السياسة الأميركية وسردية الدمقرطة العربية

مع حربٍ أهلية في سوريا، وسيطرة داعش على ثلث الأراضي العراقية، وحرب داخلية / إقليمية في اليمن، وحروب ميليشيات وقبائل في ليبيا، وتراجعٍ عن مبادئ وشعارات "يناير 2011" في مصر، يبدو مبرراً الاعتقاد بأنّ المنطقة تعيش مرحلة ما بعد الربيع العربي، وأنّ سرديّة "الدمقرطة ونهاية الطغيان" المتفائلة، التي سادت مع احتجاجات 2010-2011 ، قد تركت مكانها لصراعات عنيفة وإرهاب وفوضى، وعودة
2015-10-01

حارث حسن

باحث من العراق


شارك

مع حربٍ أهلية في سوريا، وسيطرة داعش على ثلث الأراضي العراقية، وحرب داخلية / إقليمية في اليمن، وحروب ميليشيات وقبائل في ليبيا، وتراجعٍ عن مبادئ وشعارات "يناير 2011" في مصر، يبدو مبرراً الاعتقاد بأنّ المنطقة تعيش مرحلة ما بعد الربيع العربي، وأنّ سرديّة "الدمقرطة ونهاية الطغيان" المتفائلة، التي سادت مع احتجاجات 2010-2011 ، قد تركت مكانها لصراعات عنيفة وإرهاب وفوضى، وعودة تدريجية لفكرة "الاستقرار" وأولوية "الأمن" على حساب فكرة التغيير. على الأقل هذا ما تصوره القادة العرب الذين بقوا من مرحلة ما قبل الربيع العربي وهم ينعون "ما يسمى بالربيع العربي" في قمتهم الأخيرة.
لكن أميركياً، يمكن تلمس تحول السرديات هذا بشكل أكثر تعقيداً، في ظل جدلٍ سياسي وإيديولوجي لم ينتهِ بعد عن أولويات الولايات المتحدة في المنطقة والعالم. ثمة إشارات مهمة إلى أنّه بقدر تعلق الأمر بالسياستين الأميركية والأوروبية في العالم العربي، فإنّ مرحلة ما بعد الربيع العربي قد بدأت منذ بعض الوقت.

أموال الديموقراطية

في مقالة نشرتها "واشنطن بوست" في كانون الأول/ ديسمبر 2014، لاحظ توماس غاروثيرز، نائب رئيس الدراسات في "وقف كارنيغي للسلام الدولي"، أن الميزانية المخصصة لدعم الديموقراطية تراجعت بنسبة 28 في المئة في ظل إدارة أوباما، وأنّ التخفيض كان حادّاً في ميزانية "وكالة التنمية الدولية" المسؤولة عن تمويل نشاطات "دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة"، حيث خسرت 38 في المئة من تمويلها منذ العام 2009. وبلغت حصة التخفيض في ميزانية "دعم الديموقراطية" المخصصة للشرق الأوسط 72 في المئة من التخفيض الكلي، بشكل يعكس تراجعاً ذا دلالة عن نهج "دعم الديموقراطية" في المنطقة، خصوصاً أنّ التراجع حصل في الفترة ذاتها التي شهدت "انتفاضات الربيع العربي". والملاحظ أن مجموع ما خُصص لدعم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة في الميزانية الأميركية لعام 2014 لم يتجاوز 860 مليون دولار، أي أقل من المبلغ الذي خصصه الملياردير جورج سوروس لدعم هكذا نشاطات.
في المقابل، تشير التقارير إلى أنّ التخصيصات المالية لمكافحة الإرهاب التي تمثل جزءاً من ميزانية المخابرات والأمن الوطني بلغت 17.25 مليار دولار في 2012 و 16.6 مليار دولار في 2013 . وتوحي هذه الأرقام أنّ هناك غلبة للفهم الأمني على معالجة قضية الإرهاب، وهي غلبة مرتبطة بحقيقة أنّ الولايات المتحدة، وبوصفها القوة العظمى الوحيدة، تميل إلى التصرّف كقوة محافِظة هدفها منع ودحر الأخطار التي تواجه مصالحها والنظام العالمي للقوة، ولذلك فهي تعطي الأولوية لـ "أمن" النظام لا للعوامل التي قد تدفع إلى تغيير النظام ومعادلات توزيع القوة فيه.
لكن من المهم هنا محاولة فهم الجدل الأميركي الداخلي، بجانبيه الفكري والسياسي، من أجل استيعاب الجوانب المختلفة للقضية. يقول نافين بابات، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كارولينا الشمالية، في الرد على من يجادل بأن الولايات المتحدة يجب ان تواجه "الإرهاب العالمي" بدعم الدمقرطة، أنّ الأدلّة العملية تشير إلى أنّ الدمقرطة تزيد في الحقيقة من العنف السياسي، مما يطرح السؤال: "لماذا على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يدعموا التحول الديموقراطي إذا كان هذا الخيار ينطوي على المخاطر؟".
في مواجهة هذا التصور، جادل كثيرون في الوسطين الأكاديمي والسياسي، وتحديداً منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، بأنّ التحول الديموقراطي يؤدي إلى دحر الإرهاب على المدى الأبعد. ففي كتاب عن "الاقتصاد السياسي للإرهاب" صدر في العام 2006، ذكر كلّ من أنديرز وساندلير بأنّ الأنظمة الديموقراطية الناضجة والقائمة على التمثيل النسبي، أقدر على الحد من "الإرهاب"، لأن الأنظمة السلطوية التي دعمتها الولايات المتحدة لمواجهة الجماعات الاسلامية المتطرفة ليس لديها حافز لإنهاء الإرهاب نظراً لأن ذلك سيفقدها الدعمين المالي والعسكري الغربي. وقد تبنت وزيرة الخارجية السابقة ومرشحة الرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون، وجهة النظر هذه حين صرّحت بأنّ "المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط ليس مطالب التغيير، بل مقاومة التغيير".
يجري هذا الجدل بين "الواقعيين" الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أنْ تركّز في توجيه مواردها، المحدودة اليوم، نحو أهداف واضحة ومحددة، وألاّ تنغمس في قضايا التحول الديموقراطي وبناء الأمة في بلدان أخرى، وبين من يعتقد أنّ لا وجود لحل عسكري لأزمات المنطقة ما لم يكن مرفقاً بتحول عميق في أنماط الحكم والإدارة يقوم على الدمقرطة واللامركزية. وقد حاول الرئيس أوباما تبني مقاربة تجمع بين الموقفين، لكن ثمة ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأنّ الرؤية الأمنية تميل في العادة إلى فرض نفسها، نظراً لأنها الأسهل ولأنها تغذي شبكات مصالحة راسخة، ولأن "دمقرطة العالم" ليست أولويّة لدى الناخب الأميركي اليوم، كما أشار استطلاع أجراه "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" عام 2012، حيث اعتبر 14 في المئة فقط من الأميركيين أن دعم الديموقراطية في بلدان أخرى هو أمر مهم جداً.

أي ديموقراطية؟

ما زال الجدل الأميركي حول قضية الديموقراطية ونشرها، وهو إلى حد كبير جدل أيديولوجي، يعكس وإن على نحوٍ أكثر تعقيداً، الاختلاف بين التيار الفكري الذي مثّله جون آدامز، ثاني رئيس أميركي، حين قال مرة إنّ أميركا هي "صانعة حريتها" وحدها، وهو موقف عنى ضمنياً أنها غير معنية بحريّة الآخرين، وبين التيار الذي عكسه توماس جيفرسون الذي قال إنّ أميركا هي "إمبراطورية حرية آخذة بالاتساع". وجّهت فكرة "الاستثناء الأميركي" القائلة بأنّ لدى الولايات المتحدة مسؤولية عالمية لنشر قيمها بوصفها "قيما كونية"، طريقة التفكير لدى النخب الأميركية، وأصبحت هذه الفكرة جزءاً من إحساس الولايات المتحدة بهويتها كما يقول "نيكولاس بوكيت" الذي درس مسألة دعم الديموقراطية في السّياسة الأميركية. يضيف بوكيت انه نادراً ما كان هناك رئيس أميركي انحرف عن سردية الاستثناء الأميركي، وعن كون الديموقراطية والحرية مُثُلا كونية يجب أن تدعمها الولايات المتحدة، لكن تحويل تلك الأفكار إلى رؤية استراتيجية ومن ثم ترجمتها إلى سياسة عملية كانا على الدوام شيئاً آخر. فالديموقراطية لم تكن من الناحية العملية أولوية أميركية قصوى. هي حاضرة في الذهن بوصفها النموذج الأسمى، لكنها ليست هدفاً أساسياً يضعه صانع السياسة الأميركية حين يحدد مواقفه من الآخرين.
ليست هذه قضية مفاضلة مبسطة بين "المصلحة" و "المثل" كما يتصور البعض. فمعظم دراسات العلاقات الدولية الحديثة تخلت عن هذه الثنائية منذ بعض الوقت، وصارت تعتبر الهويات والأفكار والمؤسسات.. إلى جانب المصالح المجرّدة، عوامل تتفاعل مع بعضها في تحديد تفضيلات الدول. وبهذا المعنى، ليس صحيحاً الجزم بأنّ السياسة الأميركية تريد أنظمة سلطوية في منطقتنا، بل الصحيح أنّها ستميل على الأرجح إلى تفضيل نظام ديموقراطي ينسجم معها على نظام سلطوي ينسجم معها، فأولويتها في الحالتين هي أن يكون النّظام "منسجماً معها".
بهذا المعنى، فإن التعريف الأميركي لـ "الدمقرطة" نادراً ما انفصل عن مصلحة الولايات المتحدة وتعريفها لدورها العالمي والإقليمي، أي أنّ الدمقرطة فهمت بوصفها عملية لتأكيد التفوق والزعامة الأميركيين وليس نقضهما. لذلك تظل تلك الدمقرطة مشروطة مثلاً بأن تكون ليبرالية ومبنية على الاقتصاد الحر، وألاّ تتحدى بُنى القوة الأساسية في النظام العالمي، لكي تكون بالنتيجة نوع الدمقرطة المدعومة أميركياً. وبالتالي، فإنّ تراجع سردية الدمقرطة في منطقتنا ليس تخلياً عن الفكرة بذاتها، بل نتاج لإدراك أنّ شروط دمقرطة من هذا النوع لم تتوافر بعد.

ما بعد "البوشية"

يمكن القول إن الولايات المتحدة دخلت مع أوباما مرحلة ما بعد "البوشية"، باعتبار سياسة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش كانت تمثل التعبير الأقصى عن صعود سردية الدمقرطة (والتصور الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة) بأنّ الولايات المتحدة تستطيع نشر نموذجها للديموقراطية بعد انهيار منافسها الإيديولوجي، الاتحاد السوفياتي، الذي كان يعتمد تعريفاً مختلفاً بشكلٍ جذري للنظام الأمثل للحكم. كان لحرب العراق وتكلفتها العالية أثر كبير في التمهيد لمجيء رئيس يُعلن بأنّ الولايات المتحدة يجب ألا تنهمك في عمليات بناء الأمّة في الخارج وتركز على بناء الأمّة في الداخل، ويقول إنّه يفكر "بالاستثناء الأميركي بوصفه شيئاً مشابهاّ لاعتقاد البريطانيين بوجود استثناء بريطاني، واعتقاد اليونانيين بوجود استثناء يوناني". قطعاً، لم يتراجع أوباما عن فكرة الاستثناء الأميركي، لكنه حاول أن يمنحها أبعاداً تتناسب وأولويات سياسته التي ابتدأت بوعد الانسحاب من العراق.
ظلّت إدارة أوباما ملتزمة بالدعم الخطابي لفكرة الديموقراطية، إلّا أنّها عملياً تشعر بأنّ العالم هو مكان غير مستقر بما يكفي، وعليها تجنب الدفع بعنصر عدم استقرار اضافي تمثله دمقرطة غير محسوبة النتائج. إنّ معظم التحولات التي تشهدها منطقتنا والعالم تشكل تحدياً للأنظمة السلطوية التي تقاوم التغيير، لكنها أيضاً تتحدى الفهم الإيديولوجي السائد أميركياً عن الدمقرطة بوصفها أساساً مشروعاً لإنتاج نخب سياسية وثقافية واقتصادية تتطابق مصالحها وينسجم سلوكها مع نموذج نيوليبرالي للحكم وإدارة الاقتصاد. هذا النموذج، وكما يجادل الفيلسوف السلوفيني سلافيك جيجيك، يواجه نتائجه الكارثية مع أزمات عالمية عميقة متداخلة، كتغير المناخ والجفاف والهجرة وعدم الاستقرار وتنامي الإرهاب وتصاعد اليأس من قدرة النموذج المهيمن على مواجهة المشاكل القائمة.
لذلك ثمة ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأّن تراجع سردية الدمقرطة في منطقتنا، مصدره الحاجة إلى طريقة تفكير جديدة بمعنى الديموقراطية، غير تلك التي فضّلتها السياسة الأميركية وتبنتها النخب التي تصورت أنّ الديموقراطية مجرد تغيير فوقي وليست إعادة بناء كلية للمجتمع السياسي. 

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

سقوط ''الخضراء'' في بغداد

حارث حسن 2016-05-12

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555...