً توضح التناقض الذي يسيطر على الواقع، حيث استطاعت النساء اليمنيات أن يكن قاضيات، وحزنَ على عضوية في المحكمة العليا. وبالتالي يكون السؤال: هل تستطيع القاضية منهنَّ تزويج امرأة أخرى إذا ما التجأت إليها؟ أو هل تستطيع تزويج نفسها بدون ولي، كونها قاضية؟

شوارع الغاب: لا اعتراف بالتحرش وبالتالي لا حماية

"تريدينني أن أحدثك عن الشوارع؟ لكنك تعرفين! ومع هذا سأخبرك. أنا أمشي من البيت حتى الشارع الرئيسي وهي مسافة تقل عن عشرين متراً، أعاني خلالها رعباً وقلقاً لا حد لهما، إذ يتمركز في الركن قريباً من الشارع الرئيسي تجمعٌ لسائقي الدراجات النارية، مهمتهم الأساسية هي التحرش بي وبكل النساء العابرات، يسخرون منا، ويرمون علينا بتعليقاتهم الجنسية. بعد العشرين متراً، استقلُ الحافلة، وهنا يبدأ قلق وتوتر آخر، حيث الألفاظ نفسها تتكرر لكن أيضاً مع تحرش جسدي، تمتد أياد من هنا وهناك محاولةً لمس جسدي. أنزل من الحافلة، ويتوجب عليّ قطع شارع آخر حتى أصل لمقر عملي، وهي رحلة معاناة أخرى أبشع وأكثر إذلالاً. أي عابر في الطريق، أي سائق دراجة نارية، أي عامل، أي بائع، باختصار أي ذكر، لديه كامل الحق في أن يسخر من شكلي، في أن يغتصبني لفظياً، في أن يصرخ من داخل سيارته العابرة بأمنيات جنسية، بينما يضحك المحيطون بي عوضاً عن إبدائهم للاستنكار. هذه حياة كل يوم بالنسبة لي. جربتُ كل شيء: ارتديت النقاب وخلعته، ارتديت الجلباب، ارتديت الملابس الفضفاضة، لم أبقِ أية وسيلة، لكن هذا لا ينفع، فكونك أنثى يجعلك مباحة... رغم أني مديرة قسم في البنك، ويحترمني الجميع هناك" [7].

استطاعت المرأة اليمنية أن تكون وزيرةً، وسفيرة، وبرلمانية، وفازت بنوبل، لكن هذا لم يلغِ حقيقة أن النساء اليمنيات في وضع بشع حين يتم الحديث عن حقوقهنَّ ومدى رفاهيتهنَّ، والمخيف أكثر أن كل ما حققته من إنجازات يتراجع ولا يتقدم، وأن القوانين القليلة التي كانت تحميها، عُرفيةً أو نظامية، قد جرى انتهاكها وإزاحتها جانباً منذ ما قبل الحرب.

في أي مكان آخر من العالم، يدعى هذا تحرش وانتهاك، وفي أماكن أخرى قد تلجأ النساء إلى القانون لحمايتهنَّ، لكن لا يوجد في القانون اليمني أصلاً ذِكرٌ لجريمة التحرش. وهناك بدلاً عنها مادة فضفاضة تتحدث عن الفعل الفاضح في الأماكن العامة [8]. وعلى الرغم أن كل ما يقوم به الرجال المتحرشون في الشارع يمكن أن ينضوي تحت مادة الفعل الفاضح، إلا أن النساء هنَّ المستهدفات غالباً بهذه المادة، ويتحكم في ذلك مزاج الضابط الذي يقوم بإيقافهنَّ: قد يكون الفعل الفاضح مجرد ركوب السيارة مع صديق، أو كما حدث لعارضة الأزياء الشابة انتصار الحمادي التي صنفت صورها كفعل فاضح [9].

حكاية الموظفة أعلاه، هي حكاية ملايين اليمنيات، الحكاية التي تفضح أولاً تناقض الرواية الشعبية التي تمجد الأخلاق والفضيلة و"حرمة" النساء، ثم تُظْهِر في الآن نفسه وجهاً نقيضاً للأول، هو الاستباحة الفعلية والازدراء. تنجح النساء اليمنيات في كفاحهنَّ المرير لأجل التعليم والعمل، لكن التصرفات المنتهكة – وتبريرها – يبطلان نتائج هذا النجاح.

لا يتم الحديث في اليمن عن الانتهاكات اليومية اللاحقة بالنساء، تحرشاً أو اغتصاباً وما بينهما، إذ إن المتهمة هي المرأة في كل الحالات، ولا تنجو من هذا حتى الطفلات. على سبيل المثال في تموز/ يوليو 2017، برر رجل الدين عبد الله العديني جريمة اغتصاب طفلة في الثالثة من عمرها بأن "ملابس الصغيرات هي بوابة الاغتصاب" [10].

أمشي من البيت حتى الشارع الرئيسي وهي مسافة تقل عن عشرين متراً، أعاني خلالها رعباً وقلقاً لا حد لهما، إذ يتمركز في الركن تجمعٌ لسائقي الدراجات النارية، مهمتهم الأساسية هي التحرش بي وبكل النساء العابرات... يسخرون منا، ويرمون علينا بتعليقاتهم الجنسية. بعد العشرين متراً، استقلُ الحافلة، حيث الألفاظ نفسها تتكرر لكن أيضاً مع تحرش جسدي.

"أي ذكر لديه كامل الحق في أن يسخر من شكلي، يغتصبني لفظياً، يصرخ من داخل سيارته العابرة بأمنيات جنسية، بينما يضحك المحيطون بي عوضاً عن إبدائهم للاستنكار. هذه حياة كل يوم بالنسبة لي. جربتُ كل شيء: ارتديت النقاب، الجلباب، الملابس الفضفاضة.. لم أبقِ أية وسيلة، لكن هذا لا ينفع، فكونك أنثى يجعلك مباحة، مع أني مديرة قسم في البنك". 

خلال السنوات الماضية، انتشرت التقارير عن الانتهاكات من قبل أطراف النزاع بحق النساء اليمنيات، وبدأ الحديث عن "وضع غير مسبوق في تاريخ اليمن"، حيث تنتشر "حالة صدمة" من استهداف النساء، وهي صدمة مبنية على فرضية أن النساء كنَّ مصانات ومحميات في حقب ما قبل الحرب. لكن النساء يعرفن أن ما يحدث حالياً هو مجرد ارتفاع في درجة العنف، وبشكل أكثر رسمية من قبل، وأنه ليس أمراً طارئاً ومفاجئاً كما يروج.

نصف تعليم، نصف حياة

في عام 1994، كان معدل معرفة القراءة والكتابة بين الإناث في اليمن أقل من نصف معدل معرفة القراءة والكتابة للذكور، مع الأخذ بالاعتبار الفروق بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي فيما قبل الوحدة في عام 1990، حيث كان اليمن الجنوبي- الاشتراكي، قد قطع شوطاً كبيراً في مجال تعليم الإناث ومحو أميتهنّ.

سعى اليمن الموحد إلى ردم الفجوة بين الجنسين، إلا أنها في عام 2015 ، كانت لا تزال هائلةً، حيث كان 85.0 في المئة من الذكور متعلمين، ولكن 54.9 في المئة فقط من الإناث يُجدن القراءة والكتابة. وينطبق هذا أيضاً على التحاق الإناث بالتعليم العالي، حيث كنَّ في العام 2013 أقل من نصف عدد الذكور الملتحقين بالتعليم العالي [11].

أما في الوضع الحالي، أي بعد اندلاع حرب شرسة لا تبدو لها نهايةٌ، فلا يمكن الطموح حتى للإبقاء على هذه النسب السابقة.. المختلة. صحيح أن الحرب أتت بوبالها على الجميع، لكن النساء يخسرن فيها أكثر. تتحدث التقارير عن ارتفاع زواج الصغيرات، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وعدم عودة الفتيات إلى المدارس فيما بعد وباء كورونا (وقبله أيضاً بسبب الحرب)، وإلى ما ذلك من المؤشرات التي تخلص إلى نتيجة أن الفجوة تتسع.

لا يتم الحديث في اليمن عن الانتهاكات اليومية اللاحقة بالنساء، تحرشاً أو اغتصاباً وما بينهما، إذ إن المتهمة هي المرأة في كل الحالات، ولا تنجو من هذا حتى الطفلات. على سبيل المثال في تموز/ يوليو 2017، برر رجل الدين عبد الله العديني جريمة اغتصاب طفلة في الثالثة من عمرها بأن "ملابس الصغيرات هي بوابة الاغتصاب".

وتصبح النساء ضحايا مرتين لهذه السياسة التي ينتهجها المجتمع، حيث لا تذهب الكثير من الفتيات مثلاً إلى المدارس لأن هناك اختلاطاً، ولأن الحكومة لم تستطع توفير معلمات إناث لتغطية النقص، ولا تذهب النساء للتطبيب لأن الذكور يشترطون في حالات كثيرة طبيبةً أنثى للتداوي عندها، وبالتالي يُظهر هذا عقم التفكير وانفصامه: من أين ستأتي المعلمات والطبيبات وأقسام البنوك المختصة بالنساء إلخ، إن لم يكن يُراد للإناث أن يتعلمن من الأساس؟

القانون لا يمنع، لكن القانون لا يحمي

أخبرتني إحدى السيدات، وهي ناشطة في مجتمعها المحلي غالباً ما تسافر خارج البلد، أنها في آخر مرة سافرت فيها، اضطرت للبقاء ليلةً في مدينة عدن. تقول إنها وصلت للفندق الذي حجزت لها فيه المنظمة التي ستسافر عبرها، لكن الرجل في الاستقبال رفض السماح لها بالبقاء رغم الحجز المسبق، مطالباً بوجود محرم. أفهمته أن لا محرم لديها في تلك اللحظة، وأنها ستغادر إلى خارج البلد في الصباح الباكر، لكن هذا لم يقنعه. وحين سألته إن كان الأفضل من وجهة نظره أن تنام في الشارع وهي امرأة "بدون محرم" أو أن يسمح لها بالبقاء ليلةً واحدة في الفندق؟ كانت إجابته بأن الشارع هو مكانها [12].

والأمر ينطبق على مسألة السفر والتنقل، صحيح أنه ليس أمراً حتمياً، ولا يوجد أي مبرر قانوني لأن تُسأل المرأة عن "محرمها" في حالة كانت مسافرة لوحدها، لكنها تُسأل في حالات كثيرة، ولا تستطيع الشكوى حين تتعرض لما تعرضت له السيدة أعلاه. والمسألة تتعدى مجرد السؤال، ويمكن النظر إليها من زاوية أخرى: إذا كانت الشوارع ذاتها ليست آمنة، وتضطر السيدات إلى مرافقة ذكر كي يمشين آمنات في الشارع. فما الذي تحسه المرأة التي تقطع آلاف الكيلومترات في بيئة حرب ونزاع؟ وإن كانت غير قادرة على استئجار غرفة في فندق، فهل هي قادرة على استئجار بيت بدون محرم؟ الإجابة شديدة البديهية: إن مصير من تحاول استئجار منزل بدون ذكر، هو إما الرفض وإما التحرش والمضايقة، بصفتها هدفاً سهلاً.

استطاعت المرأة اليمنية أن تكون وزيرةً، وسفيرة، وبرلمانية، وفازت بنوبل، لكن هذا لم يلغِ حقيقة أن النساء اليمنيات في وضع بشع حين يتم الحديث عن حقوقهنَّ ومدى رفاهيتهنَّ، والمخيف أكثر أن كل ما حققنه من إنجازات يتراجع ولا يتقدم، وأن القوانين القليلة التي كانت تحميهنّ، عُرفيةً أو نظامية، قد جرى انتهاكها وإزاحتها جانباً منذ ما قبل الحرب. وأوضح مثال على ذلك هي الشوارع وأرقام المختطفات، المعتقلات، المغتصبات والمعنفات، وزواج الصغيرات ونسب الأمية... 

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

[1] قانون الأحوال الشخصية مادة (41) : دية المرأة نصف دية الرجل 
[2] مقابلة عبر الهاتف مع أم يمنية مقيمة في مدينة صنعاء،تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
[3] مقابلة عبر الهاتف مع طبيبة نساء وولادة، مدينة أبين، تشرين الأول/ أكتوبر 2021. 
[4] مقابلة مع الدكتور محمد المخلافي وزير الشؤون القانونية سابقاً، تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
[5] المادة 40 من قانون الأحوال الشخصية، الفقرة 3 و 4
[6] مادة (68) : الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية ، وللزوج أن يرجع زوجته خلال العدة ، فإذا انقضت العدة دون مراجعة أصبح الطلاق بائناً بينونة صغرى.
[7] مقابلة عبر الهاتف مع شابة تسكن في صنعاء، تشرين الثاني/ نوفمبر 2021
[8] مادة (273) من قانون العقوبات: الفعل الفاضح المخل بالحياء هو كل فعل ينافي الآداب العامة أو يخدش الحياء، ومن ذلك التعري وكشف العورة المتعمد والقول والإشارة المخلان بالحياء والمنافيان للآداب. 
[9] انتصار الحمادي: محكمة تابعة للحوثيين تقضي بسجن الممثلة عارضة الأزياء اليمنية 5 سنوات، 8 تشرين الثاني/نوفمبر .
[10] رجل دين يمني يثير الجدل على مواقع التواصل: "ملابس الصغيرات بوابة للاغتصاب"، الأنباءالكويتية.
[11] School is Not Just for Boys: A Look at Girls’ Education in Egypt and Yemen, Isabella Grande, December 2018
[12] مقابلة عبر الهاتف مع سيدة يمنية من مدينة مجاورة لعدن، تشرين الأول/ أكتوبر 2021. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...