الانتحار: صرخة احتجاج أم يأس من التغيير؟

ربما لا تكون أعداد المنتحرين في مصر ضخمة، لكن بالنظر إليها من زاوية أخرى غير إحصائية، وبالمنظور المجتمعي العام، فهي تعطي مؤشرات على تحول في بنية الشخصية المصرية التي باتت حسب خبراء الصحة النفسية ميالة للاكتئاب والسوداوية، كما أنها تدق ناقوس الخطر حول وجود أزمات سياسية واقتصادية حادة في المجتمع لا تستطيع فئات كثيرة التعاطي معها، والتكيف مع وطأتها، فضلا عن أن البُعد الديني الذي كان يعوَّل عليه
2014-12-10

شارك

ربما لا تكون أعداد المنتحرين في مصر ضخمة، لكن بالنظر إليها من زاوية أخرى غير إحصائية، وبالمنظور المجتمعي العام، فهي تعطي مؤشرات على تحول في بنية الشخصية المصرية التي باتت حسب خبراء الصحة النفسية ميالة للاكتئاب والسوداوية، كما أنها تدق ناقوس الخطر حول وجود أزمات سياسية واقتصادية حادة في المجتمع لا تستطيع فئات كثيرة التعاطي معها، والتكيف مع وطأتها، فضلا عن أن البُعد الديني الذي كان يعوَّل عليه في مواجهة هذه الظاهرة لم يعد عاصماً، بالإضافة إلى أن الانتحار في الشارع خاصة، أمام عجلات المترو أو فوق لوحة إعلانات أو بعد كتابة نص يفيد باليأس من تغير وضع يسوء أكثر، مثلما فعلت الناشطة زينب المهدي مثلا، يرسل رسالة احتجاج للمجتمع كله تقول إن الأمر أكبر من مشكلة فردية أو أمر عادي، وتحمِّل الجميع مغبة هذه النهاية القاسية وإهدار حق الحياة المقدم على كل حقوق الإنسان.
منذ أيام، أُعلن تباعاً عن وقوع انتحارين. وهكذا في كل أسبوع من الأشهر الأخيرة أو يكاد. يخرج الأمر من كونه حدثاً عابراً إلى ظاهرة تستحق التوقف عندها واستجلاء أبعادها، خاصة أن هذا الفعل المتكرر بوتيرة منتظمة مؤخراً ينسف ـ بصرف النظر عن المنظور الديني له ـ مقولة أن الشعب المصري متدين بطبعه، وأنه أكثر شعوب الأرض تكيفاً مع كل الظروف مهما كانت سيئة، وأنهم "أبناء نكتة" والأكثر تفاؤلاً. فالانتحار يعني الوصول إلى اليأس، وفقدان الأمل في تحسن الأوضاع، سواء على المستوى الشخصي أو العام، واعتبار الموت أفضل من الحياة وأنَّ به الخلاص...
ويمكن تصنيف المنتحرين في مصر في نوعين: من لديه مشاكل نفسية جراء فشل دراسي أو خلافات زوجية الخ.. وأما النوع الثاني فهو الأكثر عدداً وتتوزع غالبيته على مناطق فقيرة في الدلتا والصعيد، وهو يحمل دلالات أعمق، لارتباطه بطبيعة البناء السياسي والاقتصادي في مصر القائم على تزاوج رأس المال والسلطة القمعية، أي منظومة الفساد والاستبداد التي تكرس الإفقار والظلم الاجتماعي، ولا ترى في المواطن سوى عبء يجب التخفف من المسؤولية تجاهه تدريجياً برفع الدعم وخصخصة المؤسسات الحكومية المنتجة، وترك الناس نهباً للجشع والبطالة والاستغلال الذي تشارك فيه الحكومة مع رجال الأعمال، بلا مظلة حماية اقتصادية واجتماعية.
ولذا فليس غريباً أن تقول دراسة عالمية في الخصوص صدرت حديثاً، أن تصنيف الشعب المصري بلغ الثالث عالمياً في التعاسة، وأن هناك 25 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، و70 في المئة من العاطلين عن العمل جامعيون. وفي الوقت ذاته، تنظر السلطة للمواطن على أنه مجرد رقم تستغله في صنع شرعية شعبية شكلية خلال الاستحقاقات الانتخابية، لكنه ليس عنصراً فاعلا في صنع القرار. ولا توضع مصلحته في الاعتبار فهو في خدمة السلطة وليس العكس، فضلا عن إجراءات على الأرض تصادر الحقوق والحريات الأساسية وتغلق المجال العام وتشي باستحالة التغيير السلمي وتداول السلطة أو حتى حدوث إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية ولو محدودة.
ومن الملاحظ أن ظاهرة الانتحار قد توارت بعد انتفاضة يناير، خلافاً لما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة لحكم مبارك، حيث كان كثيرون يقدمون على الانتحار حرقاً بشكل خاص أمام مجلس الوزراء أو مؤسسات حكومية أخرى أو البرلمان، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية وعدم قدرتهم على توفير الحد الأدنى منها، أو العجز عن توفير عمل، خاصة مع توقف الحكومة عن توفير وظائف وتسريح الآلاف بعد بيع القطاع العام، فضلا عن زيادة طابور البطالة سنوياً بأعداد جديدة، بالإضافة إلى انتحار البعض لما يشعر أنه احتقار لحق به، كمثل من رفض إلحاقه بوظيفة ذات حيثية بوزارة الخارجية لكونه فقط غير لائق اجتماعياً، أي ليست لديه محسوبية وليس من علية القوم.
وتتكرس هذه المعطيات من جديد مؤخراً، بعد أن رأى كثيرون في انتفاضة يناير وإزاحة الديكتاتور مبارك نهاية لحقبة فساد واستبداد، وراهنوا على بدء حقبة جديدة عبر شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإذا بالأوضاع تسوء يوماً تلو يوم على الأصعدة كافة، ووصلت إلى قمتها في الشهور الأخيرة، مع التضخم الكبير والزيادة الجنونية في أسعار السلع والخدمات، ورفع الدعم جزئياً عن السلع التموينية والوقود، وازدياد معدلات البطالة باطراد، فضلا عن مناخ من القمع والاستبداد الشديدين، واستحلال حرمة الدماء التي تسيل يومياً في الشوارع، بالإضافة إلى عودة تعبير "غير لائق اجتماعياً" الذي رفعه رئيس المجلس الأعلى للقضاء في وجه المتقدمين مؤخراً من أبناء العمال والفلاحين.
ولا شك أن هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة تفعل فعلها في سيكولوجية المصريين، وتزيد من حدة الإحباط والاكتئاب، وتوفر بيئة خصبة للإقدام على الانتحار، وكذلك في تشويه الشخصية العامة المصرية ودفعها للعنف والإجرام أو للانتهازية والفساد، لكي تتمكن من العيش في ظل مجتمع لا مكان فيه للضعفاء أو الفقراء.

*****

لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن الانتحار في مصر، سوى أرقام بحثية تشير الى نحو 3 آلاف حالة انتحار سنوياً لمن هم أقل من 40 عاماً، فيما تقول تقارير أخرى إن خمسة أشخاص من بين كل ألف شخص يحاولون الانتحار بهدف التخلص من مشكلاتهم. وقد شهد عام 2009 وحده محاولات انتحار في مصر بلغت 104 آلاف حالة، تمكن‏ 5‏ آلاف منهم من التخلص من حياتهم‏. وتقول الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن الانتحار في مصر أصبح ظاهرة خطيرة تتصاعد يوما بعد يوم، وتبين الإحصائيات أنه في عام ‏2005 شهدت مصر ‏1160‏ حالة انتحار، وفي عام ‏2006 وقعت‏ 2355 حالة، وفي عام‏ 2007 أصبحت 3700 حالة، أما عام ‏2008‏ فوقعت‏ فيه 4‏ آلاف حالة انتحار، في حين كانت هناك‏ 50 ألف محاولة أخرى.

 

 

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

مصر وترسيخ "مجتمع الخرافة"

 ليس عاديا أن يتخطى مؤخرا معدل مشاهدة حلقة برنامج مصري عن الجن والعفاريت حد الثلاثة ملايين على الانترنت، ناهيك عن عدد مشاهدي التلفزيون، مع استثمار برامج إعلاميين آخرين هذا الشغف...