أثار برنامج"الراقصة" الذي تبثه فضائية مصرية ("القاهرة والناس") ضجة واسعة مؤخرا على كافة المستويات، ما ادى الى توقفه لبعض الوقت لامتصاص ردة الفعل التي صاحبت الإعلان عنه، وخصوصا مع وقوع جنود مصريين ضحايا لحادث إرهابي في سيناء.
إلا انه سرعان ما عاد، مترافقا مع مواقف متضاربة، بين الحماسة الشديدة له، أو استنكار وجوده من حيث المبدأ، حيث انبرت المؤسسات الدينية الرسمية للتنديد به، بل هاجمه بعض الفنانين، بينما قام محام بتقديم بلاغ للنائب العام لإيقافه.
والبرنامج الذي تقوم فكرته على مسابقة للرقص الشرقي لفتيات من مصر ومن خارجها، هو الأول من نوعه هنا (وإن سبقته برامج لبنانية شبيهة)، إذ كانت تجري مسابقات قبل سنوات في احد فنادق القاهرة، وكانت تحدث أيضا انتقادات ولكن في حيز محدود، وغالبا على صفحات الجرائد.
وإن سعينا لمحاولة تفسير لماذا نال هذا البرنامج تحديدا كل هذا الهجوم، فيمكن أن ننطلق أولا من وسيلة الإعلام التي يُبث من خلالها، حيث الفضائية يملكها طارق نور، رجل الأعمال وصاحب أكبر شركة إعلانات في مصر، وهو محسوب على نظام مبارك/ السيسي، واشتهرت قناته بأنها تقوم بالترويج لحكم الجنرال والهجوم على كل معارضيه من القوى الدينية أو المدنية، والتشكيك في انتفاضة يناير باعتبارها مؤامرة لإسقاط الدولة..
كما رأى قطاع من الناس أن إذاعة برامج ترفيهية من هذا النوع ليست امرا اعتباطيا، بل تأتي في سياق الإلهاء وحرف الأنظار عن أزمات مصر المستفحلة.
ثانيا، إشراف الراقصة الشهيرة دينا على هذه المسابقة، وقيادتها للجنة التحكيم مع كاتب السيناريو تامر حبيب، والممثلة التونسية فريال يوسف. وكان قد جرى تسريب فيديو جنسي لدينا قبل سنوات مع حسام أبو الفتوح، لم ينجح في تبديد أثره السلبي تأكيدها أكثر من مرة أنها كانت متزوجة عرفيا من رجل الأعمال الشهير، وأنه قام بتصويرها من دون علمها.
ثالثا، ثمة قطاع واسع من المصريين ينتمي للفكر المحافظ، وهؤلاء لا ينظرون للرقص كفن بأي صورة من الصور، ويرونه إظهاراً للمفاتن والعري، ويعتبرون الراقصة تتكسب من ذلك. وهؤلاء نظروا للبرنامج على انه دعوة للفجور والخلاعة وتشويه لسمعة مصر. بينما تبدو ردة الفعل تجاه برنامج عن الرقص الشرقي مبالغا فيها، خصوصا أن لا شيء خرج عن المألوف، وهو ما استدعى، مثلا، من إحدى الصحف الغربية أن تعتبر حدة الهجوم على البرنامج، من ضمن أشياء أخرى كبروز الخطاب الديني على المستوى الرسمي، مؤشراً على تجذر الأصولية في مصر، رغم إزاحة الإخوان من الحكم وإضعاف السلفيين.
غير أن الأمر يتجاوز هذا المعنى إلى الطبيعة الخاصة للشخصية المصرية في أغلبها التي أصابها التشوه، وبات العنوان الأبرز لخطابها وسلوكها التناقض والازدواجية اللذين تكرسا عبر سنوات بعد موجة الهجرة لدول الخليج في السبعينيات، ودخول الفكر الوهابي المحافظ الى البلاد، بينما كانت مصر عبد الناصر مثلاً تحتفي بالفن والفنانين. هناك اليوم في صفوف أبناء الطبقة الوسطى تحريم وازدراء للفن بشكل عام، وللرقص بصفة خاصة، وفي الوقت ذاته فهؤلاء، وخصوصا الأثرياء منهم، يحتفلون بأعراسهم ومناسباتهم المختلفة في حضور راقصات شهيرات، ويتخذون من هذا مدعاة للتفاخر، أو يذهبون لقضاء سهرات في ملاه ليلية أو مراكب عائمة أو فنادق بها رقص شرقي، من أجل التسلية أو التعبير عن الاحتفاء بضيف عربي أو أجنبي.
وفي الطبقات الفقيرة، حين تسأل مثلا عن رأي الناس بالرقص، ستجد عبارات الاستهجان، غير أن الأفراح الشعبية عادة ما تتضمن راقصة، وإن كانت من مستوى متدن وغير مشهورة. والأهم من ذلك أن أقارب العروسين وأصدقاءهم وجيرانهم رجالا ونساءً يتبارون رقصاً، سواء في حضور الراقصة أو غيابها، ولا يجد أحد غضاضة في هذا، باعتباره تعبيرا عن الابتهاج أو التهنئة.
ولأن الرقص لغة عالمية يستوعبها الجميع، ويُنظر إليها كعنوان للفرح أو الانتصار، جرى استغلاله سياسيا في حملة تسويق الجنرال السيسي، وتصدير صور لمصريين ومصريات من خلفيات اجتماعية متنوعة يرقصون أمام لجان الانتخابات أو في حملات الدعاية وهم يرفعون صور المشير، لإبراز شعبيته.
أكثر من هذا، فإن منتجي السينما يعتمدون في مغازلة "شباك التذاكر" وحصد مكاسب مالية على إنتاج أفلام تحوي رقصات مغرية، وتجد إقبالا جماهيريا واسعا، خصوصا في الأعياد.
ورغم الشكوى من انحسار الرقص الشرقي في مصر، والحديث أنه في المقابل ينتشر حول العالم، وتشارك راقصات مصريات كدينا ولوسي وفيفي عبده (الأكثر شهرة في هذا الجيل)، في مدارس الرقص والتدريب والتحكيم الدولي. ومع إغلاق كثير من الملاهي الليلية، خصوصا في "شارع الهرم" الشهير، أو تحويلها لأنشطة أخرى تجارية، تَركّز نشاط الرقص الشرقي في المطاعم العائمة والفنادق الكبرى. إلا ان مصر لا تزال قبلة كثير من الراقصات الأجنبيات، يرين فيها "هوليود الشرق"، وبوابة لحصاد الشهرة والمال، آخرهن الراقصة الأرمينية الروسية صافينار، التي تحولت من راقصة مغمورة في فندق ساحلي إلى عالم السينما والأضواء.
ويبقى السؤال: كيف لمجتمع يصنع نجومية الراقصات أن يكون هو ذاته الذي يستهجن مسابقة للرقص وبرنامج تلفزيوني عن الراقصة؟
مواضيع
عن الرقص والراقصة وتناقضات المصريين
مقالات من مصر
ثمانون: من يقوى على ذلك؟
إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.
الباب المُقفل: معضلة تعليم الفلسطينيين في مصر
هناك إصرار متزايد في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم، وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد، على الرغم من الظروف القاسية عليهم. إلا أن ذلك، بالمقابل،...
في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر
تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...
للكاتب نفسه
مصر وترسيخ "مجتمع الخرافة"
ليس عاديا أن يتخطى مؤخرا معدل مشاهدة حلقة برنامج مصري عن الجن والعفاريت حد الثلاثة ملايين على الانترنت، ناهيك عن عدد مشاهدي التلفزيون، مع استثمار برامج إعلاميين آخرين هذا الشغف...
"تجنيد فتيات مصر" دعاية للجيش أم احتياج مجتمعي؟
دعوة تجنيد الفتيات في الجيش المصري واحدة من القضايا التي أخذت مؤخرا حيزا واسعا من الجدل المجتمعي ومن التركيز الإعلامي، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، جنبا إلى جنب مع الحديث...
الانتحار: صرخة احتجاج أم يأس من التغيير؟
ربما لا تكون أعداد المنتحرين في مصر ضخمة، لكن بالنظر إليها من زاوية أخرى غير إحصائية، وبالمنظور المجتمعي العام، فهي تعطي مؤشرات على تحول في بنية الشخصية المصرية التي باتت...