تطبيع الظلم: "خداع" السنّة في العراق مثالاً

تخبرنا الكيفية التي تُروى بها الانتهاكات ضد السكان العرب السُنّة في العراق، والتوظيف السياسي لها، عن طبيعة خطاب المظلوميات السائد في منطقتنا اليوم، من حيث كونه خطاباً غير معنيّ بإنصاف "المظلوم" قدر عنايته بتأكيد سردية عن الظلم، انتقائية بالضرورة، تخدم أغراض القوى المستفيدة من إشاعة تلك السردية. لكن الظلم الذي يتعرض له مئات الآلاف من المدنيين، الذين اختزلوا هوياتياً وسياسياً إلى
2016-01-28

حارث حسن

باحث من العراق


شارك
ديلير شاكر - العراق

تخبرنا الكيفية التي تُروى بها الانتهاكات ضد السكان العرب السُنّة في العراق، والتوظيف السياسي لها، عن طبيعة خطاب المظلوميات السائد في منطقتنا اليوم، من حيث كونه خطاباً غير معنيّ بإنصاف "المظلوم" قدر عنايته بتأكيد سردية عن الظلم، انتقائية بالضرورة، تخدم أغراض القوى المستفيدة من إشاعة تلك السردية. لكن الظلم الذي يتعرض له مئات الآلاف من المدنيين، الذين اختزلوا هوياتياً وسياسياً إلى "سُنّة"، ليس مجرد سردية، بل واقع مؤلم يتجسد بقصص العوائل المشردة، والأبرياء المحجوزين في السجون، وأطلال القرى والمدن التي فُرض عليها أن تصبح جزءاً من لعبة أكبر بكثير من الأحلام البسيطة للنازحين بالعودة إلى بيوتهم، وللمعتقلين ظلماً بالحرية، وللجائعين في العراء بوجبة طعام أخرى. قصة "خداع السنة" في العراق، لا من قبل أعدائهم فقط، بل أولاً وقبل ذلك، من قبل الناطقين باسم مظلوميتهم، تقول الكثير عن الكيفية التي تعبث بها السياسة ومقاولوها الداخليون والخارجيون بمصير السكان لأغراض لا علاقة لها بهم وبحاجاتهم.

مثال.. أمثلة

فبعد يوم واحد من إعلان "تحالف القوى السنية" مقاطعة جلسات البرلمان العراقي احتجاجاً على اقترافات الميليشيات الشيعية في مدينة المقدادية، وظهور استنفار بين النخب السنية في الإقليم تَجسَّد مثلاً في الدعوة إلى تدويل قضية المقدادية، نشرت "منظمة العفو الدولية" تقريراً موسعاً عن قيام الميليشيا الكردية بتدمير وإحراق آلاف المنازل في مدن وقرى يقطنها سكان من العرب السُنّة في الموصل وكركوك وديالى. وفي أول تعقيب من سياسي سني بارز، أنكر محافظ نينوى السابق، أثيل النجيفي، تورط البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان بتلك الأعمال، ونسبها إلى مجاميع من الأيزيديين الغاضبين المدعومين من حزب العمال الكردستاني، ملقياً اللوم في النهاية على الحكومة العراقية لأنها تدفع رواتب لتلك المجاميع. لم يعد بالإمكان إنكار أن هناك أوساطاً واسعة من السكان العرب السنة في العراق، تشعر بأنها أقصيت أو ظُلمت من قبل السلطة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003. كتب الكثير عن ذلك، وحمّل البعض المسؤولية لقوات الاحتلال وانتهاكاتها ضد المدنيين خلال المواجهات المسلحة في المناطق ذات الغالبية العربية السنية، وقرارات اجتثاث البعث وحل الجيش والقوى الأمنية السابقة. وهناك من ركّز على الميليشيات الشيعية وعمليات التهجير والقتل التي قامت بها ضد المواطنين السنّة خلال الحرب الاهلية في بغداد، أو على حكومة المالكي و "ممارساتها الطائفية"، أو على القوى السنية نفسها التي فرضت على مجتمعاتها خيارات انتحارية تجسدت أخيراً في تنظيم داعش.. أياً كانت الطريقة التي جرى فيها تناول "الغُربة" السنيّة في عراق ما بعد صدام حسين، فإن هناك حقيقتين يصعب التغاضي عنهما: الأولى هي أنّ العراق شهد تكوُّن وصناعة مشكلة "سُنيّة" ازدادت تعقيداً عبر نمط السياسات والصراعات التي عاشها في السنوات الثلاث عشرة الماضية، والثانية هي أن هناك من أراد استثمار تلك المشكلة لتحقيق غايات سياسية، بطريقة مشابهة لتلك التي استثمرت فيها القوى الشيعية والكردية مظلوميات جماعاتها.

 وبدون الفصل بين الشعور السائد في أوساط السكان الموصوفين - قسراً في بعض الأحيان - بـ "السنة"، وبين التوظيف السياسي والدعائي لهذا الشعور، ستظل "المشكلة السنية" موضوعاً لتلاعب المقاولين السياسيين الذين يسعون لأهداف ومصالح لا علاقة لها بحاجات السكان، أو بضاعة للمتاجرة اللفظية من قبل كتّاب طائفيين، سواء كانوا يزعمون التعاطف مع "إخوانهم السنة" في العراق، أو على العكس، يحاولون المساواة بين كل "سني" وبين داعش، ليبرروا انتهاكات الطائفة الأخرى.

القراءات المبسطة

قبل بضعة أشهر، كتب جون بولتون، سفير الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة، مقالة يدعو فيها إلى إقامة دولة سنية في العراق وسوريا. وبينما يبدأ بولتون مقالته بالحديث عن الظلم الذي يتعرض له "السنّة" في العراق وسوريا على أيدي أنظمة تابعة لإيران الشيعية أو مدعومة منها، فإنّه ينتقل سريعا للحديث عن الفوائد الاستراتيجية التي ستتحقق من إقامة دولة سنيّة تفصل الكيانين الشيعيين وتصبح حليفاً محتملاً للغرب في صراعه مع إيران. تمثل مقالة بولتون نموذجاً جيداً لطبيعة النزعة الاستعلائية السائدة وسط اليمين الأمريكي وحلفائه، مخلوطة بمعرفة شديدة السطحية بشؤون المنطقة، إلى حد تصور أنّ كلمة "سني" كافية لتغيير الخريطة الإقليمية وإنشاء دول جديدة على أنقاض دول أخرى. هذا الفهم يعكس الكيفية التي جرت فيها خلال السنوات الأخيرة عملية تحويل الطوائف إلى كيانات ثابتة، ومنحها ماهيات نهائية يجري على أساسها تصور أنّ الصراع الجيوسياسي الراهن هو في أصله وجوهره نتاج لأحقاد مذهبية قديمة.

 بفضل هذه القراءات المبسطة أحيانا، والمغرضة في أحيان أخرى، سادت سردية تربط بين "التهميش السني" وظهور داعش، مفادها أنّ السكان السنة قبلوا بسلطة داعش بسبب شعورهم بالظلم تحت حكم النظام العلوي في سوريا والحكومة الشيعية في بغداد. بالطبع، لا يمكن إنكار أن داعش استطاع التسلل من بيئة الصراعات والانقسامات الطائفية واستفاد من فرص التجنيد وأحياناً التعاطف المحلي في مواجهة أنظمة صارت تصطبغ بهويات "الآخر" الطائفي، كنتاج لعملية تطييف سياسي لعبت تلك الأنظمة، كما خصومها، دوراً كبيراً في تأجيجها. لكن استخدام ذلك التماهي المحدود والظرفي لتحويله لسردية كاملة عن أسباب صعود داعش، والعلاج لهذا الصعود، ينطوي على إنكار للكثير من الحقائق. فالتنظيمات الجهادية على أنواعها وجدت قبل "المظلومية السنية" في العراق وسوريا، وفي معظم الأحيان كان صراعها يجري مع حكومات سنية، كما أنّها استطاعت أن تبني لها وجوداً في بلدان لا تشهد انقساما سنيا - شيعيا مثل ليبيا والجزائر ومصر وسواها.

 هل كان داعش سينمو ويكبر لو لم يكن هناك انقسام طائفيّ في العراق؟ على الأرجح، كان سيستعصي عليه تحقيق بعض نجاحاته، أو السيطرة على مدن رئيسية في البلد لو لم يكن الانقسام السني - الشيعي قد شكّل الاصطفافات السياسية في العراق. لكن حقيقة أن داعش وغيره من التنظيمات "الجهادية" أقام وجوداً في كل بلد ضعفت فيه هيمنة الدولة وظهرت فيه فراغات سلطة، تؤكد أن المشروع مستقل إلى حد كبير عن هذا الانقسام، ولديه منطلقاته وتصوراته التي تشكلت حتى قبل أن يتعمق الانقسام الطائفي في المنطقة، بل إنّ بعض تلك المنطلقات تشترك فيها جماعات سنية وشيعية على حد سواء. فظهور داعش لا يمثل تحدياً لمنطلقات الإسلام السياسي السني وحده، ولكنه أيضا يتحدى منطلقات الإسلام السياسي الشيعي، على الرغم من لغة الإنكار السائدة في أوساطه، والتي يساعدها الاستقطاب الراهن (وسيادة مشاعر الخوف) على تجنب الذهاب الى مراجعة جدية لمنطلقاتها.

الخاسر الأكبر

لا يحتاج الأمر للكثير من التبصر لندرك أن "السنّة" هم أكبر الخاسرين حتى اليوم من الطريقة التي استثمرت فيها "مظلوميتهم"، سواء على يد داعش أم على يد غيره من "المتعاطفين". لا أحد يدرك ذلك بقدر النازحين والمهجرين من بيوتهم ومدنهم، وعددهم اليوم في العراق يتجاوز بحسب بعض التقديرات ثلاثة ملايين، يشكل "العرب السنة" غالبيتهم. لكن الخسارة ليست إنسانية فقط، بل هي سياسية أيضا. فالحرب مع داعش أتاحت استكمال عمليات التغيير الديموغرافي بطريقة أضرت بالسكان السنة أكثر من غيرهم. والانتهاكات التي جرت في المقدادية على يد بعض الميليشيات الشيعية هي جزء من عملية تغيير ديموغرافي منظم، يستهدف إعادة ترسيم الحدود المذهبية بالطريقة التي تناسب مصالح وأهداف تلك الميليشيات، أو تعبِّر عن نزعة انتقام متصاعدة تقاوم العقلنة، وتضفي على نفسها "قدسية" تَحُول دون أي نقد جدي لبعض سلوكياتها. وبينما تهرب الحكومة من مواجهة تشدد تلك الميليشيات عبر تحميل داعش (أو من يريدون أن "يزرعوا الفتنة!") مسؤولية تلك الانتهاكات، فإنّ بعض الفيديوهات التي تسربت حديثاً أظهرت مقاتلين يقرون بحرقهم لمساجد سنيّة مستخدمين خطاباً طائفياً يتعارض تماماً مع الخطاب المعلن لفصائل الحشد الشعبي التي تصر على كونها قوى "وطنية"، ويتعارض مع إرشادات مرجعية النجف التي أكدت تكراراً على تجنب الأعمال الانتقامية ضد المدنيين.

 وإلى الشمال، يستكمل إقليم كردستان ترسيم حدوده مستفيداً من مظلة الحرب مع داعش، ومن صمت من يعتقدون أن المعركة سنية - شيعية ولا داعي لفتح جبهة مع الكرد "السنة". يذكر تقرير منظمة العفو الدولية أنّ ما قامت به الميليشيات الكردية يرقى إلى مستوى "الاجتثاث للمجتمعات العربية (السنية) في ما يبدو أنّه انتقام من تواطئهم المفترض مع ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية". استند التقرير إلى تحقيقات أجرتها المنظمة في 13 قرية ومدينة، وإلى شهادات سكان محليين، وصور أقمار صناعية تَأكّد منها وجود تدمير متعمد واسع اشتركت فيه قوات الإقليم مع ميليشيات كردية سورية وفصائل من الأيزيديين. يشير التقرير إلى أنّ "القوات الكردية تقوم على ما يبدو بإجبار السكان العرب على الرحيل عبر تدمير قرى بأكملها في مناطق تمت استعادتها من داعش شمال العراق".

 لقد عانى معظم الكرد والسنة والشيعة الكثير بسبب العنف الراهن، لكن تطييف المعاناة عبر ربطها بغرض سياسي وبصراعات لا علاقة لها بالرغبة الطبيعية للناس العاديين بأن يعيشوا بسلام وبالحد الأدنى من الكرامة، أفقد تلك المعاناة قدرتها على إنتاج الأثر الطبيعي من التعاطف والتضامن. هكذا، أنتج سوق المظلوميات الرائج في منطقتنا اليوم تطبيعاً للظلم، وصار الصمت والتواطؤ (حينما لا تمس الجريمة "جماعتنا" أو حينما لا يكون مرتكبها "عدونا") سلوكاً جمْعياً يحفزه الخوف من إزعاج "يقينيات" الجماعة التي ننتمي لها، أو مرده فقدان ما تبقى من قدرة التعاطف الإنساني مع الجماعة التي لا ننتمي إليها، أو ربما خشية كثيرين منّا أن يتكلموا، فيبقون في نهاية المطاف "بلا جماعة"! وهنا، أراد الناطقون باسم مظلومية السنّة أن يصنعوا من السنة "جماعة"، فأسهموا في صناعة معاناة لا يبدو أن لها نهاية قريبة.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

سقوط ''الخضراء'' في بغداد

حارث حسن 2016-05-12

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555...