المدن الخائفة

في الوقت الذي ظلّت كلمة "المستقبل" تحمل لزمن طويل دلالة إيجابية وتصوراً عن مكان أكثر أمناً وازدهاراً، حيث سبل العيش أكثر يسراً، فإنها اليوم كلمة ملتبسة، ومزعجة للكثيرين، وتحمل دلالات قدوم ما هو أسوأ في الفضاء العربي. وبالنسبة لمدن مثل بغداد والأنبار وحلب والموصل وصنعاء، فإن بعض عناصر سيناريو المستقبل القاتم هي اليوم جزء من حاضر سكانها. الحرب
2015-11-26

حارث حسن

باحث من العراق


شارك
ملاك الشاذلي-مصر

في الوقت الذي ظلّت كلمة "المستقبل" تحمل لزمن طويل دلالة إيجابية وتصوراً عن مكان أكثر أمناً وازدهاراً، حيث سبل العيش أكثر يسراً، فإنها اليوم كلمة ملتبسة، ومزعجة للكثيرين، وتحمل دلالات قدوم ما هو أسوأ في الفضاء العربي. وبالنسبة لمدن مثل بغداد والأنبار وحلب والموصل وصنعاء، فإن بعض عناصر سيناريو المستقبل القاتم هي اليوم جزء من حاضر سكانها.

الحرب والبزنس

لنتخيل مدينة كبيرة تتعرض لفيضان بعد هطول مفاجئ للأمطار، وفي الوقت نفسه هناك جماعتان مسلحتان تتبادلان إطلاق النار في الشوارع الغارقة، وجثث تطوف إلى جانب أكوام الزبالة المتروكة وقطع من أثاث البيوت التي دخلتها مياه الأمطار وهجرها أهلها، وهناك عصابات مسلحة تقتحم المتاجر مستفيدة من انهيار نظام المواصلات في المدينة بفعل الأمطار والعنف. وفي جانب آخر من المدينة، هناك مكان آمن يجتمع فيه سياسيون مع بعض رجال الأعمال وهم يتفاوضون على مشروع كبير لتأمين المنطقة التي يتواجدون فيها من الفوضى ومن "الغوغاء" و "الجوعى" و "الغاضبين" الذين صاروا في الآونة الأخيرة يقتربون أكثر من مقارّ إقامتهم، ويهددون أمن المنطقة الآمنة. يتفاوض السياسيون ورجال الأعمال أيضاً على بناء مطار يسهل عليهم السفر والتواصل مع العالم الخارجي.
يشبه هذا السيناريو مشاهد من فيلم War Inc. للمخرج جوشوا سيفتيل، الذي يبدو كفانتازيا واقعية لمدينة غارقة في الحرب والعنف، مع ازدهار نوع من البزنس يقوم على "إدارة الفوضى"، وتسيطر عليه عصابات من "السياسيين" و "رجال الأعمال"، بينما يُترك سكان المدينة لمصيرهم. بل انه، منذ صعود تنظيم داعش وتطبيعه لمشاهد الذبح والقتل الجماعي، وتجاوزنا - نحن المتلقين لنتاجه - حدود الصدمة مع البشاعات التي ارتكبها أو زعم ارتكابها، بدا أن عوالم War Inc أصبحت بالفعل جزءاً من حياتنا وحديثنا اليومي، بينما صار "احتواء" التنظيم، بما يعنيه ذلك من تعايش مع الفوضى التي يصنعها، جزءاً من الواقع اليومي للمنطقة، وللمدن التي يزحف اليها الخراب سريعاً.
الفيضان
لم يكن غرق مدن مثل الإسكندرية وبغداد وبيروت بسبب الأمطار مؤخراً إلا علامة اخرى على أزمة المدينة العربية، وإشارة الى نوع المشاكل التي ستحدد مستقبل هذا الجزء من العالم. ووسط الانشغال بالصراعات المسلحة القائمة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، والتنافس الإيراني - السعودي الذي فاقم الانقسام الطائفي في المنطقة وبعث الروح في لغة سياسية تستقي مفرداتها من الماضي، وولاءات تتشكل على أساس العصبية الدينية / المذهبية، فإن هذا الجزء من العالم ينزلق تدريجياً نحو مشاكل أكثر استعصاءً، تتطلب خططاً بعيدة المدى واستعداداً مبكراً وجهداً إقليمياً ودولياً، ورؤية مستقبلية. فالصراعات الراهنة هي في بعض سماتها عوارض لفشل الدولة وأنماط الحوكمة القائمة، وللتحول السريع في البنى الاجتماعية، والفراغ الثقافي الواسع الذي خلّفه انسحاب الدولة وانهيار المشروع التنموي لمصلحة النيوليبرالية وسياسات الهوية.
من المشاكل الكبرى التي سيكون لها أثر كبير على مستقبل المنطقة واستقرارها مشكلة التحول المناخي، حيث تشير الدراسات المناخية الى أن منطقة الشرق الأوسط ستكون عرضة لنقص حاد في الموارد المائية، وأحوال جوية متطرفة كالجفاف أو الفيضانات، ومزيد من التراجع في المساحات الصالحة للزراعة. سيكون لتلك التحولات تأثير في تصاعد التوترات بسبب شح المياه، وحدوث مزيد من موجات الهجرة بكل ما تحمله من ضغوط اجتماعية وسياسية واقتصادية، وفي الغالب صراعات حادّة على الموارد المتناقصة. إن أضفنا إلى ذلك التضخم الديموغرافي في بعض المدن، ووجود نسبة عالية من السكان الشباب والأطفال، فإن عوامل عدم الاستقرار وصعود النزعات "العنفية" مرشحة للتنامي.
ليس الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة المرشحة لهذا النوع من التحولات، لكنه من بين أكثر المناطق هشاشة وعجزاً عن صياغة سبل للتعامل معها. والسبب في ذلك هو الضعف المتزايد للدولة وقدرتها على إشباع حاجات السكان، وغلبة الطابع الزبائني في إدارة السياسات الوطنية والاقليمية، حيث تتحكم "الرشوة" في إدارة العلاقات السياسية، وتأطير الحوار الثقافي، وصياغة العلاقة بين النخبة المسيطرة والمجتمع، بينما تنجز القوى الدينية المتطرفة - الممولة أحياناً من تلك النخب - مهمة الإجهاز على التحركات الاجتماعية المطلبية ذات الطابع "العلماني" (بما هو تطلب مدني يسعى لفصل الدين عن شؤون الدولة، وإبقائه في الحيز المجتمعي). وكما ان سياسات الهوية في الغرب، كما يرى عالم السياسة أدولف ريد، تقدم خدمة للايديولوجية النيوليبرالية المهيمنة حتى وهي تدّعي العكس، فإن المعارضات الإسلاموية تخدم النخب المهيمنة في حصر الصراع الاجتماعي - السياسي في الحيز الثقافي، بين "إسلاميين" و "علمانيين"، بما يخلق أجندة منعزلة عن الهم الاجتماعي وفيها الكثير من الافتعال.

المدينة المتمردة

يزداد اهتمام المخططين الاستراتيجيين والمتخصصين بالصراعات والحروب الأهلية، بدراسة تمردات المدن. هنالك اتفاق على أن تغيراً مهماً حصل في طبيعة الحرب الأهلية خلال العقود الأخيرة، فبينما كانت معظم التمردات المسلحة تتركز في مناطق الأطراف، خصوصاً تلك التي تمتاز بصعوبة التضاريس وتتوفر فيها ملاذات آمنة للمتمردين، فإن الاضطرابات الجديدة والمستقبلية قد تتركز في المدن. يبدو هذا التحول نتيجة طبيعية للمستويات العالية من التمدين التي شهدها العالم خلال القرنين الأخيرين، حيث بات 54 في المئة من سكان العالم يعيشون في المدن، وتصل هذه النسبة في بلد مثل العراق الى حوالي 70 في المئة (كانت النسبة 30 في المئة في مطلع القرن العشرين). لكن التمدين وحده لا يكفي لتفسير تنامي الصراعات، بل يكمن السبب الأساسي في توقف تلك المدن عن النمو اقتصادياً والتطور تنموياً والتحول ثقافياً بما يوازي نموها الديموغرافي.
أشار تقرير صدر هذا العام عن مؤسسة الدراسات الأمنية التابعة للاتحاد الأوروبي، الى أنه وفق معايير التنمية البشرية، فسوريا اليوم عادت الى الوضع الذي كانت عليه قبل 37 عاماً، ولو افترضنا أن هذا التدهور سيتوقف اليوم (وهو ما لا يحتمل ان يحصل)، فإن هذا البلد سيحتاج الى النمو اقتصادياً بمعدل 5 في المئة، ولمدة 30 عاماً كي يستعيد قيمة الناتج القومي التي وصلها عام 2010.
لقد انتقلت إدارة السياسة في عالمنا من مقولات التنمية والتحديث، الى مقولات الهوية واللبرلة. وفي غضون ذلك، جاء العصر النفطي بنزعته الاستهلاكية وبميله الى علاقات التخادم النفعية والرشوة، وبإلغائه الحاجة الى بناء الإنسان المنتِج لمصلحة الانسان المشتري والكسول والمتعلق بالدولة بحبل الإعانات والرواتب، لتخلق البيئة المناسبة للتمرد القادم والاضطرابات المتوقعة، حينما لا يعود النفط قادراً على إدامة ماكينة الرشوة أو توزيع الفتات على الناس، وحينما تكون السياسة قد تحولت تماماً الى سلوكيات وأنماط علاقات قائمة على خدمة المصالح الشخصية، بغياب الهم الاجتماعي والافتقار الى أي مشروع تنموي.
لهذا السبب، يتنامى اتجاه يرى أن سؤال السياسة في المستقبل لا يتعلق بنوع "نظام" الحكم، بل بدرجة الحوكمة (Governance). فالمجتمعات التي تحظى بسيطرة أفضل على ظروفها وقدرة على معالجة مشاكلها والتحديات التي يفرزها عالم منتصف القرن الحادي والعشرين، هي الأقدر على حفظ الاستقرار والتضامن الاجتماعي. بل ان البعض ذهب الى مناقشة إمكانية "الحكم بدون حكومة"، أي التركيز على بناء الشبكات المحلية لإدارة المدن والمجتمعات الصغيرة كبديل من الدولة / الأمة الآخذة بالتراجع. وبالطبع ففي هذه الفرضية التي تبدو "تقنية" التباس لأنها توحي بتجاهل لعالم المصالح المكين والمتشابك والواسع الذي يقف وراء هيمنة تلك الأنماط من الحكومات اليوم، ويولّد "النظام" الحالي بمعناه العميق ((system.
بأي حال، تدخل المدينة العربية عالم التحول المناخي وتراجع الموارد والجفاف بأقل قدر من الاستعداد، وفي بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، بأدنى درجات الحوكمة. ليس ذلك قدراً، ولا يمكن الجزم باستمراره. فما زال بالإمكان إيقاف التداعي، والعودة الى نهج تنموي واقعي، لمواجة الأزمات القائمة والمحتملة.
صدرت مؤخراً دراسة نشرت في مجلة دولية تُعنى بشؤون المناخ، مضمونها أن أجزاء واسعة من الشرق الوسط ستغدو غير صالحة للسكن البشري بحلول نهاية القرن، بسبب تحولات المناخ وارتفاع درجات الحرارة. أثارت الدراسة ذعراً في منطقة الخليج المعنية أكثر من غيرها بتلك النتائج، ولأنها المنطقة الأبعد عن الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها بلدان المشرق العربي الاخرى. مثل هذه التنبؤات يمكنها أن تقودنا الى تغيير طريقة التعامل مع تحديات المستقبل، والبدء بجدل صحيح عن كيفية إدارة مدننا قبل أن تصبح خرائب مهجورة بلا مستقبل، فيما يجْهز "داعش" وأشباهه على الماضي والحاضر.

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

سقوط ''الخضراء'' في بغداد

حارث حسن 2016-05-12

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555...