"أحمد دومة" .. سنوات الانصهار ودفاتر التكوين

"الدمّ ما جفّ/ والجرح ما خفّ/ ولا كفّ الكفّ عن التسديد/ فاخلع نعليك وقف في الصفّ، ده النصر أكيد/ والصبح الجاي ملهوش مواعيد"... تلك هي كلمات أحمد دومة، ذاك هو، الذي تمر اليوم ثماني سنوات على اعتقاله الاخير!
2021-12-08

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
عمر فتحي - مصر

ليس لي ولاية التعليم على أي طفلٍ، ولكن كلما مر أحدهم بحياتي أو صادفته بالطريق، تمنيتُ لو أُثبّت في عقله عدداً من المشاهد التي لا يليق بها إلا التوثيق. أحد تلك المشاهد هو ردة فعل "أحمد دومة" حين نطق القاضي بقرار حبسه 25 عاماً، فأجاب بسرعة وتحدٍ وبداهة بـ"التصفيق".

سأُلحق هذا المشهد برسمة كاريكاتور نشرت في اليوم ذاته، حيث القاضي/الشرطي ضخم الجسد، غليظ الملامح ينطق بصوت جهور "25 عاماً" فيواجهه "دومة" بملامحه الرقيقة غير الخالية من الطفولة، ويهتف "25 يناير".

هل انتهت القصة يومها، أم بدأت أهم فصولها مع قرار غلق الزنزانة؟ وما هو المشهد الثالث في تلك السلسلة الذي يمكن منحه للمخيلة المنحازة؟ وبأي حالٍ يلقى الرفاق يوماً وجه هذا الرفيق؟

***

"نبعد عن الميدان ألف خيبة، وتسع سنين، فما الذي جلب رائحة قنابل الغاز، ودوي الرصاص، وصرخات المغدورين إلي هنا؟ / هنا حقل التذّكر/ والتذّكر لعنة الذاكرين / ونصف طريقهم للانتصار".

مقالات ذات صلة

هكذا كنت أحد إبحارات السجين السياسي المصري، ابن الواحد والثلاثين عاماً، "أحمد دومة" عبر سطور كتاب له ـ تحت الطبع ـ استطاع تمرير أغلب نصوصه قبل أن يكمل عامه الثامن بالسجن. وقد كان قدره بأغلب الوقت زنازين "فردية"، بلا أنيس، فاختار هو الدفتر، وهو هنا تعبير مجازي، فلا سماح أو تسامح مع مرور الأوراق البيضاء. يخبرني صديقه: "كانت النصوص تصل لنا خلسةً خلال جلسات تجديد الحبس، وبعضها كتبها هو على ملابسه التي يستلمها أهله [1]، أو تمّ تسليمها لنا عبر أهالي سجناء آخرين". وهكذا أصبح لديه حتى الآن ثلاثة عناوين هي: حلم تخثّر بالأوردة (شعر فصيح)، تجديف (نصوص)، كيرلي (ديوان عامية).

لا يوجد ما يضطره هناك للادعاء، أو محاولة الاحتفاظ بصورة نمطية للمناضل البطل، لا حاجة لديه لاستنساخ مشاعرَ كتب عنها شعراء أجيال سابقة حين تغزلوا بالوطن من وراء القضبان. لكن أيضاً ليس هناك ما يضطره للامتثال الكامل للنموذج النقيض، حيث من المستهجن الحديث عن غير الهزيمة واليأس والنقمة والغضب.

تحكي أوراق "دومة"، عن كيف مرت بنا التجربة، عما التبس علينا، وما يبس فينا. ولقد كان من الغريب والصادم بالنسبة لي في اللحظة الأولى أن أقرأ لفظ "الانتصار". وفي أكثر من موقع وجدت "الأمل"، كما أن الأمر لم يقتصر على كتابات السنوات الأولى، لكنه امتد لما بعدها على الرغم مما استبد به وما لفحها.

"الدمّ ما جفّ/ والجرح ما خفّ/ ولا كفّ الكفّ عن التسديد/ فاخلع نعليك وقف في الصفّ ده النصر أكيد/ والصبح الجاي ملهوش مواعيد".

قلتُ لا يوجد ما يضطره هناك للادعاء، أو محاولة الاحتفاظ بصورة نمطية للمناضل البطل، لا حاجة لديه لاستنساخ مشاعرَ كتب عنها شعراء أجيال سابقة حين تغزلوا بالوطن من وراء القضبان. لكن أيضاً ليس هناك ما يضطره للامتثال الكامل للنموذج النقيض، حيث من المستهجن الحديث عن غير الهزيمة واليأس والنقمة والغضب.

هناك، على أشباه الورق، لم يكن يكتب إلا لنفسه ليعينها على تحمل رمادية الجدران، تلك الجدران التي وضع عليها في اليوم الأول "علامة"، ثم مرت المياه من تحت عشرات الجسور، فكتب في عامه السابع:" أضع علامةً جديدة على الحائط، لأنهي شهراً بانتظار آخر، وفي الحائط متسع لمنتهى العمر".

لم تكن الفسحة بالحائط، ولكنها بالنفْس التي استطاعت بشكل أو بآخر صياغة معادلة راجحة في جملةٍ واحدة، فوجدت في العقل متنفساً يحميها من وهم النجاة القريب، ووجدت في القلب ملجأً يجنبها مخاوف الشعور بانسداد الطريق. وهكذا مرت من بين أصابعه الكتابةُ رغم تهتك التفاصيل والمفاصل تحت وطأة وثقل الليالي.

هو أحد الوجوه التي تدفع الثمن بدلاً عن جيلٍ كامل كان شعاره هو تهمته: "شباب من أجل التغيير". جيل هتف "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"، فما جابوا وما ماتوا.

جاءت كتابته وفق ما يقتضي المنطق، ويتفق مع سمات التجربة الفريدة المريرة. وكيف لا؟ وهو أحد الوجوه التي تدفع الثمن بدلاً عن جيلٍ كامل كان شعاره هو تهمته: "شباب من أجل التغيير". جيل هتف "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"، فما جابوا وما ماتوا. طالت السنوات بهم، ولم تضاهِ هول التغيرات، انهالت الفظائع والمواجع فوقهم لكن وكأن القدر لم يكتفِ بعد ليجسر الهوة السوداء الرهبية التي خلقتها اللحظة الشهباء المجيدة التي ما إن تبدّت حتى تبددت.

يقول الشاب الثوري:

"كان يلزمني الكثير

فنحن العاديون

تلزمنا حماقة المسافة

لنرى

تلزمنا دهشة الرؤية

لندرك

وتلزمنا فداحة الإدراك

لنتفتت

على صخرة الزمان المخادع".

***

انغلق عليه باب الزنزانة في ليلة 8 كانون الأول/ ديسمبر 2013، ليلاقي على مدار سنوات ما لاقاه آلافٌ غيره، سواء قلّ قدر الوجع أم زاد، تعذيب وتنكيل ونهب للأرواح والأيام والصحة من الأجساد.

هناك، وحين تمتد سنوات التجربة، تبهت التفاصيل حيناً، وتنغرس كالوشم أحياناً أخرى. يحكي "دومة" عما سمعناه من غيره، ولكن هذه المرة بلغته التي تختلط فيها الفصحى بالعامية، فتأتي تعبيراً عن تباريح كل سجين في كل زمان ومكان.

توقفت مع هذا التأمل في اللون الأبيض، الذي ككل شيء في الحياة قد يصبح هو الأصل، وقد يصبح هو النقيض ..

"وبياض البدلة الميري لا يشبه بياض الصفو، أو الطمأنينة في شيء/ لن يذكرك بالسُحب، بالحليب، أو حتى بالأرانب (في قريتك البعيدة)/ أبيض اللالون هو، أبيض اللا معنى/ محايٌد، مائع، وباهت/ هو لبياض الكفن أقرب. لولا أن الكفن انتقال ليقين، وذاك انتظار في شك/ لولا أن الكفن يوصلك للملائكة - أو حتى لزبانية، ينفّذون أمر الحق عدالةً ورحمة/ أما ذاك فيسلمك لمن ينفّذون أوامر طاغية، لا رحمة فيها، ولا حتى عدل".

ومن اللون الذي فقد روحه، للوجوه، فيحكي عن ذلك الطابور الذي يطلق عليه السجانون "التشريفة". نعم هو نقطة الانتقال من حياةٍ إلى حياة، هو ـ كما كتب عنه ـ أول ملمح لاستيعاب "الهزيمة":

"للهزيمة ملامحها، تنطبع على وجوه المنهزمين فيتماثلون كأنهم نَبْتٌ من رحم واحد، ولو فصلت بينهم فصول التاريخ وأميال الجغرافيا، كان الطابور مهيناً جارحاً في أهون الصياغات. عراةٌ من كل حماية، منكسرون "كان الأمل يسندهم"، شَيّبتهم الخسارة. طابورٌ طويل كنت على رأسه ومن خلفي الرفاق، الكل من شباب الثورة، الكل من أبناء الميدان، الكل مرضى نفسيين مع سبق الإصرار، لو رأيت النظرة الجماعية للأرض!! - أي قيد حقير يشّد لتحت تلك الأعين التي ما تطلعت إلا للسماء؟ - هرباً من أعين الرفقاء، ربما، أو من الاعتراف للنفس بحقيقة الواقع الجديد".

وحين تمر الأيام وتعتاد العين على رمادية الجدران، تعيد الروح بناء وحدتها، فينظر إلى تلك الطاقة الجديدة التي انفتحت له مع الكتابة:

"ليس أثمن من انفتاح نافذة جديدة، خاصةً هنا، على الدنيا.. على الحرية. صحيح أن النافذة أحادية الوجهة، لم تزل، إلا أنها أول الخطى، مربكٌ أن يُنظر إليك، ولا تقدر على النظر. مربكٌ جداً، لكن احتمال أن تُرى، يعني، أهم ما يعني، أنك حيٌّ، وقادر رغم كل شيء، وهذا ينسف مراد السجن والسجان".

ثم ينظر إلى من حوله باعتبارهم هم الكنز والرحلة:

"مانيش مشغول يكون اسمي

ما بين أهل الخلود محفور

لكن نفسي أكون

-في السجن -

طاقة نور

تعزّي المحرومين

-يا حرّة- من خيرك" .

نعم ليست المرة الأولى له، سبقتها مرات ومرات خلال حكم مبارك والمجلس العسكري والإخوان، لكنها المرة الأولى يقيناً من حيث شراسة التجربة وقتامة الصورة، ولعلها أيضاً ـ و كما يرى الكثيرون ـ الأعمق من حيث اتساع إمكانات الهضم وإنضاج الأفكار.

جاءت هذه الحبسة بعد مرحلة ملتبسة، اختار فيها القدر لـ"دومة" أن يأتي تمثيلاً لملايين غيره احتارت بوصلتهم كيف تهتدي في ظل هذه الدوامة المحمومة التي سقطت فيها البلد بين معسكرين ضد الثورة، ويتحدثان باسم المصلحة العامة والناس؟

اكتسب دومة خلال أشهر قليلة الكثير من المنتقدين والأعداء، لكن حين استعر الأمر اختار النزول، كانت مسيرة مؤثرة ضمت مئات من وجوه شابات وشباب الثورة، نزلوا للاعتراض على عدد من المواد التي يتم ضمها للدستور، فتم القبض على العشرات. وفي اليوم التالي توجه آلاف، من بينهم "دومة"، إلى باب المحكمة العريض ليعترفوا على أنفسهم بفعل "التظاهر" دون خوفٍ أو إنكار. تم القبض عليه بطريقة درامية بعد اشتباك مفتعل تداخل فيه حتى المارة دون مبرر أو إنذار، وبالسجن توالت الاتهامات، وكان أبرزها تلك القضية التي ما زالت منظورة حتى اليوم، وتضم مئات من الشابات والشباب تحت اسم "أحداث مجلس الوزراء"، تلك التي كانت في كانون الأول/ ديسمبر 2011، وانتهت بسقوط عشرات الشهداء، ثم ودون منطق أو تفسير، تمر السنوات لتنقلب الصورة، وتتم ملاحقة المجني عليهم بتهم الحرق والإتلاف والتبديد.

ليست المرة الأولى له، سبقتها مرات ومرات خلال حكم مبارك والمجلس العسكري والإخوان، لكنها المرة الأولى يقيناً من حيث شراسة التجربة وقتامة الصورة، ولعلها أيضاً ـ و كما يرى الكثيرون ـ الأعمق من حيث اتساع إمكانات الهضم وإنضاج الأفكار.

جاءت هذه الحبسة بعد مرحلة ملتبسة، اختار فيها القدر لـ"دومة" أن يأتي تمثيلاً لملايين غيره احتارت بوصلتهم كيف تهتدي في ظل هذه الدوامة المحمومة التي سقطت فيها البلد بين معسكرين ضد الثورة، ويتحدثان باسم المصلحة العامة والناس؟ 

في السجن تعرض "دومة" لمحاولة اغتيال على يد متشددين دينيين اعتبروه شريكاً للسلطة التي لم تمر أشهر على وصولها للقصر حتى حبسته.

فلعلها كانت فرصته، ومعه أيضاً هذه المرة ملايين ـ وأنا واحدة منهم ـ لمراجعة مواقفهم ومحاسبة أنفسهم والرفق بها وإنضاجها، والإيمان أن نهاية المطاف ليست بيد طرف واحد مهما طال الأمد، فبعد كل حينٍ يأتي حين.

***

"اسمحوا لي، إذا

كما أدخن سيجارة في شرفة بيتي (الذي هدّمه الغياب)

كما أقبّل حبيبتي (أتلفّت الآن فلا أجدها، رحلت هي الأخرى؟)

أو – حتى - كما أصلي (نافلة اشتياق، لا فريضة انسياق)".

"كما". لعل الكلمة التي اختارها "دومة" بنفسه هي الأكثر مقدرةً على التعبير عن حالته، فقد كانت وستبقى سر قصته وتفرده في كونه دوماً "كما" الجميع، يدفع الثمن بدلاً عنهم، يحمل مثلهم تلك السمة، هو ابن الانفعال والتجربة، له تلك الحماسة والانغماس عند الحسم، دون تفصيل بالأيديولوجيا أو انفصال عن الفهم والتفكير.

ليس في السياسة وحدها، ولكن في تفاصيل الحياة ذاتها، فقد احتلت الحبيبة جزءاً كبيراً من كتاباته، وعاش بالواقع تجربةً صعبة مدوية، وهي إعلان الانفصال الرسمي عن زوجته وشريكة الميدان، تلك المحنة التي لا يهتم منصِفاً بمحاكمة أي طرفٍ عنها، ولكن يتأمل تكرارها كنهاية حزينة لمئات من قصص الحب التي شملت شريكات وشركاء الميدان ذاته، فهل افتقاده يحمل شيئاً من التفسير؟!

وعند مد الخط على استقامته، تأتي الحسرة على المشقة التي يلقاها الأهل، ليس فقط بسبب ما يعانونه أمام بوابات السجن، ولكن بسبب انكسارهم على هذا "الابن الحلم" الذي كان وهجهم فآمنوا به واتبعوه كأنه كبيرهم لا صغيرهم حتي عاد الكون ـ به وبهم ـ إلى الساحة الضيقة، وانعدام الثقة في إمكانية التغيير.

"شبَه"أبو ذر" في زهده/ وحُسيني في رسالته وجهده/ الله يحبه، فمختاره/ من اللي بالصبر يجاهدوا

عذراً يا أبويا ما تزعلش/ إنت اللي قلت لي: يا ابني امشي/ في سكّة الحق، ولا تخاف/ ده اللي يخاف ما بيوصلش.

يعوّضك ربي بفضله/ ويحقق العدل.. بعدله/ ويرجّع اللمة الأولى/ ويعدّل الحال على عِدله"

***

قاتل بياخد العزا"

وقتيل بياخد جِزا

يا مصر:

يا معجزة

يكفيكي هذا العبث

في قلبي

غربتي وهمي

وبكره حاني لي أكتافي

وبسمة حضنك الدافي

تقيم ضهري وتحميني

ف ليه بإيديكي ترميني

ف بير فايض وجع صافي

وانا اللي باحسبك أمي ؟"

***

منذ قرار حبسه، لم يخرج دومة للشاشات إلا في مشهد واحد، لعله جاء رغماً عنه، لكنه بالتأكيد أحسن استغلاله، حين تم اختياره وغيره من الأسماء ـ ذات الحضورـ للتدليل بالتصوير على اتخاذ التدابير اللازمة، وإجراء مسحات طبية للسجناء المشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا.

ليس في السياسة وحدها، ولكن في تفاصيل الحياة ذاتها، فقد احتلت الحبيبة جزءاً كبيراً من كتاباته، وعاش بالواقع تجربةً صعبة مدوية، وهي إعلان انفصاله عن زوجته وشريكة الميدان، تلك المحنة التي لا يهتم منصِفاً بمحاكمة أي طرفٍ عنها، ولكن يتأمل تكرارها كنهاية حزينة لمئات من قصص الحب التي شملت شريكات وشركاء الميدان ذاته، فهل افتقاده يحمل شيئاً من التفسير؟

أمام الكاميرا ضحك "دومة"، ضحك عن قصدٍ وباستفاضة، فانفعل بصورته الملايين ممن يعرفونه ويعرفون لماذا اختار الابتسامة، وكتبوا معلقين: "واللى هيفضل ضحكة المساجين".. "وتعيشي يا ضحكة مصر". 

______________

[1] وكأن الكتابة والقول والإبداع ضرورات حياتية. تُذكّر هذه الواقعة بما رواه وقدمه معتقلو "معسكر الخيام" الإسرائيلي في جنوب لبنان، وهم بالالاف، حين كتبوا على ما أتيح لهم، ومنها ثيابهم، شعراً وقصصاً، وأنجزوا أعمالاً فنية وهم في معتقل سري وفي أسوأ الظروف الممكنة.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...