يقرر فريد زكريا، المعلق الأميركي المثير للجدل، في مقالة نشرتها واشنطن بوست، انه لم يعد هنالك أحد في العراق مستعدا للقتال من أجل العراق نفسه. ليس الأمر نقصا في رغبة القتال بشراسة، يضيف زكريا، "فالكرد يقاتلون بشراسة من أجل كردستان، والشيعة يقاتلون باصرار من أجل اهلهم، والسنة المنتمون الى تنظيم الدولة الاسلامية يقتلون ويموتون من أجل قضيتهم. لكن لا أحد يبدو مستعداً للقتال من اجل العراق". ولذلك، يستنتج زكريا "ان المشكلة الحقيقية لا تكمن في انهيار الجيش العراقي، بل في انهيار العراق".
يشارك الكثير من المعلقين زكريا قناعته، بل كل من شهد انهيار الجيش في الموصل وانسحابه في الرمادي، وفي المقابل، الالتزام العسكري والعقائدي للقوات المنضوية في "الحشد الشعبي"، لا بد أن يكون على الأقل قد طرح أسئلة من قبيل: لماذا تبدو الميليشيات أكثر استعداداً للقتال من القوات النظامية؟ ولماذا مَنحت فتوى السيد السيستاني الحشد الشعبي شرعية لم تتمكن الحكومة العراقية من منحها لجيشها؟ هل يمكن تفسير الأمر وفق المبدأ الخلدوني عن دور العصبية في صناعة الغلبة العسكرية؟ أم الاكتفاء بالتفسيرات التي تُعطى في النصوص المعنية بالاستشارة السياسية والتي تركز على قلة عدد الضباط المهنيين، والتسييس العالي للمؤسسة العسكرية، والفساد المتفشي فيها؟
الصراع على الجيش
هنالك تناقض بين مطالبة الجيش بأن يكون "وطنياً" ومدافعاً عن العراق، وبين المطالبة بجعله ممثلاً للشيعة والسنة والكرد في مؤسسة خاضعة لتوافق ممثلي "الطوائف". اظهار زكريا وآخرين الاستغراب تجاه "عدم وجود من يدافع عن العراق" يفترض خطأًّ ان "العراق" هو فكرة محايدة وليست خاضعة للصراع بدورها.
يقدر أحد الخبراء ان بناء الجيش العراقي كلّف الميزانية الأميركية 25 مليار دولار، كما ان حصة القوات المسلحة من الميزانية العراقية بلغت في العام 2014 ثلاثة أضعاف قيمتها في العام 2004، لتصل الى حوالي 6 مليارات دولار. مع ذلك، فإن هذا الجيش، ربما باستثناء القوة الخاصة لمكافحة الارهاب، يبدو في نظر الكثيرين قوة غير جدية على الأرض. ما زالت المعلومات عن الظرف الداخلي للجيش وطبيعة اتصالاته وبنيته الداخلية ومدى اختراقه.. شحيحة، ومعظم لجان التحقيق التي تم انشاؤها منذ سقوط الموصل لم تقدم بعد أي تقارير مهمة، ولا يُحتمل لها ان تخرج بدورها من طور التسييس والسطحية و "التواطؤ" احياناً . لكن ما يمكن استخلاصه من المعطيات القليلة المتوفرة، ومن الجدل الذي يحيط بما حدث، هو أن الجيش العراقي الحالي لم يُشكَّل بنيّة أن يكون مؤسسة فعّالة في المواجهة مع تمرد من النوع الذي يقوده داعش، بل انه كان الى حد كبير ساحة صراع سياسي عميق.
بعد سقوط نظام صدام حسين، طُرحت فكرة تشكيل جيش مهني ومحايد وغير مسيس، لكن الفكرة بدت منقطعة الى حدٍ كبير عن الواقع الصراعي المفعم بعدم الثقة والنزعات التآمرية. لا يقتصر الأمر على غياب الثقافة السياسية الداعمة لمثل هذه الفكرة، بل وأيضاً يخص قوة وتجذر الفكرة النقيضة، القائلة بأن من يسيطر على الجيش يسيطر على الدولة. وهذه الفكرة تُرجمت إلى تنافس على مستويي الصراع اللذين شهدهما العراق منذ العام 2003: مستوى الصراع بين القوى الخارجية حول صناعة الوجهة السياسية والعقيدة العسكرية لـ "العراق الجديد"، ومستوى الصراع بين القوى الداخلية حول امتلاك السلطة وأدواتها. فهمت القوى الاسلامية الشيعية أن الولايات المتحدة تسعى في الحقيقة الى بناء جيش بعقيدة عسكرية متصالحة مع الغرب ومعادية لإيران، وهو ما قاد بالنتيجة الى اتباع الحكومات التي قادتها تلك التيارات لسياسة مضادة تقوم على عنصرين:
الأول، هو عدم الثقة بالمؤسسة العسكرية التقليدية التي خضعت طويلاً لهيمنة الضباط السنة، وبالتالي العمل على تقوية تشكيلات عسكرية موازية، رسمية وغير رسمية، للحد من ظهور الجيش كقوة عسكرية بطموح سياسي.
الثاني، العمل على اعادة تركيب الجيش بحيث يتم انهاء الهيمنة السنية التاريخية عليه، وصناعة عقيدة عسكرية جديدة تتجسد فيها مصالح وتوجهات تلك القوى، وهي عملية تسارعت خلال الدورة الثانية لرئيس الوزراء، نوري المالكي، وبعد تحرره من القيود الأميركية.
باختصار، لم يكن هنالك أي شيء بريء يجري فيما يخص المؤسسة العسكرية: فساد هائل في العقود والتعيينات والادارة، بعدد أصفار تتجاوز أرقام الفساد في أي وزارة أخرى، تنافس أميركي - إيراني، وأحيانا تقاسم للنفوذ، وتسييس غايته كسب ولاء تلك المؤسسة أو بعض منظوماتها أو أفرادها. تصارعت نزعة "امتلاك" الجيش التي تفاقمت في زمن رئيس الوزراء السابق، مع نزعة "تقاسمه" عبر منطق المحاصصة، لينتج عن ذلك شلّ هذه المؤسسة وقدرتها على الفعل والمبادرة، كما الحال مع معظم مؤسسات الدولة العراقية، ولكن على نحو أخطر.
الحشد في مقابل داعش
لم تنه سيطرة تنظيم داعش على عدد من المدن العراقية هذا الصراع، بل فاقمته. فالرؤية الأميركية القائلة بضرورة تشكيل قوات سنية للحرس الوطني تتولى دور تحرير تلك المناطق ومسك الأرض فيها، عبّرت عن رغبتين: الاولى، تكريس النظام التوافقي القائم على مأسسة الهويات الاثنية والطائفية، باعتباره السياق الوحيد – المقبول والمفهوم أميركياً – لفكرة الشراكة. والثانية، حصر النفوذ الإيراني في اطاره الشيعي ومنعه من التوسع خارج حدود هذا الاطار. الدعوات الأميركية لاعادة هيكلة الجيش جاءت في هذا السياق، بوصفها محاولة لإعادة النفوذ الأميركي وتحديد طبيعة الجيش وعقيدته العسكرية.
في المقابل، برزت قوات الحشد الشعبي ليس فقط بوصفها "ظهيراً" للجيش، بل وبقدر أكبر كبديل هدفه مواجهة داعش بقوة شيعية مضمونة الولاء، وببناء عقيدي ينتمي الى التقاليد الايديولوجية للشيعية السياسية، وينسجم مع المصالح الايرانية. وأمام هذا التنافس، كان من الطبيعي أن يفقد الجيش، أكثر وأكثر، قدرته على أن يتحول الى قوة جدية على الأرض، لأنه لم يعد يمثل مصالح واضحة، وشرعيته تتعرض الى الطعن من جانب من يصفه بأنه جيش "طائفي" شيعي، كما من جانب من يصفه بأنه حليف محتمل للأميركيين.
في العام 2008، نشر باحث اسمه مايكل رير، كتاباً عن الصراع الاثني في العراق، جادل فيه بأن التدخل الدولي بعد انتفاضة العام 1991 في كردستان كان خياراً سيئاً، وأنه من الأفضل ترك الصراع ليُحسم لصالح الجماعة الأقوى، لأنه مهما كانت أعداد الضحايا في هذا الصراع، فانه سيكون أقل تكلفة من عدم حسمه "من الخارج". بالمثل، تَظهر بعض الأصوات المطالبة اليوم، صراحةً أو ضمناً، بترك الصراع الراهن يُحسم لصالح الطرف الأقوى. أخذت هذه الفكرة تنتقل من حيزها الأكاديمي الى الجدل المتعلق بالخيارات السياسية، حيث ظهرت أصوات تعتقد انه ليس من مصلحة الغرب دعم "الحشد الشعبي" ما دام قوة غير موالية سياسياً وايديولوجياً له، وأن أي منتصر في هذا الصراع لن يكون بأي حال صديقاً للغرب.
وإن كانت الحكومات الغربية لا تتبنى هذا الموقف صراحة، فليس سراً انها لا تمتلك موقفاً وديّا تجاه "الحشد الشعبي" وتتحفظ على مشاركته في القتال، خصوصاً في المناطق ذات الغالبية السنية. وقد فُهم هذا الموقف الغربي لدى قطاعات عراقية واسعة بأنه يجسد "دعم أو تساهل الغرب مع داعش"، وهو ما غذّى أيضا نظريات شعبية واسعة الانتشار عن أصل هذا التنظيم. وبالنتيجة، تعمَّق الانقسام حول سبل مواجهة داعش، وهذا يعيد بقوة طرح السؤال: هل يمكن للعراقيين أن يواجهوا داعش كعراقيين، لا كسنة وشيعة؟ وهل يمكن لهذه المواجهة أن تصنع عقيدة عسكرية مستقلة لجيش عراقي يحدد العدو والصديق وفق ظروف البيئة العراقية، لا بناء على خيارات الآخرين؟ لم تحسم بعد الإجابة على هذه الأسئلة، وكلما تأخر ذلك كلما بدا الطريق لمرحلة ما بعد داعش أكثر تعقيداً.
الجيش والهوية
تعيش منطقتنا صراع هويات عميقا اليوم، وهذا النوع من الصراعات مرتبط بحالة الكيانات غير المحسومة، اي الكيانات التي لم تُجذِّر وجودها الوطني بعد، وتختلف فيها المفاهيم حول تحديد معنى الوطن و "أساطيره المؤسِّسة". لا تشتغل "الوطنية" في هذا السياق كفكرة محايدة على الطريقة الشعاراتية السطحية السائدة في التفكير الشعبي عن الأخوّة بين الجماعات، بل هي تنشط كموقف سياسي ذي حمولة ايديولوجية وانحياز ثقافي محدد.
ان الجيوش القوية اليوم كلّها تقاتل في سبيل "الوطن" والميثولوجيا المتمثلة به. ومهما كان تعقيد وعقلنة تلك المؤسسات، فان الشحن اللاعقلاني هو جزء من نشاطها في التعبئة والصراع. بهذا المعنى، ليس هنالك جيش هو في "جيناته" اكثر اخلاصاً من غيره، بل هناك جيش تقف وراءه هوية مستقرة وغير خاضعة للتحدي، وجيش يفتقر لتلك الهوية. وإخفاق مؤسسة الجيش في العراق هو تعبير عن غياب صيغة مهيمنة "للوطنية العراقية"، في الوقت الذي لم تثْبت الصيغة التفاوضية بعد قدرتها على تقديم بديل مختلف.
لذلك، يبدو ضعف الجيش في العراق تعبيراً عن مشكلة أعمق. فحتى تكتمل صيغة لوطنية عراقية جديدة، أكثر تماسكاً وأوسع شرعية، أو تنشأ صيغ لأوطان بديلة، سيكون من الصعب لمؤسسة عابرة للجماعات أن تنشأ وتكسب المشروعية في عيون هذه الجماعات جميعاً، بل وتسعى لاحتكار العنف "الشرعي" في داخل حدود البلد. وبمنطق المدرسة الواقعية، فان الجيوش الفعّالة تكتسب قوتها وشرعيتها عبر الصراعات التي تخوضها، لا عندما تصبح هي نفسها موضوعاً لصراع وتنافس الآخرين، كما هو حال الجيش العراقي.