القدس، المدينة الفلسطينية العريقة، مكانٌ أسطوري تروي حجارتُه قرونا من الأطماع والصراعات ومن التآلف والوئام. ملايينُ الحجاج والسيّاح جابوا هذه القطعة متناهية الصغر من الأرض المقدسة، وكأنهم لا يرتوون فيعودون هم أنفسهم ويأتي دوماً سواهم. في متاهات الأزقة متعددة الألوان والروائح، تتفحّصُنا بأنَفَة وجوهٌ وسَمتْها عقودٌ من الاضطهاد بميسمِها، كأنّها تقول لنا إنها وإن تكن تتقاسم هذه المدينة التي تحبها أكثر من كل شيء سواها، فهي غير مستعدة أبدا لتسليمها.
الخطر محدقٌ بهذا الكيلومتر المربع الذي تجتمع فيه الدياناتُ التوحيدية الثلاث. دُمِّر قسم من المدينة تدميرا كاملا حالَ ضمّها (من طرف إسرائيل)، وأعاد بناءَه المحتلّون. حيُّهم في غاية الجمال لا ريب، لكن يا لتبايُنِه مع غيره من الأحياء: لا ضوضاء فيه ولا روائح ولا أصوات ولا ضحكات، لكن فيه... معارض فنون. هم لا يكتفون باحتلال حيّ ما وترك غيرهم يعيشون بسلام. في زمن مضى، لم يكونوا يجرؤون على المغامرة بأنفسهم وراء الحدود التي رسموها، وكان يكفي تفادي أزقة بعينِها لتجنّب مرآهم.
وصلنا لتوِّنا، في عزّ الليل. كنت مسرورةً بفكرة المكوث في نُزل تستند حيطانُه إلى باحة الحرم القدسي. كان الجو فريدا، في انتظار إفاقة المدينة على إيقاع أذان المسجد الأقصى وما كان أوانُه ببعيدٍ. أن أغوص في وهم عالم انقضى، يسعى سكان هذه المدينة جاهدين إلى إبقائه على قيد الحياة. في صمت الأزقة الخالدة إلى النوم، كان وقعُ خُطانا يدوّي على بلاطٍ أبلته الخطى على امتداد القرون. بضع قطط ذات وبر ضاربٍ إلى الحمرة رمقتنا بنظرات ازدراء. كنا نتقدم بخفّة حين صادفنا مجموعةً من الشباب يعتمرون طاقيات يهودية ويمشون بخطى واسعة. تُرى من أين أتوا في بحر هذا الليل؟ ألسنا في قلب الحي الفلسطيني؟
حططتُ الرحالَ في النزل فيما التحق الآخرون بفندقهم الواقع في طرف المدينة الآخر. وغصت في إغفاءة هدهدتها بعد قليل أصواتُ العديد من المؤذنين وداعبتها بعد سكوتهم أصواتُ عصافير اختارت أشجار باحة الحرم القدسي مستقرا لها. كنت أحسّ بالارتياح رغم ضيق المكان، إلى أن اختلطت فجأة بأحلامي صيحاتُ رجال ما انفكت تدوّي حتى أفاقتني كليّةً من غفوتي. حاولت أن أتبيَّنها، لكني لم أفهم ما كنت أسمعه فهو لم يكن كلاما بالعربية، ثم نهضت فرأيت رجالَ شرطة، على بعد عشرة أمتار من النزل، يسدّون المدخل المؤدي إلى الباحة. كانوا يفرزون الداخلين إليها على حاجز أمني وكانوا يتنادهون محدثين ضجّةً عالية. احتلوا هذا المكان الذي اكتشفتُ فيما بعد أن الفلسطينيين صُدّوا عنه وطردوا منه بشكل واسع.
رأيت مجموعةً من السيّدات الفلسطينيات المسِنّات يحاولن النفاذ إلى الباحة مشهراتٍ بطاقاتٍ لا يبدو أنها تمكنهن من دخولها. وتلت محاولتهن مناقشةٌ لا نهاية لها، فهن رفضن الانصراف فيما بدأ رجال الشرطة ينفعلون بلغة عربية غايةٍ في الكمال. لم يستسلمن فجلسن على بعد مترين منتظرات، متوجهات بالحديث بين الفينة والأخرى إلى هؤلاء الرجال كأنهن يقلن لهم إن لهنّ حقوقا ينبغي أن تصان.
أثارت هذه الفظاظة حنقي. ازدردت فنجان قهوة وقررت مغادرةَ المكان. كنت أتحرّق للذهاب إلى... فلسطين. ابتعدت عن هذا الشارع، شارع باب السلسلة، وتوغّلت في أزقة كانت في خَدَر تفيق من سباتها. كان التجار يفتحون محالهم ويبسطون بضاعتَهم خارجها في جوٍّ من التواني، جوِّ صبحٍ يهدهده منذ عقود صوت المغنية اللبنانية فيروز. وببطء، بدأ سوق خان الزيت وما يتفرع منه من أزقة يمتلأ بالناس. إنه واحد من أكثر الأماكن الطريفة فتنةً، يتجاور فيه السكان المحليون مع حشود آتية من أصقاع أخرى، مكانٌ يتنفس عابرُه ...هواءَ الحنين. ويا لوقع المفاجأة عليّ حين أبصرتُ مجموعات صغيرةً من النساء والأطفال من المستعمِرين تتفسّح في أرجائه.
فمنذ أربع سنوات، حين جئت للمرة الأولى إلى هذا المكان، لم أبصر مثل هذه الأسر تطوف أحياء المسلمين. لكنه مشهدٌ طبيعي في مدينة محتلة، يطوقها الجنود ويراقبون كل شبر منها وتسجل كاميراتهم كلَّ صغيرة وكبيرة من حركات أهلها. استولوا على مساكن جميلة جرّدوا منها أصحابَها ورفعوا على هاماتها أعلامهم رمزا لدخولهم إياها فاتحين، وحفروا تحت الأقصى باحثين عن معبد لا وجود له يبررون به دكَّ دعائم المسجد ولم يترددوا في هدم مدافن مسيحية. لكن، في ذاك الزمان، لم يكن يُرى في الشوارع سوى رجال متجهمي الوجوه يتشحون السواد محدقين بعدائية في الأرض. كان ذاك زمنَ "المواقع الأمامية"، أما اليوم فتجوب نساؤهم أزقة المدينة بكل ارتياح وبكل ما يليق بالمحتل من ثقة بالنفس بل من استفزاز.
نجوت بنفسي من هذه الملاحظات الأليمة وأنا أجتاز الحي المسيحي. كان النشاط قد بدأ يدب في أنحائه، ومحاله للمصنوعات التقليدية تدعو المارة إلى دخولها، بينما كان الحجاج بالعشرات ييمِّمون شطرَ كنيسة القيامة. لم أتمهل هناك كثيرا فعدت إلى الأزقة المتعرجة. وغيرَ بعيد عن باب دمشق، أخطأني حجرٌ بمعجزة. من أين أتى يا ترى؟ كانت مجموعة من الجنود تسوم قسوتَها ولدا يدافع عن نفسه صارخا بأقصى جهده، محاولا التملص من قبضتهم. بدأ الناس يتجمعون وكأنهم يريدون حمايةَ الصبي. قال لي أحدُهم إن الجنودَ لم يعثروا على ولد رماهم بحجر فتهجّموا على أخيه، وإنهم لا محالة سيعتقلونه كما اعتقلوا كثيرا من الصبيان غيرِه ممن لم يعودوا يطيقون إهاناتِ العساكر المتواصلة. لكن النشاط سرعان ما عاد إلى المكان وعادت بائعاتُ ورق العنب الجالساتُ على الأرض إلى دعوة المارة إلى شراء بضاعتهن.
ابتعدت مغتمّة من مشهد العدوان المستمر الذي يتعرض له سكان هذه المدينة المكلومة المستعمَرة المبتورة الأوصال. إن المحتلين، إذ يسعون إلى تهويد المدينة عنوة، يشوهون منظرَها كلَّ يوم أكثر من سابقه.. لم يكفهم أن اقتلعوا أحشاءَها بحفرياتهم فها هم يريدون الاستيلاءَ على باحة الحرم القدسي، مشيدين فيه المطاعم والبِيَعَ. يا لروعة درس المقاومة الذي يلقننا إياه أهل القدس في كل زاوية من زواياها رغم ما هم عرضةٌ له من إهانة وسلب ومطاردة : "لا تحزني يا ابنتي، كثيرٌ من الفاتحين مرّوا من هنا ولم يبق منهم سوى من تبنى روحَ القدس فأصبح مقدسيا. أما الآخرون فانصرفوا. لا حول ولا قوة لهم أمام صمودنا إن شاء الله".
(ترجمه من الفرنسية ياسين تملالي)