عن عذابات "علي البدري"!

قبل التلفاز، كانت الحكاية إحدى وظائف الأمومة، حتى أننا درجنا على نسخ مواضيع التعبير السنوية عن "عيد الأم" من كتب الإنشاء التي تزخر بتعداد موجبات تقدير الأم، فإذ بها إلى جانب سيل الخدمات التي تؤديها، لا تهمل واجبها الاجتماعي والوطني بزرقنا بحقن "الثقافة" عبر حكايات ما قبل النوم. كانت حكاياتنا مفعمة بالوعظ والأحكام. إحداها مثلاً حكاية "عروج ومروج" التي تشبه حكاية
2016-02-19

ضحى العاشور

كاتبة من سوريا


شارك
جابر العظمة-سوريا

قبل التلفاز، كانت الحكاية إحدى وظائف الأمومة، حتى أننا درجنا على نسخ مواضيع التعبير السنوية عن "عيد الأم" من كتب الإنشاء التي تزخر بتعداد موجبات تقدير الأم، فإذ بها إلى جانب سيل الخدمات التي تؤديها، لا تهمل واجبها الاجتماعي والوطني بزرقنا بحقن "الثقافة" عبر حكايات ما قبل النوم. كانت حكاياتنا مفعمة بالوعظ والأحكام. إحداها مثلاً حكاية "عروج ومروج" التي تشبه حكاية شعبية تونسية اسمها "أمي سيسي" حيث يتعاطف النهر مع القط ويجبر الآخرين كل بدوره على بذل ما يمكن لإنقاذه. أما في نسختنا السورية، فكانت العصا هي التي تنهض لتأديب الكسالى فيهرع الجميع إلى أعمالهم! وكانت الترنيمة التي ينبغي ترديدها قبل تمنّي الخير والأحلام السعيدة: العصا خرجت من الجنة!
كانت عصا التربية والتعليم رفيقة دربنا، محمودة الذكر وحاضرة دائماً. فحرف الألف يشبهها وأول الأرقام يكتب مثلها، حتى أن مدرّبة الفتوة في الإعدادية كانت تطالبنا أن نقوّم ظهورنا ونقف على شاكلتها كجنود أشدّاء. ولم يقتصر وجودها على المجاز فقط، بل كانت صاحبة الكلمة الفصل في كل الحصص الدراسية وفي البيوت والشوارع أيضاً حيث يُستكمل العمل على إعداد جيل عقائدي منضبط يتربص به الأعداء من كل جانب.
وكما تطوي الهموم الكبيرة هموماً أصغر منها، جعلت الهراوات ووسائل التعذيب من العصا التي تربينا في ظلها ذكرى "رحيمة"، أو كما يقول أهالينا عند معاتبتهم على قسوتهم: كانت مجرد نفض غبار! ولأجل نفض غبار الأسئلة والشقاوة والتجريب اخترع الأهل عبارة "اللحم لكم والعظم لنا"، وهم يسوقون أولادهم إلى المدارس وكأنهم يدفعون بهم إلى جزّار بمنتهى الرضا والتسليم.

العصا لمن عصا

واحدة أخرى من ذخيرتنا الثقافية، حيث بات الحق ينطق باسم القوة وليس على الناس سوى طاعة أولي الأمر ليأمنوا على حياتهم أو أجسادهم أو أعمالهم. ما يجعل من العصيان فعلاً مداناً اجتماعياً وثقافياً بصرف النظر عن مبرراته وملابساته وحجمه، وما يضع المتمرد سلفاً في موقع الاتهام أمام مجتمعه قبل قضاته وحاكميه.

محنة جيل: علي البدري نموذجاً

منذ أسابيع، رحل الممثل المصري "ممدوح عبد العليم" الذي عرفه جيلنا باسم "علي البدري"، أحد أبطال مسلسل "ليالي الحلمية" الشهير بفضل عوامل النجاح الكثيرة التي توفرت للمسلسل. ميزة علي البدري قلّة تميّزه عن أي شاب في مقتبل العمر من بلادنا المبتلاة بصنوف الاستبداد والظلم والتخلف والعوز، الشاب الذي يلتمس إشباع حاجاته الأساسية إلى العيش في أسرة وتعليم وصداقات وعمل، طامعاً بعلاقة حب تقوده إلى زواج سعيد، لكنه يجد نفسه غارقاً في صراعات التفاوتات الطبقية والاجتماعية، ممزقاً بين العادات والتقاليد التي تختلف بين المدينة والريف، بين الأحياء الشعبية والأحياء الأرستقراطية، بين الرجل والمرأة. عليه أن يتغلب على صرامة نظام التعليم ويدرس ما يختاره الأهل، أن يبتلع يتم الأم ويتحمل قهر تخلي الأب (الباشا)، عليه أن يساير ويحترم ويبجّل ويؤجل همومه ويكون مراعياً لحساسيات شبكات معقّدة من العلاقات المتراكمة المتداخلة عشوائياً في نسيج المجتمع الذي لم تصهره ثقافة وطنية جامعة، فتراه يحافظ على قدسية مكانة الباشا رغم نزع بعض أملاكه، فيبرر أفعاله بما فيها تخليه عن أولاده من زوجات سابقات بدعوى أنه لم يهمل ارسال المال لهم، وفي الوقت الذي كان يتوجب على "علي" أن يجامل الباشا الآخر والد حبيبته "زهرة" الذي تركها تتربى في ميتم، كان يحاول أن يقبل مجتمعه وينصاع لتراتبياته وأخلاقياته الجوفاء، فهذا الأب المخّول بضرب ابنته وشدها من شعرها مفاخراً بوفائه لأصوله الفلاحية التي تحرّم على الفتاة أن تقابل شاباً في مكان عام، هو نفسه الرجل الذي سيبارك هذه العلاقة عندما يجدها مدخلاً للوصول إلى ثروة الباشا والد الشاب. في مسلسل "ليالي الحلمية" كان يلزم الكثير من سُكّر الفن الدرامي لتسويغ سلوكيات الكثير من الشخصيات، وحدها شخصية "علي البدري" بقيت أقرب إلى العفوية الهشة التي تشبه معظم أبناء جيله والجيل اللاحق له الذي يتشارك قدر العيش في أوطان بالكاد تعطي أبناءها فتاتاً وتسرق أعمارهم وتنتهك تفاصيل حياتهم وتريدهم عباداً وعبيداً، لا مواطنين.
"علي البدري" يدخل السجن بسبب تمرده على السلطة، ويخرج بواسطة شبكات المال والفساد، ثم يصبح رجل أعمال ناجح. يستطيع "علي" أن يجيّر ثقافته ومعارفه وعلاقاته ورأسمال والده الثري ليغدو اسماً في عالم المال والأعمال، خاصة وأن العواصف السياسية كانت قد ذهبت باتجاه الانفتاح الاقتصادي وأرخت قبضة القمع تحت شعار: العصا مقابل الجزرة!
قصته ونظرائه الكثر هي حكاية يرويها التاريخ بطريقتين: الأولى والأكثر شيوعاً مؤداها أن العصا خرجت من الجنة، انظروا كيف نجحت بتأديب الفتى وردّه إلى بيت طاعة أولي الأمر والسير مع التيار، وهي الطريق الوحيدة الآمنة إلى الترقي الاجتماعي والأمان. الحكاية الأخرى تفترض أن السعادة والرضا وراحة البال والضمير هي ما ننشده من سعينا على هذه الأرض. و"علي" لم يصبح سعيداً لا في المسلسل ولا في الحياة. لقد انكسر "البطل" وهذا طبيعي في ظل الظروف القاهرة المحيطة به. ولعل تحطيم صورة البطل في الوعي الجمعي هي إحدى المنجزات الضرورية لثقافة جديدة تريد أن تولد بالتعاون والمشاركة الواسعة لفئات ظلت مهمشة تقتات على انتظار العدالة الالهية أو ظهور زعيم مخلّص "طويل القامة عريض المنكبين" كما اعتدنا أن ننسخ في مواضيع الانشاء، وكما سخر "علي البدري" من الحشو المترهل في المحفوظات الطنانة التي تفاخر بماضٍ انتقائي مصنوع، لتعوّض عن فقر الحاضر وعجز ناسه عن التفاعل مع مشكلاته.
صحيح أن العصا أكلت لحم أجيال وكسرت قلوبهم وشظّت أحلامهم، لكن من قال إن العصا لا تنكسر؟!
تفترض الحكايات المقابلة لحكاية انتصار العصا على العصيان، أنه يمكن أن تنكسر العصا، وإن لم تُكسر بقوة توازيها أو تتفوق عليها، ربما تداعت بفعل الشجاعة، شجاعة الإرادة بما هي ولادّة لثقافة يعوّل عليها في مواجهة التحديات عبر محاولات هادئة عميقة متكررة تُعلي شأن الإنسان وهمومه وحقوقه.
وربما أولى بداهات الثقافة الجديدة، على الرغم من العنف الشنيع الذي نغرق فيه، أن نتوافق على أن العصا لم تأتِ من الجنة، بل في الحقيقة أتت من الاعتداء على حياة شجرة، وأنها لا تصلح إلا لقيادة الخراف والخرافات.  
 

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

هل "المرأة عدو المرأة"؟

تصنيف البشر ونمذجتهم والحكم عليهم على أساس اعتبارات جوهرانية، من أي شكل كانت، هي واحدة من أشكال التحكم والسيطرة على العالم عبر إقامة أسوار من العزلة بين مكوناته.