أعاد الربيع العربي طرح سؤال العلاقة بين الدين والدولة، السؤال الذي كان محور نقاشات الانتلجنسيا الصاعدة والمصلحين الإسلاميين في "زمن النهضة" نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن إذا كان المحفز الأساسي لهذا النقاش حينذاك هو الانتقال من عصر السلطنة إلى عصر "الدولة الوطنيّة" ومحاولة إيجاد أسس غير دينية لهذه الدولة، فإن النقاش اليوم جاء نتيجة لإخفاق تلك الدولة الوطنية في تجذير نفسها اجتماعياً وثقافياً، وصعود المدّ الدّيني، وتنامي الصراع بين تيارات "إسلاموية" تمركز "الإسلام" في إيديولوجيتها وخطابها، وتبحث عن بديل لفكرة العلمانية الغربية، وتيارات علمانوية تعتبر الإسلام السّياسي الخطر الأكبر الذي يهدّد الدولة الوطنية.
أتاتوركية وبهلوية
هل نفهم هذا الجدل الجديد بوصفه مدفوعاً بنزعة قوى اجتماعيّة وسياسية دينيّة لرفض الحداثة، وتحديداً بعدها "العلماني"، كما تحاول بعض الخطابات الضد - إسلاموية تصويرها، وقد صادف أن بعض النظم الحاكمة تتبنّى هذه الخطابات لمواجهة معارضاتها الاسلاموية.. أم نفهمه كنتيجة لفشل تلك النظم تحديداً في إقامة فضاء اجتماعي - سياسي "علماني" حقيقي قادر على تمثيل المطالب الاجتماعية بلغة عقلانية؟
في المراجعة الأكاديمية لتجربة الدولة الحديثة، يتنامى الاعتقاد اليوم بوجود خلل في فهم العلمانية وتوطينها وتطبيقها في المنطقة. فهذه الفكرة الوافدة مع نتاج الحداثة الغربية كانت لا تزال غريبة على الثقافة الإسلامية، حيث المجتمعات اعتادت أن تعرِّف نفسها من خلال هوياتها الدينية، ولم يكن التحوّل باتجاه الانتماء الاثني او اللغوي قد تغلغل في ثقافة الجمهور، وظلّ إلى حد كبير ايديولوجية "نخبوية" تسعى لاختلاق فهم جديد للأمة غير مرتبط مباشرة بالله والقرآن والسنة، أي بالمعنى الاسلامي للأمة. "العلمانية" كمفهوم لفصل الدين عن الدولة لم تتحقق على أرض الواقع حتى في أكثر نظم المنطقة "علمانية"، بحسب "جوسيلين سيزاري". وما حصل عملياً – في معظم الحالات - هو عملية تأميم للدين وإخضاع مؤسساته لهيمنة الدولة.
وهو الأمر نفسه الملحوظ في تجربة العلمنة في تركيا، عبر قرارات حكومة مصطفى كمال إلحاق المدارس الدينية والطرق الصوفية بمؤسسات الدولة، واستحداث وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بحسب الباحث التركي "بيرول باشكان" الذي يذهب الى أن العلمنة في "الشرق الأوسط" تجلّت في نموذجين، الأول هو النموذج التركي الذي قام على "استيعاب" الدين في إطار الدولة الوطنية ومؤسساتها، سامحاً بذلك بعملية "إصلاح وتحديث وعقلنة" الفضاء الديني، والنموذج الإيراني البهلوي الذي قام على "الفصل" بسبب فشل السلطة السياسية في استتباع المؤسسات الدينية بمقابل فشل تلك – حتى العام 1979- بفرض نفوذها على السلطة السياسية، فتكوَّن فضاءان متنافسان على الشرعية وعلى صياغة الهوية الجمعية والثقافة الاجتماعية، وانتهى هذا التنافس الى انتصار المؤسسة الدينية بعد الثورة الإسلامية.
تأميم الدين
بهذا المعنى، فإن العلمنة دخلت الحيّز السياسي في منطقتنا ليس كايديولوجية قائمة بذاتها، بل كنتيجة طبيعية لانهيار فكرة "الخلافة" ومحاولة قيام دول "عصرية" على اسس ثقافية غير دينية، كالهوية الاثنية أو اللغوية أو الجغرافية. اتجهت مصر إلى ما يشبه النموذج التركي عبر "استيعاب" المؤسسات الدينية في الفضاء السياسي التابع للدولة الوطنية، وهو ما بدأ مع حقبة مؤسس الدولة المصرية الحديثة، محمد علي، الذي استحوذ ــ مثلاً ــ على سلطة تعيين شيخ الأزهر، وأصبح ذلك تقليداً في ظل سلطة ورثته من ملوك مصر، وتعمّق في العهد الجمهوري حينما تم إنشاء "وزارة شؤون الأزهر" وصار رئيس الجمهورية يتولى تعيين شيخ الأزهر، وتعيين وزير الأوقاف، وتَواصل كسياسة حتى أصبحت الدولة في مصر تهيمن على أكثر من 70 في المئة من الجوامع في البلاد.
بالنتيجة، أدّى نموذجا العلمنة المصري والتركي اللذان قاما على تأميم الدين، الى "دولنة" الفضاء الديني والخطاب الديني، وليس الى تحقيق الفرضية العلمانية القائلة أساساً بخصخصة الدين. صحيح أن كِلا النموذجين اقترنا بمحاولات لتحديث الإسلام وجعله أكثر انفتاحاً، إلاّ أنهما أديّا كذلك إلى تطويعه ليصبح أداة للسلطة السياسية تستخدمها حيثما شعرت بأنها بحاجة للدين لشرعنة سياساتها. تعتقد سيزاري وباحثون آخرون، أن التوظيف "السلطوي" للدين سمح تدريجياً بإعادته الى الفضاء السياسي، فالسلطات "العلمانية" كثيراً ما تناست علمانيتها وهي تملي على شيوخ الجوامع ما يقولونه، أو تدرس مناهج التربية الدينية بما يخدم تفسيرها للإسلام. ولم تحظ الأقليات غير المسلمة بالمنزلة نفسها مع إعلان الإسلام ديناً رسمياً للدولة. أصبحت المعركة بين السلطات ومعارضاتها، في جزء كبير منها، صراع حول التفسير الصحيح للدين ومكانته في الهوية والمجتمع والثقافة. لنتذكر هنا أن معظم الجماعات الاسلامية التي ظهرت في سياق الدولة الوطنية الحديثة كقوى معارضة، سلمية أو مسلحة، استندت في فكرها على رفض الخطاب الإسلامي الرسمي ومحاولة إحياء خطاب إسلامي حركي بالضدّ من السلطة. وقد أدّى هذا الصدام بين إسلام سلطوي وإسلام معارض إلى مزيد من الإخفاق لمشروع العلمنة في المنطقة.
يبدو العراق هنا نموذجاً مختلفاً بسبب تعدديته الطائفية، إذ يمكن القول إن هذا البلد شهد تطبيقاً يجمع بين النموذجين التركي والإيراني في الوقت نفسه. فلأن النخب التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 وحتى العام 2003، كانت نخباً سنية، فإنها تعاملت مع المؤسسات الدينية السنية وفق النهج الأتاتوركي القائم على "الاستيعاب". فقد قامت الدولة باعتماد "الاسلام السني" كدين رسمي، واستتبعت معظم الجوامع والمؤسسات الدينية السنية، في حين لم تتمكّن من فعل ذلك مع الإسلام الشيعي ومؤسساته، فدخلت في حالة عداء أو شك أو تعايش صعب مع تلك المؤسسات.
أكبر تلك المؤسسات، الحوزة الدينية في النجف، التي تمثل في تركيبتها ونمط عملها وتمويلها مؤسسة عابرة للدولة الوطنية، وجدت نفسها تحت رحمة سلطة تريد أن تؤمم الدين وتضعف الصلات الدينية والمالية العابرة للحدود بين الحوزة والعالم الشيعي الخارجي. أدّى ذلك ــ قطعاً ــ إلى إضعاف مؤسسة الحوزة، لكنه دفعها أيضاً الى البحث عن سبل بديلة للبقاء وإلى الدفاع عن حيّزها، سواء عبر النهج الانكفائي الذي عرفت به خلال مرجعية ابو القاسم الخوئي، او عبر النهج الحركي الذي أفرزته عملية "التجديد" الفكري التي قام بها محمد باقر الصدر، والتي صنعت حزب الدعوة ولاحقاً التيار الصدري وما صار يُعرَف من قبل البعض بـ "الحوزة الناطقة".
الفرضيات الخاطئة
ما يمكن استخلاصه من هذا العرض السريع لبعض تجارب "العلمنة" في المنطقة، على اختلافها، أنها كانت في أساسها تجارب تقوم على محاولة السلطة السياسية الهيمنة على الدين واستخدامه، وهو ما أفضى غالباً الى قيام المعارضة باللجوء الى خطاب ديني بديل للتصدي لتلك السلطات، بشكل أدى إلى مزيد من الأسلمة للفضاء السياسي ومن التسييس للفضاء الديني. إن العلمنة حصلت في معظم الوقت كمحاولة لدولنة الدين وتأميمه لا كمحاولة لخصخصته عن طريق عزل علاقة الفرد بالله عن علاقته بالمجتمع. ويبدو هنا أن الانقسام الاسلاموي ــ العلمانوي في منطقتنا لم يستوعب هذه التجربة بعد، لأنه ينطلق من فرضيتين خاطئتين: الفرضية الإسلاموية التي تدّعي أن الاسلام كان غائباً عن الدولة الحديثة، والفرضية العلمانوية التي تدّعي أن العلمانية هي موقف ايديولوجي، لا نظام يمايز بين الفضائين الديني والسياسي، الخاص والعام.
صحيح أن العلمانية دخلت المنطقة كمفهوم غريب عن الثقافة السائدة التي لم تعرف فصلاً واضحاً بين الديني والزمني (أو الدنيوي)، وأن عودة الدين الى الفضاء العام تعبِّر بالدرجة الأولى عن أزمة هوية تواجهها الدولة الوطنية، لكن الفصل بين الفضاء السياسي "العقلاني" والفضاء الديني "الروحاني"، يبدو اليوم ضرورة ملحّة لنزع فتيل الكثير من الصراعات المتنامية، وللبدء بحديث جدي عن التنمية. لقد بلغت محاولات "عقلنة الدين" ومحاولات "روحنة السياسة" مدياتها القصوى لتتكشّف عن تلفيق يبقي تداخل الفضاءين بشكل مربك.
العقلنة التي نحتاجها اليوم هي تلك التي لا تعتدي على حيّز لا يخصها، بل تشتغل في إطار حيّزها الخاص المعني بحاجات المجتمع والتحديات التي يواجهها، وكذلك الأمر مع الروحانية، التي تشتغل على نمط آخر من الاحتياجات والتحديات. أن التداخل السياسي ــ الديني وقد بلغ درجات غير مسبوقة اليوم، يتطلب إعادة التفكير بعلاقة الدين بالسياسة، أولاً بوحي من تجربة "العلمنة" الفاشلة التي شهدتها المنطقة منذ بدايات القرن السابق، وثانياً بوحي من تجربة الإسلام السياسي التي، بإصرارها على إخراج الدين من إطاره الروحاني، تكرس استقطاباً حادّا ربما سيدفع الدين ثمنه في المستقبل. استبدال "التلفيق" بـ "الفصل" الحقيقي لعله نموذج لعلمانية مختلفة عن تلك التي عرفتها منطقتنا في تجربة الحداثة القصيرة والمشوّهة، والتي تركتها في منتصف الطريق بين التراث والمعاصرة.