تنميطان من الهوية يسكنان سردية المستشرق الكلاسيكي: الأول، التنميط المركزي الهوياتي الذي تكون فيه ذات المستشرق خاضعة في العمق إلى عقدة التفوق (الهوية الموجبة الغربية)، والثاني، التنميط الطرفي الذي تُشكّل فيه ذات المستشرق صوراً عن الشرق، موضوع التشريق والتخيل، حيث تكون درجات دونية هذه الصور مرهونة حتماً بقوة المركزة للتنميط الأول (الهوية السالبة الشرقية).
بمعنى، كلما تكثفت الصور الدونية السلبية عن الشرق، تكثفت الصور الفائقة الإيجابية عن الغرب. هذا يقع في عمق سردية المستشرق الكلاسيكي (بالتحديد المستشرق الذي يعتمد على الزيف المخيالي). بيد أنّ التنميط المركزي، في الوقت نفسه، يبقى عاجزاً عن تكوين هويته الفائقة إلا بخلق صور دونية عن الآخر الذي يستشرق به مخيالياً. لكن، لنسارع بداية إلى تأكيد أنّ مثل هذا التكوين الهوياتي (المزيف كما سيأتي) وإنْ سيطر على عمق السردية الاستشراقية الكلاسيكية، وما قبلها كذلك منذ الحروب الصليبية والقرون الوسطى المبكرة (كما مثلاً في الأنشودة الفرنسية The Song of Roland)، فإنه استمر أيضاً في السيطرة على النقد العربي بدرجات مختلفة نوعياً ومتفاوتة. إنّ مثل هذا التنميط قد تحكّم كذلك ببنى النص الاستشراقي الذي أنتج صوراً هائلة في «تمثيل» المرأة الشرقية وفق وضعيات جندرية معينة وإيروتيكية. إنه النص الذي يمكن الاصطلاح عليه بـ «النص الاستشراقي الإيروتيكي» (وهو نص ينتمي ببعض الوجوه إلى ما دُعي في النقد الغربي بـ Ethnopornography ).
كما هو الأمر في "نمط الإنتاج الشرقي" (وفق ماركس) المتقولب وفقه المشرق، أو كما في النمطية الأبوية Patrimonialism (وفق ماكس فيبر)، النمطية التي تتحكم بالمشرق كنظام هرمي اجتماعي وسياسي أيضاً، فإنه هناك كذلك "نمط جنسوي" أو "نمط جندري"، تتكوّن فيه ووفق قوالبه الذوات والعلاقات الاجتماعية والجنسية لـ"أولئك" البشر الذي يسكنون المشرق. الجملة الأخيرة تعبر عن أحد الثيمات في استشراق المرأة الشرقية أو الحريم الشرقي، الحريم الغيري والغرائبي، كما يقول النص الاستشراقي المنفلت من الحداثة والموضوعية، والمنغمس، بدلاً من ذلك، في حبال الأنا والآخر - إنها الحبال، مرة أخرى، المنعقدة في الرياضات المخيالية للتمثيل، والتي سيطرت على جزء واسع من النقد الغربي، حتى النقد التحليلي الاجتماعي المادي منه في تشريق فضاء سُمي بـ"الشرق". إذاً، لم يكن ماركس وحده، ولن يكون، ممن تورط في عقدة "تمثيل" شعوب المشرق وفق أنظمة ثابتة. فهناك كذلك النص الاستشراقي الإيروتيكي الذي دخل عمقاً في لعبة التمثيل وغوايته.
ما زالت الجملة الشهيرة للوجودية سيمون دي بوفوار تلقي بظلالها لا على الدراسات النسوية فحسب، بل حتى على المجال النقدي التمثيلي عموماً. الجملة تقول: "لا تولد المرأة امرأة بل تصبح امرأة". وبغض النظر عن الدلالات الإشكالية التي كانت تقف وراء جملة دي بوفوار، فإنه بالإمكان الامتداد باستحقاقاتها إلى مجال آخر، هو النص الاستشراقي: المرأة الشرقية في النص الاستشراقي لا تولد امرأة كما هي في سياقها التاريخي، بل يُعاد خلقها كامرأة، كما تريدها ذات المستشرق (وفق نمطية نساء الحريم مثلاً).
ليس لهذه المرأة وجود إلا لأنّ سردية المستشرق تريدها كذلك. إنها امرأة، كما نجدها في كثير من النصوص الاستشراقية، وبخاصة في لوحات الرسم، ينطبق عليها كل ما يقع خارج مركزية هذه السردية: امرأة لعوب، ممتلئة بالإيروتيكا، بالشهوانية، ممتلئة بالحطة والاستعباد، ولأنّ بيئتها بيئة حارة فهي دائماً حارة إنْ جنسياً أو عاطفياً، الجو الذي تسكنه محاط بالسحر، لكنها أيضاً متخلفة، فاسقة، بهيمية، تظهر في معظم الأحيان عارية وسط نساء عاريات أمام السيد أو في حمامات الأسواق (تركيز اللوحات الاستشراقية الصورية كان في معظمه على الحمامات التركية)، أو عارية مع نرجيلة، أو مع عاريات في سوق إماء... النتيجة إنها امرأة غريبة أسطورية غامضة، وما على الذَّكَر الغربي إلا أنْ "يكتشفها".
كل هذه صور، مجرد صور، يدّعي النص الاستشراقي أنها تمثل امرأة المشرق. إنها صور تنتمي إلى سردية مخيالية قائمة على باردايمات مركزية، لكنها مخيالية، في تمثيل الأطراف "الأخرى" التي يُراد منها دائماً أن تكون حقولاً أنثوية محتاجة دائماً إلى الذكر الغربي.
لكن السؤال كيف تُصنع مثل هذه الصور؟ هناك ملاحظة ينبغي تسجيلها في هذا السياق: إذا كان هناك في النص الاستشراقي "شرق خفي" مختبئ في ذات المستشرق ولا يظهر بالضرورة في النص المنتج، فإنه هناك كذلك امرأة مختبئة في سردية المستشرق "الذكر". ثمة نمطان هنا من الاختباء في هذه السردية: الأول، هناك المرأة الغربية المتفوقة المختبئة في بارادايم المستشرق التي تُخلق من خلال إعادة خلق المرأة الشرقية. أما الاختباء الثاني، لأنّ الشرق مصاب في عمقه بالإبهام والباطنية والتقية وينسدل عليه حجاب سميك من الأساطير والذاكرة الطويلة والقصص وغموض ليالي ألف ليلة وليلة، فإن المرأة الشرقية كذلك يلفها حجاب سميك من الغموض والأسرار والشبق. مَن له حق في الكشف عن هذا الغموض؟ إنه الذكر الغربي مالك "العقل" (وهذه النقطة كما أكد باحثون قد ساهمت في جزء كبير منه في تكوين الخطاب الكولونيالي). لكن كيف ذلك؟
في عمق النص الإيروتيكي الاستشراقي هناك ثنوية جندرية حاضرة دوماً على رغم التعاب النص في إخفائها: هناك ذكر وهناك أنثى (سردية تقترب من الثنوية الأبدية: المشرقيون الوثنيون من جهة، والمسيحيون المؤمنون الغربيون، من جهة أخرى. هل نتذكر الجنرال ويليم بويكين حينما وصف الحرب الأميركية على العراق بكونها حرباً ضد الوثنيين المسلمين! وهناك مؤخراً عمل في هذا الإشكال التمثيلي لسوزان كنكلين اكبري، صادر عن المطبوعات الجامعية كورنيل. وبكلمة، يجب أنْ يكون الذكر دائماً هو الغربي الذي يستشرق، أي الغربي الذي يمتلك المعرفة والسلطة والعقل. في حين أنّ الأنثى يجب أنْ تكون الشرق، الأنثى الخاضعة الخنوعة، الأنثى المستعبدة، الأنثى التي تنتظر مَن يحررها، والذي سيحررها هو الغربي بطبيعة الحال.
دائماً ما يصاحب هذه الثنوية الجندرية للمستشرق عملية، إذا صح التعبير، جنسنة (Sexualization) أو إعادة جندرة (Genderlization) الفضاء الشرقي: مثلاً إعادة جنسنة المكان الشرقي بتصويره دوماً على أنه لا "أرض الأنثى" فحسب، بل كذلك "الفضاء الأنثى"، الفضاء الذي يسيطر عليه بطاركة همجيون. هنا الشرق يساوي الأنثى بنيوياً: "قدر الشرق أنه أنثى"! أو كما ينتشر في الصناعات السينمائية الهوليودية في تصوير الشرق على أنه أنثى! لكن أيضاً في هذه الجنسنة هناك إعادة خلق للفضاء الغربي على أنه "الذكر" داخل مخيال الذات العالمة (المستشرقة) بكونها الذكر. إنّ ما تحتاجه الأنثى الأرض - الشرق هو الفارس الغربي أو الذي يجلس على أريكة وبيده الغليون.
وليس ببعيد عن هذا، فهناك التصاوير الشعرية لأهل الشرق أنفسهم في تصوير أرض المشرق بكونها الأنثى. وعلى أية حال، المستشرق الذي كان يبني في نصه امرأة شرقية ويعيد تكوينها بما يتناسب وشبقه (شبقه الجنسي، شبقه السياسي...الخ)، فإنه كذلك الأمر كان بالوقت نفسه يبني ذاته كذكر: أيّ أنّ ذكورته الغربية مرتبطة جوهرياً بتكوين أنثوية شرقية، أنثوية ممتلئة بالحماسوية العاطفية، ودائماً يُعاد خلقها على أنها فقيرة ومحتاجة إلى الغربي "الذَّكَر".
هذا جزء من سردية نقدية غربية سيطرت لقرون على النقد الغربي، وما زالت آثارها حاضرة إلى الآن في الإعلام الغربي رغم تطور الدراسات النسوية. لكن هذه الأخيرة قد انجرّت في جزء كبير منها أو سارت يداً بيد مع الدراسات ما بعد الحداثية ووقعت أسيرة داخل إشكالات ما تنتقده، وكان لها بالتالي آثار سلبية خطيرة في مسار لا التحرر النسوي فحسب، بل كذلك في المجال النقدي عموماً، من هنا، تبقى الضرورة ملحة في إعادة درس النقد الاستشراقي النسوي، لكن مع الحذر إلى عدم الانجرار إلى إنتاج ضديات أخرى.
مواضيع
«استشراق النساء» أو في «تمثيل الجنوسة»
تنميطان من الهوية يسكنان سردية المستشرق الكلاسيكي: الأول، التنميط المركزي الهوياتي الذي تكون فيه ذات المستشرق خاضعة في العمق إلى عقدة التفوق (الهوية الموجبة الغربية)، والثاني، التنميط الطرفي الذي تُشكّل فيه ذات المستشرق صوراً عن الشرق، موضوع التشريق والتخيل، حيث تكون درجات دونية هذه الصور مرهونة حتماً بقوة المركزة للتنميط الأول (الهوية السالبة الشرقية). بمعنى، كلما تكثفت الصور الدونية
مقالات من العالم العربي
الإمبريالية وأزمة المناخ وتحرير فلسطين
حمزة حموشان 2024-10-03
تُظهِر فلسطين اليوم بوضوح تام قبحَ النظام الحالي وتُكثّف تناقضاته القاتلة. وهي تُظهِر أيضاً ميله إلى الانتقال نحو استخدام العنف الوحشي الخالص على نطاق واسع. ما يجري أيضاً هو إبادة...
هل يظل "علاء عبد الفتاح" قيد السجن طوال حكم "السيسي"؟
رباب عزام 2024-10-03
الناشطة الحقوقية والأكاديمية "ليلى سويف" (والدة "علاء عبد الفتاح")، تعلن عن إضرابها الكلي عن الطعام منذ نهاية أيلول / سبتمبر المنقضي، رفضاً لاستمرار السلطة في سياساتها ضد ابنها، إذ تَقرَّر...
لا شيء سوى الصمود!
2024-10-03
قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.