دعوة تجنيد الفتيات في الجيش المصري واحدة من القضايا التي أخذت مؤخرا حيزا واسعا من الجدل المجتمعي ومن التركيز الإعلامي، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، جنبا إلى جنب مع الحديث عن برامج تتناول الشذوذ والجن والعفاريت و"مقهى الملحدين"، في ما يبدو كمحاولة لصياغة أجندة اهتمامات جديدة للمجتمع، بعيدا عن الهم السياسي الذي كان يستحوذ على الأولوية المتقدمة منذ انتفاضة 25 يناير، ولحرف الأنظار عن أزمات حادة في المجتمع، سياسية واقتصادية واجتماعية. وهكذا تبدو إثارة هذه المسائل في هذا التوقيت مقصودة، تساعد في الترويج لها السيطرة السلطوية على وسائل الإعلام والمجال العام، وعودة الدولة البوليسية التي تحدد أجندة اهتمامات الرأي العام.
إلا أنه يمكن النظر للدعوة لتجنيد الفتيات (التي أخذت مسمى "حملة مجندة مصرية")، بالأخذ في الاعتبار السياق التي خرجت فيه، كمحاولة لترميم صورة الجيش المصري ومحو الأثر السلبي الناتج عن التسريبات الصوتية الأخيرة التي أذاعتها فضائية "مكملين" الموالية للإخوان والمنسوبة لجنرالات كبار يصطنعون مستندات ومقر احتجاز قانوني بقاعدة عسكرية لإضفاء المشروعية على القبض على الرئيس الإخواني، وإن كانت السلطات المصرية قد شككت في صحتها وفتحت تحقيقا فيها، وكذلك ما يتعلق بالدعوة التي أطلقها شباب منتسبين للإخوان للتوقف عن التجنيد والهروب منه تحت مسمى "اخلع"، في إطار الصراع على السلطة حامي الوطيس بينهم وبين الجنرال السيسي.
وبتحليل مفردات خطاب المنتسِبات لحملة "مجندة مصرية" نجد أن ثمة تركيز على تمجيد المؤسسة العسكرية والإلحاح على الانضمام إليها كشرف ليس بعده شرف، وأيضا الإشارة إلى أنه لديهم الجاهزية للتصدي لمظاهرات الإخوان وخاصة الفتيات في الجامعات، أو أن هذه الدعوة في مواجهة تخاذل الإخوان غير الوطنيين والرجال الجبناء الذين يريدون أن يقعدوا مقاعد النساء.
وهذا المنحى يؤكد الغرض الوظيفي الدعائي لهذه الدعوة التي حظيت بترحيب رسمي بوقفات اعضائها في الجامعات وفي الشوارع، في وقت تتحسس فيه السلطة من أي حراك وتفضه بالقوة، وتعتقل المشاركين فيه بتهمة خرق "قانون التظاهر"، ويؤكد ذلك الدعم المعلن لشخصيات نسائية بارزة قريبة من النظام الحاكم كالقاضية تهاني الجبالي أو الامين العام للمجلس القومي للمرأة السفيرة منى عمر.
ثمة ارتباك في خطاب مطلقي هذه الدعوة ما يشير إلى المنحى الاستعراضي، فمرة يتم الحديث عن الرغبة في اطلاق التجنيد الاختياري مساواة بالرجل في أداء الواجب الوطني (في حين أن التجنيد في مصر اجباري وليس اختياري لو ثمة رغبة في المعاملة بندية)، علاوة على أن ما يطالب به هو متاح بالفعل كالالتحاق بوظائف محددة في الجيش مثل الطب والصيدلة والتمريض وأعمال أدارية، وفي الشؤون المعنوية، حسب احتياجات محددة للجيش. وهناك أحيانا أحاديث عن "التدريب على القتال" وحتى "الذهاب الى الجبهة"، ثم يجري التراجع فتقول الناطقات باسم الحملة "إننا لا نريد حمل السلاح"، بل المعاونة في الصفوف الخلفية أو الانضمام للشرطة العسكرية أو العمل وقت الطوارئ والأزمات.. ثم يجمعن توقيعات ويقمن بعقد مؤتمرات ويطالبن الرئيس بالتدخل والاستجابة لمطلبهن العاجل.
وهذه ليست الدعوة الأولى. فعقب إزاحة الأخوان من السلطة، والشروع في وضع دستور جديد، أنطلقت حملة مشابهة تدعو لإقرار التجنيد الإجباري للنساء في الدستور، لكنها ذهبت ادراج الرياح، لأنها لم تحظ بالاهتمام الإعلامي، ولم يكن لها وظيفة دعائية تخدم أهداف السلطة في ذلك التوقيت.
وتقليديا، هناك قبول جماهيري بالتحاق النساء بقوات "الدفاع الشعبي" والتدرب على حمل السلاح وأعمال التمريض والإنقاذ، وهو ما حدث إبان العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، ولم تكن ثمة غضاضة في ذاك التوقيت من هذا النشاط النسائي لأنه كان يستجيب لاحتياج مجتمعي، وكان جديا وليس دعائيا.. أما الآن، فغالبية المصريين، ومن بينهم القيادات العسكرية، ذوي ثقافة محافظة، علاوة على أنهم لا يرون في تواجد المرأة في الجيش ضرورة، ويستهجنون فكرة الاختلاط في معسكر واحد، ويتصورون أنها تفتح الباب لمفاسد، ويدللون على ذلك بأن ثمة تحرشات واغتصابات.. حتى في صفوف الجيش الأميركي.
وهناك نقطة اضافية غائبة عن كثيرين وسط هذا الجدل: ثمة قيود على أعداد المجندين، حيث أن اتفاقات كامب ديفيد قد حددت عدد أفراد الجيش، بما لا يمكن تجاوزه حتى مع زيادة عدد السكان، الأمر الذي يؤدي الى تسريح أعداد كبيرة سنويا من الشباب، او يحول دون التحاقهم بالجندية، فضلا عن أن المؤسسة العسكرية كيان منغلق الى حد كبير على ذاته ولا تسمح بإدخال منتسبين لصفوف الضباط سوى من "ذوي حيثية" أنهم من أبناء القادة أو كبار المسؤولين أو الأثرياء لخلق ما يشبه الطبقة المتجانسة ذات الامتيازات والتميز، لذا فعدد الملتحقين بالكليات العسكرية محدود جدا سنويا.
وعلى أية حال، فوقت الأزمات الحقيقية والحروب، استنادا إلى تجارب تاريخية، تسقط كل التحفظات والإشكاليات، ويساهم كل حسب طاقته وجهده وموقعه في مواجهة الخطر الذي لا يعرف التفريق بين.. مجند ومجندة!