عن بداية نهاية الريع البترولي الجزائري

منذ تولّيه الحكم، استخدم عبد العزيز بوتفليقة البترول، وما يدرُّه من ريع، كوسائلَ لترسيخ سلطته وتوطيد دعائمها وإدامتها. وبسبب ما شاب انتخابَه من شوائب (ومنها انسحاب كل منافسيه في انتخابات العام 1999 احتجاجاً على ظهور بوادر التزوير، وتركه وحيداً في السباق)، ولإدراكه بأنه لا وزنَ للشعب في نظر النظام الجزائري، سعى إلى التملّص من وصاية الجنرالات الذين نصبوه على رأس الدولة، ملتمساً دعم الخارج،
2014-10-29

حسين مالطي

احد مؤسسي "سوناطراك" ومؤلف كتاب "القصة السرية للبترول الجزائري" الصادر بالفرنسية عن دار نشر la decouverte


شارك
| fr

منذ تولّيه الحكم، استخدم عبد العزيز بوتفليقة البترول، وما يدرُّه من ريع، كوسائلَ لترسيخ سلطته وتوطيد دعائمها وإدامتها. وبسبب ما شاب انتخابَه من شوائب (ومنها انسحاب كل منافسيه في انتخابات العام 1999 احتجاجاً على ظهور بوادر التزوير، وتركه وحيداً في السباق)، ولإدراكه بأنه لا وزنَ للشعب في نظر النظام الجزائري، سعى إلى التملّص من وصاية الجنرالات الذين نصبوه على رأس الدولة، ملتمساً دعم الخارج، وبخاصة دعم رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وأتاحت له تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001 فرصة تحقيق مرامه، فأبرم مع جورج بوش، خلال سفرتين متتاليتين إلى بلاد العم سام في أواخر 2001، صفقة حصل بموجِبها على مساندة أميركا وحمايتها مقابل بترول الجزائر وكنز المعلومات الذي تمتلكه عن تنظيم القاعدة.

الأميركان والجنرالات

وتحت غطاء أقلمة قطاع الطاقة مع متطلبات اقتصاد سوق حرة تنافسي، أوكل إلى شكيب خليل مهمّةَ طلبِ مساعدة البنك الدولي لإعداد قانون جديد للمحروقات. وأعدّت فعلاً مكاتب الدراسات الأميركية التي أوليت إليها دراسة مشروع هذا القانون نصّاً استوحى بأمانة أهمَّ عناصر المعتقد الأميركي الجديد في المجال الطاقوي، وهو المعتقد الذي كان جورج بوش قد كلّف بصياغته فريقَ عمل ترأسه نائبُه ديك شيني، الرئيس - المدير العام لشركة «هاليبرتون» سابقاً. لم يفاجئ قانون المحروقات الجزائري الجديد إذاً أحداً حين رمى إلى ما يرمي إليه الأميركان نفسه، أي نقل حقوق ملكية حقول البترول والغاز من الشركات الوطنية للدول المنتجة إلى الشركات المتعددة الجنسيات، وهي خاضعة، كما يعلم الجميع، للهيمنة الأميركية. وبعد أخذ وردّ داما أربع سنوات، تخلّلها تجميد مشروع القانون هذا ثم اعتمادُه، ألغى عبد العزيز بوتفليقة، في آخر المطاف، العام 2006، أكثر موادّه إثارة للجدل.
ولم تثبط الرئيس الجزائري عن مساعيه ما تبين من فشل محاولة التنازل عن زمام القطاع البترولي الجزائري للأميركان، إذ كان قد التزم - ولو كانت تبعة ذلك تدهور لحالة الحقول البترولية الجزائرية - بتلبية أي احتياجٍ من احتياجات الولايات المتحدة، إلى درجة تحويل الجزائر إلى أكبر مموّني هذا البلد بالبترول أفريقياً (ارتفاع المشتريات الأميركية من البترول الجزائري من مستوى قريبٍ من الصفر، هو 50 ألف طن في 2000، إلى 22 مليون طن في 2007).
وعلى صعيد آخر، استعمل عبد العزيز بوتفليقة الريع البترولي داخلياً كطعم للإيقاع بزمرة الجنرالات. وكان غرضُه من السماح لهم، هم ومن يأتمرُ بأمرهم، بأن ينهلوا ما طاب لهم من عمولات على كل عقود الشركة البترولية سوناتراك هو توريط قسم معتبر منهم. وقد نجح في ذلك. وأطلق أعضاء زمرته، وبخاصة إخوته، هم أيضاً، العنانَ لشهيتهم في نطاق هذه «الغارة» نفسها.
وبحقٍّ نما الفساد بشكل تصاعدي بعد اعتلاء الرئيس الجزائري سدة الرئاسة في 1999، فتحوّل إلى وسيلة من وسائل الحكم، مكّنته لا من تحييد أعدائه فحسب لكن أيضاً من تدعيم سلطته بشراء مساندة رجال أعمال متعفني الذمم وموظّفين سامين ومسؤولين سياسيين من كل الأطراف، وكذلك أعضاء الطرق الصوفية. لكن الأمور بدأت تسوء مع أواخر 2011، ففضيحةُ الفساد المدويةُ التي كشفت عنها النقاب، في 2009، دائرة الاستعلامات والأمن (استخبارات الجيش)، كانت قد مكّنت هذا الجهاز الأمني من التحكم في مقاليد القطاع البترولي إثر إقالة وزير الطاقة شكيب خليل، رفيق طفولة الرئيس وأحد رجال بطانته، فضلاً عمّن تورّط فيها من مسؤولين كبار في سوناتراك.

التهديدات

وبسبب قصوره وعدم أهليته، أو بسبب الإهمال، أو ربما لكونه تلقّى أوامر بذلك، أبقى الثنائي الجديد الذي نُصِّب على رأس قطاع الطاقة (الوزير، والرئيس ـ المدير العام لسوناتراك) على حاله قانونَ المحروقات الموروثَ عن الفريق السالف، الذي جعل منه فزاعة ينفر منها كلُّ مستثمر أجنبي. لذا، لم يفاجَأ أحدٌ بطبيعة الحال عندما باءت بالفشل المناقصةُ الثالثة لمنح رخص التنقيب عن البترول المعلن عنها في تشرين الاول/ أكتوبر 2011، إذ لم يعد هناك من شركة بتروليةٍ جديرة بهذه التسمية ترغب في البحث عن المحروقات في الجزائر. وكانت هذه أول ضربة تلقتها منظومة الحكم التي أنشأها بوتفليقة، ضربة كانت له نذيراً ببدء عهد جديد ليس البترول فيه أداة لشراء الضمائر والحلفاء.
ورغم أنّ هذه الإهانة باغتته، كان النظام يعرف أن أسسَه ليست على ما كانت عليه من الصلابة. لكن كانت أمامَه سنوات أخرى سمان، بالنظر إلى أن الريع البترولي لم يكن بعد قد نضب. ما كان يقضّ مضجعَه هو إدراكُه بأنه إذا ما فقد القدرةَ على التلاعب بالأشخاص والحشود، ففي ذلك حكم عليه بالفناء أو على الأقل بقبول التفاوض. لكن التفاوض مع مَن؟ لم يكن لديه إجابة على هذا السؤال، إلا أنه كان يشعر بشكل مبهم بوجود قوى قد تستيقظ وتنقلب عليه في أوساط الشعب الذي لم يعامله يوماً إلا كغوغاءَ منصاعة يسهل التحكم فيها. صحيح أن هذا التهديد لم يكن بعد ملموساً، لكن تحوُّلَه إلى واقعٍ كان وارداً ما لم يكن في حوزة النظام بضع مئات الملايين من الدولارات لتهدئة أوار المجتمع وبخاصة الشباب.
وفي انتظار اكتشاف وصفة سحرية تمكّنُه من شراء السلام الاجتماعي، اختار النظام كبشَ فداء يلصق به مسؤولية إفلاسه، وكان هذا هو الرئيس ـ المدير العام لسوناتراك، فأقيل من منصبه بعد 22 شهراً من تنصيبه. وقد أُخذ عليه أنه لم ير في الأفق نُذُر الخطر، فلم يسعَ في الوقت المناسب إلى تعديل قانون المحروقات، بما يجعل الجزائرَ أكثر جذباً للمستثمرين.
ودُقَّ ناقوس الإنذار ثانية في السنة نفسها، 2011، حين انتشرت إشاعات في الأوساط البترولية العالمية مفادُها أن مخزونَ الغاز الطبيعي الجزائري بُولغ في تقديره. وبادر وزير الطاقة إلى تكذيبها قائلاً إن هذا المخزون كاف لا لتغطية احتياجات السوق الداخلية فحسب لكن أيضا للوفاء بالتزامات الجزائر التصديرية. غير أن الأرقام كانت عنيدةً، فإنتاج البلاد تراجع من 89 مليار متر مكعب في 2005 إلى 83 ملياراً في 2011، فيما تراجعت الصادرات الغازية من 65 مليار متر مكعب في 2005 إلى 49 ملياراً في 2012. لذا وجد النظام نفسه مجبراً على التسليم بالواقع والإقرار بأن الجزائر تعاني مصاعب متزايدةً في تسويق غازها لأنّ الولايات المتحدة الأميركية بصدد التحوّل من دولة واسعة الاستهلاك إلى دولة مصدّرة، بفضل استغلال مكثف للغاز الصخري شُرع فيه قبل ذلك بعشر سنوات. كذلك، اعترف بأن استهلاك الغاز الطبيعي داخلياً يعرف منذ سنوات نموّاً كبيراً، وأن البلاد، إذا ما استمر نموُّه بالوتيرة ذاتها، قد لا تستطيع بعد فترة الوفاء بالتزاماتها التصديرية الخارجية.
وكان في كل هذا ما يفوق طاقة احتمال طاقم الحكم الجزائري: أسعار بيع الغاز تتراجع، والمجال المنجمي الجزائري أصبح غير جاذب للمستثمرين، وعقود التصدير قد يستحيل الوفاء بالتزاماتها... كان صرحُ النظام في طور التصدّع. ولتفادي انهياره، وعد وزير الطاقة بقانون محروقات جديد يتضمن تدبيرين أساسيين: الأول هو مراجعةُ طريقة حساب الضريبة على فوائد الشركات البترولية، بما يربطها بنسبة المردودية، ما كان هدية ثمينة لهذه الشركات فالمصالح الجبائية غير قادرة على التحقق من دقة ما تقدمه إليها من عناصر تحدّد النسبة المذكورة. أما الثاني فهو الترخيص باستغلال الغاز الصخري لتعويض انخفاض إنتاج الغاز الطبيعي. وقد تمّ اعتمادُه على ما فيه من خطر على البشر والنبات والحيوان، وبالرغم من عدم تحكم الجزائريين في التكنولوجيات اللازمة لذلك.

.. و«مشكلات» مع النفط!

وكان الإنتاج البترولي هو الآخر في طور الانخفاض، إذ تراجع من 85 مليون طن في 2006 إلى 76 مليوناً في 2012 (تشمل إنتاج المكثَّفات النفطية). وإذا لم يكن لهذا التراجع من أثر على صحة البلاد المالية، فلأن سعر برميل البترول كان لا يزال يتراوح بين 120 و130 دولاراً. لكن ميلَ الأسعار إلى الانخفاض منذ سنة تقريباً - وهو ميل يبدو أنه سيدوم - بدأ حقاً يقلق النظام، خاصة أن تعداد أجهزة الأمن (من جيش وشرطة ودرك)، ونفقاتها المكلفة لاتقاء السخط الشعبي في ارتفاع مستمر. ثم حصل الهجوم الإرهابي على حقل تيغنتورين الغازي في كانون الثاني/ يناير 2012 - وكان الأول من نوعه في تاريخ البلاد - ففاقم قلّة جاذبية الجزائر في نظر الشركاء الأجانب، وزاد ارتيابَهم في فعالية الوسائل المسخّرة لحماية المنشآت البترولية والعاملين فيها.
وكانت آخرَ حلقة شهدناها من هذا المسلسل هي فتور حماس الشركات البترولية للمناقصة الرابعة لمنح رخص جديدة للتنقيب عن المحروقات. أُعلن عن هذه المناقصة في كانون الثاني/ يناير 2014، وخصّت 31 منطقة، منها 17 فيها محروقات غير تقليدية (غاز صخري وبترول صخري). وقد أُجل موعد فتح أظرفة العروض مرتين أملاً في أن تشارك في المناقصة الشركات التي امتنعت عن ذلك. ولم يسفر الانتظار عن شيء، فمن أصل 31 منطقة لم تحظ باهتمام المستثمرين في آخر المطاف سوى 4 مناطق لا تحتوي أية واحدة منها على محروقات غير تقليدية. والأدهى من ذلك، لم تتقدم بعروض لثلاث من هذه المناطق سوى شركة واحدة يتيمة، فيما أثارت الرابعة تنافساً طفيفاً بين شركتين. ولم يكن بمقدور الوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات أن ترفض ما عُرض عليها، فاكتفت به على هُزاله.
وأفاضت نتيجةُ هذه المناقصة كأسَ النظام، فأصبح يتساءل عن طبيعة الكارثة المقبلة المتربصة به، وبدأ الهلع ينتشر في صفوفه. فالريعُ الجديد، ريع استغلال الغاز الصخري، الذي كان يعوِّل عليه لتجديد أوصاله، لا يثير حماس المستثمرين على ما يبدو. ما العمل إذن؟ مراجعةُ قانون المحروقات مجدداً؟ وإذا كان الجواب نعم، فما التنازلات الجديدة الواجب تقديمها لاجتذاب المستثمرين؟ اللّهم إلا إذا قررت سوناتراك الشروع في استغلال الغاز الصخري بمُفردها. لكن من أين ستأتي بالرساميل؟ فتطوير هذه الصناعة غالي التكلفة، خاصة أن هذه الشركة، لعدم امتلاكها التكنولوجيا اللازمة، ستضطر لا محالة إلى أن تدفع باهظاً ثمن العون الأجنبي.
وبشكل أكثر سطحية، يُطرح السؤال عمّن سيكون كبشَ الفداء الذي ستلصق به مسؤولية هذا الفشل الجديد. وما هي الهزّات التي ستنجم في قلب النظام وطاقم الحكم عن هذه السلسلة من الأنباء السيئة؟ هل ستكون تغييراً على مستوى المسؤولين أم تغييراً على مستوى المناهج؟ هل ستقتصر الهدايا التي أعدّ النظام نفسَه لتقديمها بغرض النجاة بنفسه، على قطاع الصناعة البترولية؟ ألن يتنازل عن قطع أخرى من رقعة السيادة الضئيلة المتبقية له لقوى سياسية أو مالية ـ وبخاصة الخارجية منها ـ نظير دعمها له؟ أسئلة كثيرة لن يطول أجل الإجابة عنها. 

 

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

دور البترول في النهاية البائسة لنظام بوتفليقة والجنرالات

حسين مالطي 2019-06-20

استغل عبد العزيز بوتفليقة بشكل مستمر البترول الجزائري وريعه كوسائل لترسيخ دعائم سلطته وتقويتها، وفيما بعد ضماناً لاستدامتها. اشترى "السلم الاجتماعي" كما استخدم عائدات النفط كطعم لمعسكر الجنرالات عبر السماح...